بداية لا يمكن لمن يراقب التطورات فى الشرق الاوسط أن يتغافل الربط بين كل الملفات والقضايا التى تتعلق بالصراع العربى الإسرائيلى وكذلك الصراع بين إسرائيل وإيران وأذرعها المسلحة فى الإقليم حيث حركة السلاح والافراد والازمات تعبر من حدود إلى أخرى تحت بصر وسمع القوى الفاعلة الإقليمية والدولية؛ وكل منهم يتفاعل معها محاولا كسر إرادة الاخر او امتلاك اوراق ضغط وتفاوض فى ملفات ترتبط بمصالحه العليا وأمنه القومى إن لم تكن فى معظمها أطماع تستغل مساحات الفراغ والحركة فى مفاصل الدول التى تعانى من ضعف هياكل الدولة الوطنية والمؤسسات والجيوش مضاف إليها معتقدات ورؤى دينية متطرفة على الجانبين على سبيل إيجاد الذرائع والمسببات.
فى السابع والعشرين من نوفمبر أطلقت فصائل المعارضة السورية المنضوية ضمن غرفة عمليات “الفتح المبين” وأبرزها هيئة تحرير الشام إلى جانب مجموعات وكتائب أخرى، عملية عسكرية تحت عنوان “ردع العدوان” ضد قوات الجيش السوري والميليشيات الإيرانية على محاور عدة في ريف حلب الغربي ضمن منطقة خفض التصعيد التي تضمنها كل من تركيا وروسيا، بهدف الرد على قصف قوات النظام المتكرر لمناطق شمال غربي سوريا واستعادة حدود منطقة خفض التصعيد التي اتُفق عليها عام 2019 بين روسيا وتركيا وإيران؛ ومازالت عمليات التصعيد مستمرة.
تزامن إعلان عملية “ردع العدوان” مع اليوم المحدد لدخول وقف إطلاق النار بين لبنان وإسرائيل حيز النفاذ فى 27 نوفمبر، وعقب تنفيذ إسرائيل ضربات دقيقة خلال الأشهر الماضية ضد أهداف داخل العمق السورى استهدفت عناصر حزب الله ومخازن للذخيرة والسلام ومراكز للقيادة والسيطرة ومصانع لإنتاج الأسلحة، كما يتزامن توقيت الهجوم مع اقتراب وصول ترامب إلى البيت الأبيض وتصاعد الحديث عن اليوم التالي في الشرق الأوسط ومساعي إسرائيل لفصل الساحات، وهو ما يُمكن اعتبار محاولة من الميليشيات المسلحة في مناطق الشمال الغربي السوري لاستغلال تراجع النفوذ الإيراني في المنطقة لتمديد حضورها وتقديم نفسها كقوة أساسية لا يمكن تجاهلها في أي تسوية سياسية قادمة، وتأكيد هيمنتها على الفصائل المسلحة في شمال سوريا لا سيما تلك الموالية لتركيا والتي تسيطر على مناطق في الشمال السورى.
تفجير الاوضاع فى سوريا جاء بالتزامن مع وصول الرئيس السوري بشار الأسد، صباح الخميس 28 نوفمبر إلى موسكو في زيارة مفاجأة. وكان بنيامين نتانياهو قد هدد علنا بشار الأسد فى خطاب إعلان الهدنة بين إٍسرائيل ولبنان وقبلها وضع خطة لضرب أهداف مهمة فى العراق ومنها قادة الجماعات المسلحة المحسوبة على إيران.
تسخين الساحات الشيعية:
فى صراعها مع إيران واذرعها المسلحة المنتشرة فى اليمن ولبنان والعراق وسوريا وفلسطين المحتلة تحاول إسرائيل أن تكسر إرادة إيران وتدمير الاذرع بعدة طرق؛ الحرب العسكرية ضد تلك الأذرع كان الطريق المباشر الذى أعتمدته تل أبيب فى التصعيد وشنت عدوانا بربريا على قطاع غزة بهدف تدمير حماس وقياداتها الميدانية ردا على عملية 7 أكتوبر 2023؛ ونفذت سيناريو مشابه فى لبنان حين أستهدفت حزب الله – الذراع الاكبر والأهم لإيران – واستهدفت كل قيادات الصف الاول السياسية والعسكرية فى مقدمتهم حسن نصرالله الامين العام للحزب ومن بعده خلفه هشام صفى الدين بزعم وقف الدعم الذى تقدمه الساحة اللبنانية لقطاع غزة؛ وشنت بالتزامن بعض الهجمات النوعية على عدد من المواقع فى اليمن والعراق وسوريا.
ومع مرور الوقت وفشل إحداث كسر حقيقى وكاسح لإيران واذرعها رغم إستهداف منشأت عسكرية صاروخية إيرانية والتهديد بتدمير المشروع والمنشأت النووية والنفطية فإن تل ابيب أدركت أن الهدف الاهم فى المرحلة المقبلة بعد التأكد من عدم نجاعة الحل العسكرى وإستخدام القوة المسلحة سياسيا فى حسم الازمات والصراعات هو إشعال الصراع فى البيئة الحاضنة لتلك الأذرع والتجمعات الشيعية الموالية لإيران؛ وذلك بالعودة لتاجيج الصراع فى المناطق القريبة والمحيطة بها فى الشمال السورى وكذلك فى العراق فضلا عن الساحة اللبنانية التى تعج بالأزمات الطائفية؛ حين قررت أن تدعم تحرك لهيئة تحرير الشام وكذلك الدعم العلنى للأكراد فى سوريا والعراق ولا مانع من التوافق والتساهل وتمرير أطماع تركية معلنة فى السيطرة على الشمال السورى بدءا من حلب؛ وتعاون معلوماتى ومخابراتى مع أنقرة وغيرها من الاطراف الطامعة؛ والعنوان دائما الصراع الابدى بين السنة والشيعة وهو ما يستلزم خطوة متوقعة وعن قريب وهى إطلاق سراح جماعة إرهابية سنية فى المنطقة والثغرة الهشة أمنيا ما بين العراق وسوريا كى تكون عنصر مقاتل ومهدد وشاغل للجماعات الشيعية الموالية لإيران. وتلك المنطقة تتداخل فيها المصالح وتتقاطع احيانا وتتصادم دائما وتشهد تحركات قد تبدو متناقضة من قبل اللاعبون والفاعلون على المستويين الدولى والإقليمى فى غياب الإرادة والسيادة الكاملة لاصحاب الارض.
فمنذ أيام قال وزير الخارجية الإسرائيلي الجديد والمتطرف جدعون ساعر؛ إن بلاده يجب أن تمد يدها للأكراد وغيرهم من الأقليات الإقليمية التي تعتبر حلفاء “طبيعيين”. وأضاف ساعر، الذي تم تعيينه وزيرا للخارجية بعد أن حل سلفه إسرائيل كاتس محل يوآف جالانت المقال منذ أيام، إن إسرائيل يجب أن تتطلع إلى الأكراد والدروز وغيرهم من الأقليات في الدول المجاورة، بالإضافة إلى المملكة العربية السعودية، للحصول على الدعم؛ ولكنه لم يشر بعد إلى الاقباط والنوبيين والسيناوية وغيرهم فى أطار رؤيته ورؤية اليمين المتطرف لتأجيج الصراعات وتغذية الفتن والقلاقل فى دول الجوار كسياسة وورقة ضغط دائمة على مائدة المفاوضات.
وقال مفسرا رؤيته فى حفل تنصيبه: “إن الشعب الكردى أمة عظيمة، واحدة من الأمم العظيمة التي لا تتمتع باستقلال سياسي”، واصفا الأكراد بأنهم “حلفاء طبيعيون”؛ انهم أقلية وطنية في أربع دول مختلفة، في اثنتين منها يتمتعون بالحكم الذاتي: بحكم الأمر الواقع في سوريا وبحكم القانون في الدستور العراقي”. ولم يكتفى بهذا؛ حيث لوحظ ان مساحة الحديث عن تلك الاقليات والعرقيات قد احتلت مساحة كبيرة من اول خطاب يلقيه كوزير للخارجية إنعكاسا لاولويات واجندة عمل ملحة وضاغطة؛ و زاد ساعر من تعرية التحركات الإسرائيلية حين وصف الأكراد بأنهم ضحية للقمع والعدوان من إيران وتركيا، وإن إسرائيل بحاجة إلى تعزيز العلاقات معهم. وأضاف: “هذا له جوانب سياسية وأمنية”.
ولم يكتفى بالاكراد فأشار “ساعر” إلى ان الأقليات الدرزية في لبنان وسوريا يجب أن يتم التعامل معها أيضاً. وذلك رغم أن لدى إسرائيل أقلية درزية خاصة بها، تعاني من التمييز الذي يعاني منه مواطنون فلسطينيون آخرون في إسرائيل، لكنها غالباً ما تخدم في الجيش. والموضوعية تحتم أن نشير إلى أنه في لبنان، يتمتع الدروز بتاريخ طويل من الدعم القوى للفلسطينيين، فعندما انتشرت صور في يونيو لجنازة جندي درزي إسرائيلي قُتل في غزة، والتي أظهرت نعشه ملفوفاً بعلم إسرائيلي بجوار صورة لشخصيتين درزيتين شهيرتين، قال وليد جنبلاط، السياسي اللبناني المخضرم الذي يُنظر إليه تقليدياً على أنه زعيم الطائفة، إن ذلك “إهانة لذكرى هذين البطلين العربيين العظيمين”. وفي الوقت نفسه، عارضت الطائفة في سوريا إسرائيل أيضاً، وخاصة بعد احتلال إسرائيل لمرتفعات الجولان السورية ذات الأغلبية الدرزية في عام 1967.
ولم يفت “ساعر” ان يضغط ويبتز الدول التى تتردد او تتمهل و تضع شروطا فى سبيل إنضمامها تحت مظلة الاتفاقيات الابراهيمية وذلك بورقة الاقليات فى الإقليم حين كشف عن النوايا والاوراق قائلا: “طموحنا لتوسيع نطاق السلام والتطبيع مع العالم العربي لم يتغير. آمل أن ننجح في القيام بذلك مع المملكة العربية السعودية ودول أخرى. لم نستسلم لهذا، لكننا بحاجة أيضًا إلى دراسة المنطقة المحيطة بنا عن كثب، وبناء تحالفات قوية وضربها، وأود التأكيد على الأقليات في المنطقة التي نعيش فيها؛ إنني أتابع أيضاً الأقليات الدرزية في الدول المجاورة، سوريا ولبنان، ولدينا تحالف قوي مع الدروز الذين هم مواطنون في إسرائيل. ولابد من تقييم التطورات في هذا السياق أيضاً، ولابد أن ندرك أنه في منطقة سنظل فيها دائماً أقلية، يمكننا أن نقيم تحالفات طبيعية مع أقليات أخرى”.
وفى تشجيعه للمزيد من تمرد واستقلال الاكراد فى سوريا والعراق وإيران قال: ” إن الأكراد يتمتعون بالحكم الذاتى فى سوريا والعراق. وفي سوريا، يعيشون فى منطقة شرقية تسيطر عليها فى الغالب قوات سوريا الديمقراطية المدعومة من الولايات المتحدة. تعرضت هذه المنطقة المتمتعة بالحكم الذاتي لهجمات متكررة من قبل تركيا.” وقال “إن تركيا غزت منطقة عفرين الكردية في عام 2018 وطهرت عرقيًا 160 ألف كردى من المنطقة الجبلية الصغيرة، مضيفًا أن الأكراد في شرق سوريا يتمتعون بنوع من الحكم الذاتي بحكم الأمر الواقع”؛ ورغم انتقاده المعلن لانقرة لكنه لم يمهد جيدا لدور تركى فى إشعال الصراع فى الشمال السورى فى اليوم التالى لوقف إطلاق النار فى لبنان؛ حيث تشير كل القرائن إلى أن لتركيا دورًا في إطلاق هذه العملية خاصة وأن بعض فصائل الجيش الوطني السوري المدعوم من تركيا تشارك إلى جانب هيئة تحرير الشام، حيث تسعى أنقرة للضغط على الحكومة السورية للقبول بإعادة العلاقات بين البلدين دونما وضع شروط لانسحاب الجيش التركي من الشمال السوري، ومن ثم من المرجح أن تستخدم تركيا هذه العملية كورقة ضغط في المفاوضات مع دمشق وموسكو؛ وقد أعلن مسئول أمنى تركى كبير عبر وكالة رويترز للانباء إن تحرك ما اسماهم المعارضة فى مناطق خفض التصعيد جاء ردا على عدم الالتزام الروسى السورى الإيرانى ما يعكس دعم ضمنى لهذا التحرك بل وتوفير الشرعية له.
توزيع الاكراد والعلاقات السرية مع إسرائيل؟:
جدير بالذكر أن الأكراد هم واحدة من أكبر الأقليات التى لا تحمل جنسية في العالم ومنتشرين بأعداد كبيرة في تركيا والعراق وإيران وسوريا. في جميع هذه البلدان، يتمتع الأكراد بحقوق ومكانة اجتماعية مختلفة، ويمثلهم أحزاب سياسية ذات أيديولوجيات مختلفة على نطاق واسع، بما في ذلك فيما يتعلق بمواقفهم تجاه إسرائيل.
تمتع الحزب الديمقراطي الكردستاني الرئيسي الذي يهيمن على منطقة كردستان شبه المستقلة في العراق بعلاقات وثيقة وإن كانت غير رسمية مع إسرائيل لسنوات عديدة – على الرغم من رفض العراق ككل الاعتراف بالبلاد، حيث يخاطر المواطنون بعقوبة الإعدام لإقامة اتصالات.
كانت إسرائيل الدولة الوحيدة التي دعمت علنًا استفتاء الاستقلال الذي استضافته حكومة إقليم كردستان في عام 2017، والذى رفضت الحكومة العراقية الاعتراف به. ولقد تعقدت العلاقات بين الفلسطينيين والأكراد العراقيين بسبب الدعم الذى قدمه ياسر عرفات لصدام حسين.
وبالمقارنة، فإن وحدات حماية الشعب، التى تسيطر على جزء كبير من شمال شرق سوريا، هي فرع من حزب العمال الكردستاني، وهي منظمة يسارية كانت لها منذ فترة طويلة روابط وثيقة مع الجماعات الفلسطينية المتعاطفة أيديولوجياً مثل الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين والجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين. وقد تلقى حزب العمال الكردستاني، الذي يشن تمرداً ضد تركيا منذ عقود، تدريباته من قبل جماعات فلسطينية في لبنان، حيث قُتل 11 من مقاتليه في معركة ضد إسرائيل في عام 1982.
ورغم أن تركيا اتهمت إسرائيل في بعض الأحيان بدعم حزب العمال الكردستاني، فإن قيادة الحزب دحضت هذا الاتهام دائماً، بل واتهمت حتى جهاز الاستخبارات الوطني التركي بالتورط في اغتيال زعيم حماس إسماعيل هنية في طهران في وقت سابق من هذا العام. وقال بيسي هوزات، أحد كبار مسؤولي حزب العمال الكردستاني، في أغسطس الماضى: “إن إسرائيل تشن حالياً نفس الإبادة الجماعية ضد الشعب الفلسطيني كما تشن الدولة التركية ضد الشعب الكردي”.
كما اتهم حزب العمال الكردستاني وأنصاره الاستخبارات الإسرائيلية منذ فترة طويلة بالتورط في سجن مؤسسهم وزعيمهم عبد الله أوجلان بعد أن ألقى القبض عليه من قبل جهاز المخابرات التركي فى نيروبي عام 1999.
وقد أنشأت مجموعات كردية أخرى في سوريا وإيران قنوات مع إسرائيل، في حين ظل بعضها معارضاً لأسباب أيديولوجية.
وتعود العلاقات الإسرائيلية الكردية إلى ستينيات القرن العشرين، عندما زودت تل أبيب الأقلية بالأسلحة والمساعدة المالية في مقابل المساعدة في جمع المعلومات الاستخباراتية عن الأعداء العرب. في عام 2014، سعت إسرائيل إلى إقناع الولايات المتحدة بدعم المحاولة الكردية قصيرة الأمد للاستقلال في شمال العراق، وتردد إنها تشتري النفط سراً من تلك المنطقة.
تداعيات “الربيع العربى”:
على أرض الواقع نجد انه تم محو الحدود الاستعمارية للشرق الأوسط بالكامل تقريبًا بسبب الربيع العربي وهجمات داعش في العقد الماضي خاصة فى منطقة الشام وتلك البقعة الهشة أمنيا بين العراق وسوريا، والآن يبدو أنها ستتم إعادة رسمها إذا استمرت إيران ووكلاؤها في التراجع بسبب الهجوم المضاد الإقليمي لإسرائيل. وترى القيادات الإسرائيلية انه الوقت المناسب لمغازلة الأكراد والدروز علنًا حيث يمكن للتحالف السري مع قطاع من الأكراد أن يخرج بأمان للعلن؛ بالتوازى يرى هذا الفكر الصهيونى أن الدروز، مع نفوذهم السياسي في لبنان ومجتمعاتهم السورية القريبة من الحدود الإسرائيلية، سوف يكونون مفتاحاً لتأمين المزيد من علاقات الجوار بمجرد انتهاء هيمنة حزب الله.
عندما دعت إسرائيل إلى إقامة دولة كردية قبل عقد من الزمان، كانت تضع في اعتبارها مخاطر تعريض مصالحها الأمنية في مواجهة إيران أو إثارة غضب تركيا. والآن تتبادل إسرائيل الضربات علناً مع الإيرانيين، وأي مظهر من مظاهر الدبلوماسية لإنقاذ ماء الوجه مع أنقرة قد تم تدميره من قبل خطاب أردوغان الشعبوى المعادى للعدوان على غزة. إن اقتطاع إقليم كردستان من العراق من شأنه أن يدعم الفكرة الكلاسيكية للحدود المقدسة فى منطقة تتفوق فيها العرقية على الحبر على الخريطة، وفى المقابل سوف يخدم جهود الدولة الإسرائيلية لتحقيق حدود يمكن الدفاع عنها وترسمها هى ومعترف بها فى قطاع غزة والضفة الغربية.
إن تواصل إسرائيل مع الأقليات بشكل عام في المنطقة له تاريخ طويل. ولسنوات عديدة، سعت إسرائيل إلى إقامة علاقات مع دول وعرقيات على أطراف العالم العربي، بما في ذلك في الخمسينيات، عندما كانت الدول العربية الأكثر عدائية لإسرائيل. في تلك الأيام، ساعدت القومية العربية بقيادة جمال عبد الناصر في بناء مصر لتصبح دولة كبيرة ومؤثرة فى محيطها ومهدت سبيلا للأسلحة السوفييتية إلى الإقليم. وفعل نظام الأسد الشيء نفسه. ولم يكن من الممكن السعي إلى السلام مع مصر إلا بعد عام حرب أكتوبر 1973 التى انتصر فيها الجيش المصرى وما ترتب على النصر من عملية سلام.
عملت إسرائيل مع الإيرانيين قبل الثورة الإسلامية في عام 1979. وكانت إسرائيل وتركيا صديقتين. وإيران وتركيا دولتان غير عربيتين، وتركيا الحديثة متجذرة بشكل خاص في القومية التركية. درس القادة الصهاينة الأوائل في إسطنبول وكانوا على دراية بحركة الشباب الأتراك والقومية التركية، والتي من المرجح أنها ألهمت بعض وجهات نظرهم الخاصة حول المسارات المؤدية إلى الدولة اليهودية.
وفي الوقت نفسه، تواصلت إسرائيل أيضًا مع دول في آسيا وأفريقيا من الخمسينيات وحتى اليوم. وقد أدى هذا إلى نجاحات دبلوماسية بطيئة وثابتة لإنهاء عزلتها المبكرة. ولكن حدثت انتكاسات، الأمر الذي جعل إسرائيل تكافح في كثير من الأحيان للعثور على أصدقاء جدد في منطقة متغيرة.
على سبيل المثال، أنهت الثورة الإسلامية بقيادة الخومينى العلاقات بين إسرائيل وإيران. وكانت إسرائيل قد عملت على إقامة علاقات مع الأكراد في العراق، وأثمرت هذه العلاقات. ولا تخلو بعض الكتابات الكردية على مر السنين من ذكر أيام الستينيات والسبعينيات عندما سعوا إلى الحصول على دعم سري من إسرائيل خلال الحرب الباردة. لقد تم التخلي عن الأكراد عدة مرات من قبل المحيط العربى الذى ينظر للاكراد على انهم جزء مهم من نسيج الدول العربية التى يقيمون فيها ولا مجال للحديث عن دولة مستقلة او حكم ذاتى داخل إقليم ينتقص من سيادة العراق وسوريا ولم يجرا النظام العربى وجامعته على مناقشة الامر داخل البيت واحتواء تطلعات الاكراد، لكنهم شعروا فى المقابل أن إسرائيل كانت صديقًا عزيزًا وحقيقيًا. كما يعتبر الأكراد في سوريا انهم واجهوا القمع من قبل نظام الأسد بمفردهم دون دعم او حماية، لكنهم كانوا يدركون أن إسرائيل كانت دولة يمكنهم أن يتطلعوا إليها ويتحالفوا معها وتمهد لهم الطريق إلى البيت الابيض.
فى المقابل؛ لم تنجح سياسة إسرائيل في جنى الثمار مع الأقليات في المنطقة دائمًا بشكل جيد. لم تؤد العلاقات الوثيقة مع الموارنة وغيرهم من المسيحيين أثناء الحرب الأهلية اللبنانية إلى السلام فى لبنان. بدلاً من ذلك، قاتلت إسرائيل لسنوات فى جنوب لبنان، وبزغ نجم حزب الله بدعم من إيران، تحت راية “مقاومة” إسرائيل.
خلال استفتاء استقلال إقليم كردستان في عام 2017، رفع بعض الأكراد أعلام إسرائيل في أماكن مثل دهوك وأربيل. وقد انتشر هذا في وسائل الإعلام الإيرانية والتركية، مما أدى إلى تأجيج المشاعر المعادية للأكراد في طهران وأنقرة. عارضت الدولتان الاستفتاء، مدعين أن دولة كردية مستقلة ستكون “إسرائيل ثانية”.
يقول العديد من الأكراد إنهم ليس لديهم أصدقاء سوى الجبال، حيث يعيش 20 مليون كردي في المنطقة غالبًا في مناطق أكثر جبلية. وكان خطاب “ساعر” يهدف إلى إظهار أن لديهم أصدقاء أيضًا في إسرائيل؛ وفى كل يوم سيدفع اصدقاء إسرائيل من تلك الاقليات ثمن تلك الصداقة من امن واستقرار بلدانهم الام ولن تصلح الاطلال فى إقامة وطن وتحقق حلم استقلال او حكم ذاتى.
ختاما؛ فى سبيل فرض السيطرة على كل عدائيات دولة الاحتلال الإسرائيلى يلجا قادتها وأجهزتها الامنية إلى الالتفاف كطريق بديل عن المواجهات العسكرية المباشرة حال تعثرها أو فشلها فى تحقيق الاهداف السياسية؛ وكانت ورقة الاقليات والعرقيات وأحيانا الجماعات المتأسلمة المسلحة وسيلة جيدة لتفعيل تلك الورقة التفاوضية المهمة والضاغطة؛ وتحاول أن توظفها حاليها فى تسخين الساحة القريبة من تواجد القوات الشيعية المسلحة الموالية لطهران كى تشغل إيران بفناءها الخلفى فى العراق وسوريا وجعل طرق الامداد بالسلاح والافراد والذخائر واللوجيستيات إلى لبنان وبقية الساحات فى الإقليم غير آمنة وتحت نظر الاجهزة الامنية الإسرائيلية وفى مرمى نيران حلفاءها من تلك الاقليات؛ ولا نستبعد أن يتم تسخين ملف الاقليات من أصل أذرى والذين يمثلون 28% من الشعب الإيرانى ويسكنون الاقاليم الحدودية مع جمهورية اذربيجان؛ وذلك عن طريق العلاقات الاستراتيجية والامنية والاقتصادية بين إسرائيل وأذربيجان. وقد يمتد اللعب بورقة الاقليات والعرقيات فى العديد من الدول المجاورة على امتداد الإقليم كورقة ثبت نجاعتها وقيمتها فى تاجيج كل صراع على النحو الذى يخدم مصالح إسرائيل العليا وينتقص من أمن وسيادة واستقرار الدولة المستهدفة.