فقدت “داعش” بريقها وجاذبيتها بعد هزائمها المتتالية، في سوريا والعراق، وغدت طاردة بعد أن كانت دار هجرة، لتترك المقاتلين الأجانب فيها يبحثون عن ملاذ لهم في ظل خيارات محدودة ومخاطر تظل محتملة، بعد أن كانت ملاذًا لهم. والواقع أن أعداد المقاتلين في صفوف داعش قد تراجعت إلى بضعة آلاف قليلة، خلال المعارك الأخيرة، قبل وبعد سقوط الرقة في 17 أكتوبر 2018، في يد قوات سوريا الديمقراطية (قسد) بعد مرور نحو أربعة أعوام على إعلان عاصمةٍ لخلافة التنظيم المزعومة، وبعد عام من سقوط “دابق” التي كانت وعد حروب آخر الزمان التي جندت به “داعش” الآلاف من المقاتلين الأجانب بصفها، وجعلته اسمًا لمجلتها بالإنجليزية التي تستهدفهم، والتي توقفت لبعض الوقت بعد خسارة التنظيم كثيرًا من كوادره.
بدأت عمليات قوات سوريا الديمقراطية في الرقة “قسد” في 6 يونيو 2017، حتى نجحت في السيطرة على معظم قرى وبلدات المحافظة، وبينما تنجح العناصر والكوادر المحلية التي انضمت للتنظيم في الذوبان في مجتمعاتهم أو العودة لمناطقهم، وهو ما حدث في ليبيا بعد سقوط سرت، حيث ذاب المقاتلون المحليون في بلادهم ووسط قبائلهم؛ فقد تم القبض على بعض الأجانب، وتوجه البعض بعملياته وخططه إلى مصر كما يرجح في تفسير بعض العمليات الأخيرة. أما المقاتلون الأجانب الذين عاشوا في جيتوهات “داعش” وكتائبها الموزعة على جنسيات عديدة فيواجهون صعوبة بل استحالة في هذا الذوبان! لاختلاف اللغات والثقافات والأشكال، وأيضًا للقسوة التي عُرف بها كثير منهم، وعدم إمكانية التعاطف معهم في الآن نفسه، وهو ما يتضح في عدم شمول الاتفاق العفو عن الأجانب أو السماح لهم بخيار العودة السهلة، والذي قاده بعض وجهاء وشيوخ العشائر في المدينة، بل انحصر في المقاتلين المحليين وبعض المدنيين فقط.
“
وصلت أعداد المقاتلين الأجانب في صفوف داعش عامي 2014 و2015 إلى 25 ألفمقاتل أجنبي هاجروا إليها من 100 دولة حتى وصلوا إلى الأراضي التي تسيطر عليها “داعش”في سوريا والعراق
“
تراجع أعداد المقاتلين:
وصلت أعداد المقاتلين الأجانب في صفوف داعش عامي 2014و2015 إلى 25 ألف مقاتل أجنبي هاجروا إليها من 100 دولة حتى وصلوا إلى الأراضيالتي تسيطر عليها “داعش” في سوريا والعراق، لكن هذه الأرقام تراجعت كثيرًامنذ بدايات 2016. فبينما كان التدفق عبر الحدود التركية السورية يصل إلى 2000مقاتل شهريًّا، فقد وصل في يونيو 2016 إلى 50 مقاتلًا فقط كل شهرحسب تقرير للاستخبارات الأمريكية، ويرجح أنه يكاد ينعدم خلال الشهور القليلةالماضية. وتجدر الإشارة هنا إلى أن أغلب المقاتلين الأجانب كانوا فارغين من العلمالديني، حسب دراسة حديثة لمكتب مكافحة الإرهاب في الأمم المتحدة صدرت في أغسطسالماضي 2017، وشملت 43 عنصرًا عائدًا لوطنه من 12 دولة مختلفة أغلبهم يعاني من نقصالمعرفة الأساسية بالإسلام ومبادئه، ولكن أغرتهم العاطفة، ووعود الخلافة المزعومةفقط! ويثبت هذا النقص في المعرفة أن 25% من مقاتلي “داعش”كانوا من المتحولين الجدد إلى الإسلام الذين لم يسبق لهم التعرف على الإسلامالوسطي، والتقطتهم عناصر “داعش” عبر الغرف والمواقع التفاعلية على شبكةالإنترنت، إغراء بدار الإسلام وتحقق يثرب الجديدة، أو وعود الزواج بالنساءوالصغيرات خصوصًا كما حدث في حالة حسناء داعش الألمانية التي بلغت من العمر 16 عامًاوقُبض عليها في الموصل.
“
إن أوضاع المقاتلين الأجانب أخطر بكثيرمن المواطنين المحليين، فالأخيرون يمكن إدماجهم أو اندماجهم واختفاؤهم وسطمجتمعاتهم
“
خيارات محدودة:
هناك تحفز مستمر ودائم للخلايا النائمة وفلول العناصر المقاتلة المهزومة. ففي سوريا بعد سقوط الرقة تقوم قوات سوريا الديمقراطية، كما سبق أن قامت القوات العراقية، بالبحث عن بعض “الخلايا النائمة” ومطاردة المشتبه فيهم، خاصة وأن “الخلايا النائمة” في التنظيمات العنقودية كـ”داعش” تفاجئ دائمًا أعداءها بما هو غير متوقع، كما تطارد “قسد” بعض العناصر التي رفضت الاستسلام وما زالت تتحصن داخل بعض الأماكن مع عائلاتها رغم محدودية الخيارات المتاحة أمامهم في كل الأحوال. كذلك تتحفز دول المقاتلين الأجانب ومواطنهم الأصلية لمخاطر عودتهم بكل استعداد أمني، وتتوجس خيفةً من كل مَن يمكن أن يكون مشتبهًا به، مواطنا أصليًّا أو مهاجرًا، وقد قامت ألمانيا بعد قرار المكمة العليا بتهجير عددٍ من اللاجئين بشبهة الإرهاب.
إن أوضاع المقاتلين الأجانب أخطر بكثير من المواطنين المحليين، فالأخيرون يمكن إدماجهم أو اندماجهم واختفاؤهم وسط مجتمعاتهم، هذا ما حدث بعد تحرير الموصل في 10 يونيو سنة 2017 وبعد سقوط سرت بيد قوات مصراتة في ليبيا، ويبدو أنه ما سيحدث في سوريا بعد الرقة، ولكن أمام المقاتلين الأجانب إما العودة لبلدانهم أو مواصلة الحرب إن استطاعوا أو الاستسلام.
يبدو أن الموقف صعب، وتضاربت الأنباء بخصوص الأجانب، ورغم ظهور تقارير عديدة تشير إلى خروج بعض المقاتلين الأجانب في إطار الاتفاق الأخير وتصريحات بعض المسئولين المحليين في الرقة؛ إلا أن المجلس المدني بالرقة الذي يضم ممثلين عن العشائر، في 15 أكتوبر 2017، نفى خروج هؤلاء، وأكد أن “المقاتلين الأجانب ليسوا ضمن اهتمامات المجلس المدني ولجنة العشائر، ولا يمكن الصفح عنهم”، مضيفًا أن “المستسلمين هم فقط سوريون، وعددهم مع عوائلهم 275 شخصًا”.
لن يتكرر هذه المرة اتفاق “حزب الله” و”داعش” على السماح لمجموعات من مقاتلي “داعش” بالدخول إلى الحدود السورية مع العراق، رغم رفض العراق وإعلان تحفظه والرفض الدولي لهذا التصرف الغريب، وهو ما حدا بالتحالف الدولي للحرب على “داعش”، على لسان المتحدث باسمه العقيد “رايان ديلون”، غداة “تحرير الرقة” أن يؤكد أن “التحالف لن يسمح للمقاتلين الأجانب في داعش بمغادرة الرقة”، وهو ما يعني أن القوى الدولية المنخرطة في الحرب ضد التنظيم تبدي اهتمامًا خاصًّا بتلك القضية التي ترى أنها فرضت تداعيات مباشرة على أمنها خلال المرحلة الماضية بعد العمليات الإرهابية التي وقعت في العديد من العواصم الغربية، على غرار باريس وبروكسل ولندن. ويبدو أن ذلك سوف يساهم بدوره في تحديد الخيارات المتاحة أمام المقاتلين الأجانب الذين ما زالوا موجودين داخل الرقة.
إن الجميع يتوجس خيفةً من عودةالمقاتلين الأجانب الذين يتميزون بكفاءات قتالية عالية، وبعضهم من قيادات “داعش”الأساسية، والأكثر قدرة على تنفيذ عمليات إرهابية غير تقليدية كالعملياتالانتحارية التي تُعتبر أبرز ما استخدمه التنظيم من أسلحة، أو قدرتهم على التجنيدوالتشبيك كدور “يوسف الهندي” وزير صحة “داعش” الذي ظهر فيفيديو له قبل فترة ويدعى “أبو مقاتل الهندي”، الذي جند عددًا كبيرًا منالأطباء الهنود والباكستان والسيريلانك للعمل مع القطاع الصحي لداعش، ويُعتبر معطبيب هندي آخر من ولاية كيرلا المسئول الرئيسي عن عدد من عمليات “داعش”في الهند خلال الآونة الأخيرة. ولم تكن العمليات الإرهابية التي نفذها “داعش”في أوروبا، وخاصة فرنسا والولايات المتحدة وغيرها، إلا عبر عدد من المقاتلينالأجانب الذين تمكنوا من العودة لبلدانهم الأصلية. كما تعاني مصر من عودة بعضالمقاتلين المنسوبين لداعش من ليبيا ومن سوريا والعراق.
“
ولا شك أن ظاهرة المقاتلين الأجانبوعودتهم أو “العائدين من مناطق الصراع”، تهدد العالم أجمع، وليس فقطأعداءهم المحليين
“
بدائل ثلاثة:
هناك عدد من البدائل الضيقة لمصيرالمقاتلين الأجانب في سوريا بعد تحرير الرقة، انطلاقًا من حرص “قوات سورياالديمقراطية” على تأمين تحريرها وكبح جماح خطر فلول “داعش”، تتحدد فيمسارات ثلاثة تمثل خيارات محدودة وبدائل ضيقة للتنظيم هي:
1-مواصلة الانخراط في مواجهات مسلحة: خاصة في ضوء الأهمية الخاصة التي يبديها بعض مقاتلي التنظيملمحافظة الرقة تحديدًا التي مثلت المعقل الرئيسي للتنظيم وعاصمته، بشكل سوف يدفعالعديد منهم إلى تفضيل البقاء داخل المدينة على الخروج منها إلى مناطق أخرى يسيطرعليها التنظيم. بل إن بعضهم قد يستمر في قتال عناصر ميليشيا “قسد” تجنبًا للوقوع في الأسر.
2- الهروب من المدينة: ربما يحاول بعض المقاتلين الأجانب الهروب من المدينة والانتقال إلى المناطق الأخرى التي يتواجد بها التنظيم أو إلى أي منطقة أخرى، خاصة أن بعضهم لم ينضم إلى الأخير بسبب توجهاته الفكرية، وإنما لاعتبارات أخرى يأتي في مقدمتها الحصول على موارد مالية. ومن هنا، فإن هذا الفصيل قد يسعى إلى تجنب خياري الأسر أو القتل، من خلال العمل على البحث عن مسارات للخروج من المدينة، إلا أنه قد يواجه صعوبات في هذا السياق بسبب الحصار الذي تفرضه ميليشيا “قسد” على المدينة.
3- الاستسلام لميليشيا “قسد”: لا سيما أن الأخيرة نجحت في السيطرة على معظم أنحاء المحافظة، وقد أشار المرصد السوري لحقوق الإنسان بالفعل إلى أن ما بين 130 إلى 150 مقاتلًا أجنبيًّا استسلموا لميليشيا “قسد” قبل انتهاء المعارك. وترجح تقارير عديدة أن تقوم الميليشيا الكردية بفتح قنوات تواصل مع الدول التي ينحدر منها هؤلاء المقاتلون من أجل البحث في الآليات المتاحة لإعادتهم إليها من أجل محاكمتهم.
ولا شك أن ظاهرة المقاتلين الأجانب وعودتهم أو “العائدين من مناطق الصراع”، تهدد العالم أجمع، وليس فقط أعداءهم المحليين، وقد انتبه الاتحاد الأوروبي لذلك في أكثر من مرة خلال الشهور الماضية حسب عدد من التقارير، ولكن فلول “داعش” التي فقدت كل أساس جاذبية لها، المكان والزمان، سيكونون على الأرجح أقل خطرًا من العائدين من أفغانستان عقب الجهاد الأفغاني أو فروع “القاعدة” التي لم تَعِدْ منسوبيها بمثل ما وعدت به “داعش”، ويبدو أن دراسة مكتب مكافحة الإرهاب بالأمم المتحدة الأخيرة تثبت أن جميع من عادوا هم في مرحلة المراجعة والندم أكثر منهم في مرحلة التحفز لعمليات جديدة، بعد سقوط التنظيم ودولته المزعومة، ولكن لا ينفي هذا الاستعداد لاحتمال الخطر.