مع مرور خمسة أعوام على بدء الانتقال السياسي في السودان، عقب إزاحة نظام البشير عن الحكم ودخول السودان في مرحلة انتقالية بالغة الاضطراب والتعقيد، شهدت تحولات ومراحل وعثرات أفضت في نهاية المطاف إلى الوصول إلى أفق مسدود بنشوب الصراع المسلح بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع، على نحوٍ نقل مستوى أزمات الانتقال سياسية إلى أزمات بنيوية تواجه تماسك الدولة نفسها؛ أصدر المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية عام 2024، كتاب ” أزمة الدولة السودانية بين الانتقال السياسي المتعثر والصراعات المسلحة”.
وجاء إصدار هذا الكتاب كحصيلة متابعة مستمرة على مدار السنوات الخمس الماضية، هي عمر الانتقال السياسي في السودان، أولى خلالها المركز اهتمامًا مفصلًا بكافة التحولات والتطورات لقضايا الانتقال السياسي بالسودان، مما وفّر مرجعية لكتاب يتناول بشيء من التفصيل والتتابع، كافة القضايا المرحلية التي شهدتها السودان، حتى اللحظة الراهنة التي فرضت واقعًا جديدًا من الصراع، يتطلب معه التعلم من الدروس الماضي، للبحث في آفاق الخروج من الأزمة.
وينقسم الكتاب إلى أربعة أقسام، يتناول القسم الأول منها حصاد العام الأول للانتقال السياسي، ويركز هذا القسم على المراحل المبكرة للانتقال السياسي، من خلال تسليط الضوء على الاتفاق المؤسس للشراكة المدنية العسكرية، كما عبّرت عنه الوثيقة الدستورية الصادرة في أغسطس 2019، وما تلاها من اتفاقات مؤسسة للانتقال السياسي، وتحديدًا اتفاق جوبا للسلام في أكتوبر 2020. ويركز هذا القسم على الإجراءات المؤسسية والقانونية المتخذة لتشكيل هياكل إدارة المرحلة الانتقالية واتفاقات تقاسم السلطة، وخاصة تشكيل المجلس السيادي الانتقالي ومجلس الوزراء، وما صاحبهما من تقدم بطيء في ملفات إدارة الحكم.
وعلى التوازي، تناول هذا القسم الإشكاليات الأمنية المتعلقة بقضايا السلام ودمج الحركات المسلحة، مع تفجر الصراعات القبلية من جهة، وتصاعد التوترات الأمنية داخل المؤسسات الأمنية، وما شهدته تلك الفترة من تفجر الصراعات مرة أخرى في دارفور، تزامنًا مع التحولات التي طرأت على دور بعثة حفظ السلام الأممية في دارفور، علاوة على تلك التحديات المرتبطة بالأزمات الاقتصادية والتحديات التي أعاقت أداء الحكومة الأولى لرئيس الوزراء عبد الله حمدوك، بالإضافة إلى ما طرأ من تحولات على السياسة الخارجية السودانية، والتي شهدت قضايا وسمات مستجدة، كان أهمها الجهود المبذولة لإزالة السودان من القوائم الدول الراعية للإرهاب، ومساعي توسيع دوائر السياسة الخارجية والانخراط في النظام الدولي بما يدعم الأهداف الاقتصادية السودانية.
بينما يسلط القسم الثاني الضوء على أزمات الهامش المتصاعدة، في ضوء أزمات المركز والهامش المزمنة التي يعاني منها السودان، والتي تفجّرت في أعقاب اتفاق جوبا للسلام، مما هيأ الفرصة للتركيز على أقاليم الهامش السودانية المختلفة، خاصة في ضوء اتفاق جوبا للسلام، الذي تناول قضايا السلام في إطار مسارات مناطقية، تركز على الأقاليم المختلفة.
وتناول هذا القسم، مسار شرق السودان لما أثاره من تفاعلات مع قضايا الانتقال السياسي في السودان، أدت في نهاية المطاف إلى الضغط على الحكومة الانتقالية وصولًا إلى الإطاحة بها في أكتوبر 2021، وعلى نفس المنوال، تم تناول كافة مسارات اتفاق جوبا للسلام، بما في ذلك مسارات الشمال ودافور والمنطقتين. وتشابهت قضايا الانتقال التي تناولتها مسارات السلام، والتي تركزت على قضايا العدالة الانتقالية، وقضايا الأرض وتقاسم الموارد، فضلًا عن قضايا تقاسم السلطة وقضايا الترتيبات الأمنية التي تعد العقبة أمام إحلال السلام بالبلاد.
فيما يركز القسم الثالث على الأزمات السياسية والانزلاق للعنف، والذي تفاقم في أعقاب الإطاحة بحكومة عبد الله حمدوك في أكتوبر 2021، والذي شهد مؤشرات مبكرة على الانزلاق السياسي للعنف، بما في ذلك تفجر الانشقاقات السياسية داخل المكونات المدنية والعسكرية على السواء. واتسمت هذه المرحلة بتصاعد الاحتجاجات والانقسامات داخل القوى المدنية، الضاغطة لخروج المكون العسكري من المشهد، في إطار الخلافات التي ثارت بين الحرية والتغيير والمكون العسكري من جهة، والانقسامات التي اعترت قوى الحرية والتغيير نفسها.
ومهدت هذه المرحلة لسيناريو المعركة المؤجلة بين القوات المسلحة وقوات الدعم السريع، إذ انتقلت الخلافات العسكرية إلى الساحة السياسية، ورغم إعلان المكون العسكري عن انسحابه من المشهد وترك أمر تشكيل حكومة مدنية، بعد اخفاق مساعي الآلية الثلاثية في تلك المرحلة بإقناع الأطراف بالجلوس للتفاوض. واستمرت المحاولات لتوقيع اتفاق شراكة مرة بين المكونين المدني والعسكري بعد قرارات فض الشراكة في أكتوبر 2021، حتى تم توقيع الاتفاق الإطاري في الخامس من ديسمبر 2022، بين المجلس السيادي وقوى الحرية والتغيير، وهو الاتفاق الذي أعقبه تفجر الصراع في إبريل 2023، بين القوات المسلحة وقوات الدعم السريع، على خلفية قضايا الدمج والتسريح.
وأخيرًا، يتعرض القسم الرابع لتفجر الصراع بين القوات المسلحة والدعم السريع، في إبريل 2024، بعد الخلافات التي أثيرت حول إشكاليات دمج القوات المسلحة، وهي المرحلة الممتدة حتى وقتنا الراهن، منذ تفجر الصراع الذي أنهى كافة مراحل وأسس الانتقال على مدى السنوات الماضية، وفرض واقعًا جديدًا، في ظل القضايا الخلافية التي صاحبت توقيع الاتفاق الإطاري، بما في ذلك قضايا العدالة الانتقالية، وقضايا شرق السودان، والتي لم يعالجها الاتفاق، التي اتخذ نفس منطق وثائق تقاسم السلطة التي حكمت المراحل الأولى للمرحلة الانتقالية.
وأخيرًا، سلط الجانب الأخير الموقف من الصراع العسكري المستمر لأكثر من عام، بما في ذلك موقف الأطراف السياسية داخليًا، والقوى الإقليمية والدولية، وما تحمله الأزمة من اتجاهات ميدانية وسياسية منذ نشوب الصراع، وحتى صدور الكتاب، بما يعطي رؤية شاملة عمّا مرّت به الأزمة الانتقالية في السودان، على مدار خمسة أعوام من الانقسامات والعثرات، التي تطرح واقع أزمات الانتقال السياسي في الدول الأفريقية، وبما يمنح رؤية يمكن من خلالها بناء تصور عن سبل وآليات الخروج من الأزمة.
.