أصدرت المحكمة الدستورية العليا في نوفمبر 2024 حكمًا تاريخيًا بعدم دستورية الفقرة الأولى من المادتين الأولى والثانية في قانون الإيجار القديم الصادر في عام 1981، وقد تضمنت تلك المواد ثبات القيم الإيجارية السنوية للأماكن المرخص إقامتها لأغراض سكنية، ودعت مجلس النواب إلى تعديلها قبل انتهاء الفصل التشريعي الحالي، وقد استند الحكم إلى حيثيات تتمثل في أن “ثبات القيم الإيجارية عند لحظة من الزمان ثباتًا لا يزايله مضي عقود على التاريخ الذي تحددت فيه، ولا تؤثر فيه زيادة معدلات التضخم وانخفاض القوة الشرائية لقيمة الأجرة السنوية – يشكل عدوانًا على قيمة العدل وإهدارًا لحق الملكية”؛ حيث حدد القانون سقفًا لزيادة الإيجار السنوي عند 7% من قيمة الأرض عند الترخيص، والمباني طبقًا للتكلفة الفعلية وقت البناء.
خلال فترة الستينيات والسبعينيات من القرض الماضي، شهدت مصر تغيرات اقتصادية وسياسية كبيرة كان لها تأثير مباشر في وضع الإسكان في مصر وأسعار الإيجارات؛ حيث شهدت فترة الستينيات حركة تأميم واسعة وتوسع لدور القطاع العام في الاقتصاد، وقد نتج عن تلك السياسات نقل ملكية العديد من العقارات إلى الدولة، وإعادة توجيه الموارد نحو الإسكان الشعبي والخدمات الاجتماعية، وفي السياق نفسه شهدت تلك الفترة زيادة سكانية كبيرة؛ الأمر الذي دفع لزيادة الطلب على الوحدات السكنية خاصة في المدن الكبرى مثل القاهرة والإسكندرية، كما شهدت المدن موجات من الهجرة من الريف إلى الحضر؛ الأمر الذي زاد الضغط على العقارات المتاحة للمواطنين ورفع تكلفة الإسكان.
وفي ظل سعي الدولة المصرية للحفاظ على الاستقرار الاجتماعي وحماية الفئات ذوي الدخل المحدود خاصة في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة للكثير من المواطنين والتي عانت منها مصر بعد الدخول في حربين في أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات من القرن الماضي؛ الأمر الذي تسبب في انخفاض في فرص العمل وارتفاع البطالة، والارتفاع في معدلات التضخم والنقص الملحوظ في توافر الاحتياجات من المواد الاساسية، والتغير في السياسات الاقتصادية للبلاد نحو الانفتاح الاقتصادي في عهد الرئيس أنور السادات، وهو ما كان له أثر في ارتفاع أسعار السلع الأساسية ومواد البناء ودفع الحكومة لمحاولة التحكم في أسعار الإيجار كوسيلة لحماية المستهلكين من الارتفاع المتزايد في تكاليف المعيشة.
كل تلك العوامل كانت سببًا ودافعًا قويًا وراء وضع قوانين صارمة تتمثل في قانون الإيجار القديم الذي تم وضعه لضمان توفير السكن بأسعار معقولة وحماية المستأجرين من الارتفاعات المفاجئة أو غير المبررة في القيم الإيجارية، بهدف حماية المستأجرين وتثبيت أسعار الإيجارات حتى لا يصبح السكن عبئًا كبيرًا على الأسر متوسطة ومحدودة الدخل، خاصة في ظل حالة عدم التوازن بين العرض والطلب على الوحدات السكنية.
قوانين الإيجار القديمة
قانون الإيجار القديم في مصر والذي يعرف رسميًا باسم “قانون إيجار الأماكن”، هو قانون صدر بعدة نسخ من القوانين والتشريعات عبر السنين، إذ كان هناك عدد من التعديلات وإصدارات لقوانين متتالية لتنظيم الإيجارات وأهمها، قانون رقم 49 لسنة 1977 والذي يعرف باسم قانون تنظيم العلاقة بين المؤجر والمستأجر؛ حيث وضع هذا القانون لتنظيم الإيجارات ومنع الارتفاعات الكبيرة في أسعار الإيجار وتحديد آلية توريث عقود الإيجار، ثم صدر قانون رقم 136 لسنة 1981 (القانون موضوع التعديل) والذي جاء كتعديل للقانون السابق، وقد تم إدراج بعض التعديلات مثل إعادة ضبط قيمة الإيجارات لوحدات جديدة وتحديد قوانين الإخلاء لبعض الحالات، تلى ذلك القانون صدور قانون رقم 4 لسنة 1996 والذي يعتبر تحولًا مهمًا؛ حيث بدأ بإلغاء العمل بقانون الإيجار القديم للوحدات الجديدة التي تم تأجيرها بعد صدور ذلك القانون، ليتم تنظيمها وفقًا لعقد بين الطرفين (عقد محدد المدة وقابل للتجديد أو الإنهاء حسب الاتفاق)، وتعتبر القوانين السابقة من أهم التشريعات التي أثرت في منظومة الايجار القديم في مصر؛ حيث إنها حاولت تحقيق التوازن النسبي بين حقق الملاك والمستأجرين، إلا أن قانون رقم 49 لسنة 1977 يعتبر القانون الأبرز والأكثر تأثيرًا في العلاقة الإيجارية للعقارات التي تم تأجيرها في فترات بين السبعينيات والثمانينيات.
من المستفيد؟
ينظر لقانون قانون الإيجار القديم على أنه لا يحقق العدالة بين المؤجرين والمستأجرين، خاصة أن ذلك القانون تحيز لصالح الفئات ذوي الدخل المتوسط والمحدود، الذي واجهوا تحديات اقتصادية صعبة بسبب الارتفاع في التضخم وارتفاع تكاليف المعيشة في فترة الستينيات والسبعينيات (كما سبق الإشارة)؛ حيث وفر ذلك القانون حماية قوية للمستأجرين من الارتفاعات المفرطة في أسعار الإيجارات؛ الأمر الذي أسهم في تثبيت تكاليف السكن لسنوات طويلة لكنه أهدر ثروة عقارية مصرية لعقود من الزمن ومنع أصحاب تلك العقارات من الانتفاع بها خاصة في وجود جزء من تلك العقارات غير مستغل؛ إذ سمح قانون الإيجار القديم بالتجديد التلقائي لتلك العقود وبالتوريث، وفي هذا السياق تجدر الإشارة إلى أنه يوجد بمصر حوالى 2.8 مليون وحدة سكنية خاضعة لقانون الإيجار القديم، وفقًا لبيانات وزارة الإسكان المصرية. هذه العقود غالبًا ما ترتبط بإيجارات رمزية؛ نظرًا لأن القوانين القديمة كانت تحدد الإيجار بمبالغ ثابتة منذ عقود.
تلك العقارات المؤجرة تواجه تحديات قانونية وتنظيمية عديدة تتمثل في ضعف القيمة الإيجارية؛ حيث يثبت القانون القديم للإيجارات بمصر الإيجارات عند قيم منخفضة لا تعكس التغيرات في قيمة العقارات أو التضخم؛ مما يؤدي إلى فقدان العقارات لقيمتها الاقتصادية وانخفاض العوائد للملاك، وهو الأمر الذي لا يحقق التوازن بين حقوق المالك والمستأجر؛ حيث يميل القانون القديم إلى حماية المستأجر بشكل مفرط؛ مما يؤدي إلى تقويض حقوق الملاك في التصرف الحر بعقاراتهم، سواء عبر بيعها أو تعديل استخدامها، هذا فضلًا عن إتاحة القانون القديم التوريث التلقائي للعقود؛ حيث يسمح القانون بتوريث عقود الإيجار من المستأجرين إلى أفراد أسرهم؛ مما يؤدي إلى استمرار الأوضاع غير المتوازنة لفترات طويلة، ويمنع السوق من تجديد العقود بأسعار عادلة، بالإضافة إلى التحديات القانونية في الإخلاء؛ حيث إن القانون القديم يصعب على الملاك إخلاء المستأجرين بسبب الشروط المعقدة والإجراءات القضائية المطولة؛ مما يثني المستثمرين عن الدخول في السوق العقاري القديم، وتدهور حالة العقارات؛ حيث إنه بسبب انخفاض العوائد، لا يملك الملاك الموارد الكافية لصيانة العقارات أو تحسينها، ولا يرغب المستأجرين في الإنفاق على المصروفات الخاصة بعملية الصيانة للعقارات بحكم أنهم ليسوا ملاكًا؛ مما يؤدي إلى تدهور البنية التحتية.
تحديات أخرى تواجه ذلك القانون تتمثل في التحديات الإدارية والتي تتمثل في نقص آليات المراقبة والتقييم لتحديد حالات العقارات وقيم الإيجار المناسبة. كما أن البيروقراطية تعيق إصلاح الوضع القانوني للعقود القديمة، والأثر السلبي لذلك القانون (قانون الإيجار القديم) في جاذبية القطاع العقاري للاستثمار المحلي والأجنبي؛ حيث يفضل المستثمرون عقود الإيجار الجديدة التي توفر مرونة في التفاوض، وزيادة العبء القضائي المرتبط بالفصل في المنازعات المرتبطة بالقانون القديم في زيادة عدد القضايا في المحاكم؛ مما يؤدي إلى استنزاف الوقت والموارد.
التعويض الاجتماعي
بالتأكيد سيواجه المستأجرين بنظام قانون الايجار القديم تحدٍ كبير خاصة أمام التعديلات المطروحة، خاصة إذا ما وضع بالاعتبار المستوى الاجتماعي لبعض من قاطني تلك العقارات، وهو ما يتطلب استحداث برامج دعم اجتماعي للمتضررين من تعديلات قانون الإيجارات؛ الأمر الذي يسهم في تحقيق التوازن الاجتماعي والاقتصادي؛ حيث يساعد هذا الدعم على تخفيف الأعباء المالية الناجمة عن زيادة الإيجارات أو التكاليف السكنية، يمكن أن تكون تلك البرامج في شكل برامج دعم مباشر، مثل الإعانات المالية أو القروض منخفضة الفائدة، يمكن للمستأجرين الانتقال إلى مساكن بديلة تتناسب مع قدراتهم المالية؛ مما يقلل من احتمالية تعرضهم للإخلاء القسري أو التشرد. إضافة إلى ذلك، يُعزز الدعم من استقرار الأسر ذات الدخل المحدود، ويسهم في تحسين جودة حياتهم من خلال تأمين بيئة سكنية أكثر استدامة وملاءمة، على الجانب الآخر، يعزز الدعم الحكومي والاجتماعي للمستأجرين من ثقة المواطنين في العدالة الاجتماعية ودور الدولة في حماية الفئات الأكثر تضررًا. ويؤدي ذلك إلى تقليل التوترات المجتمعية التي قد تنتج عن التعديلات القانونية؛ حيث يشعر الجميع بأن حقوقهم محمية وأنهم ليسوا معرضين للإهمال. كما يسهم في خلق علاقة أكثر توازنًا بين المالك والمستأجر؛ مما ينعكس إيجابًا على استقرار المجتمع وتحقيق التكافل الاجتماعي.
آليات التمويل
في ظل وضع المالية العامة والعجز الذي تعاني منه الموازنة العامة للدولة، يعتبر البديل الخاص بصرف تعويضات للمتضررين من تغيير ذلك القانون غير واقعي، ومن ثَمّ فإن البحث عن مصادر تمويل بديلة من خارج الموازنة العامة للدولة يعتبر السيناريو الأكثر واقعية هو الحصول على رسوم من المنتفعين من تعديل ذلك القانون لتعويض المتضررين منه، وهو ما يعني أن يتم تمويل برنامج دعم المستأجرين المتضررين من تعديلات قانون الإيجارات من خلال إشراك ملاك العقارات المستفيدين من استرداد عقاراتهم. يتم ذلك عبر مطالبة الملاك بسداد نسبة من ثمن العقار المستعاد إلى صندوق خاص تديره الدولة، على أن تُستخدم هذه الحصيلة في تمويل برنامج دعم سكني شامل للمستأجرين المتضررين؛ إذ يمكن فرض نسبة تتراوح بين 5% و15% من القيمة السوقية للعقار إلى الصندوق، ويتم تحديد تلك النسبة بناءً على معايير مثل الموقع وقيمة العقار الحالية، ولتشجيع الملاك على الالتزام بالإسهام، يمكن منحهم حوافز مثل تخفيض النسبة المفروضة على الضرائب العقارية إذا تم السداد خلال فترة زمنية محددة، ويمكن استخدام الحصيلة التي سيتم تجميعها بهذا الصندوق في تقديم برامج متعددة؛ مثل: إعانات إيجار مؤقتة، قروض ميسرة لتغطية تكاليف الانتقال أو تأمين سكن بديل، دعم مباشر للأسر الأكثر احتياجًا، على أن يتم تقديم ذلك الدعم للمستأجرين خلال فترة انتقالية مدتها 1-3 سنوات، بما يتيح لهم التكيف مع الظروف الجديدة.
يسهم هذا المقترح في زيادة حصيلة الدولة من خلال إيرادات إضافية ناتجة عن إسهامات الملاك المستفيدين، دون فرض أعباء ضريبية جديدة على عموم المواطنين. هذه الإيرادات تُستخدم لتمويل برامج دعم السكن الاجتماعي؛ مما يعزز قدرة الدولة على تقديم الدعم الانتقالي للمستأجرين المتضررين. كما يحقق المقترح عدالة اجتماعية من خلال التوازن بين حقوق الملاك والمستأجرين؛ حيث يستفيد الملاك من استعادة العقارات وفقًا للقيمة السوقية، مع تحمل جزء من المسئولية الاجتماعية تجاه المتضررين. بالإضافة إلى ذلك، يشجع المقترح على استدامة السوق العقاري من خلال إعادة العقارات إلى قيمتها الحقيقية، وتحفيز الاستثمار في تطويرها وصيانتها، مما ينعكس إيجابًا على النشاط الاقتصادي.
قد يواجه المقترح اعتراضات من الملاك بشأن الالتزام بسداد النسبة المحددة، ويمكن التغلب على ذلك عبر تقديم حوافز، مثل تقديم تخفيض نسبي على الضريبية العقارية أو تقسيط المبالغ المستحقة على فترات زمنية ميسرة. كما يمكن أن تظهر صعوبة في تقييم القيمة السوقية للعقارات بدقة، ويمكن معالجة هذا التحدي من خلال الاستعانة بخبراء تقييم عقاري معتمدين ووضع معايير موحدة لضمان الشفافية والعدالة. بهذه الآليات، يصبح المقترح قابلًا للتطبيق ويحقق التوازن المطلوب بين المصالح الاقتصادية والاجتماعية.