تنافست دول وعواصم العالم الغربية والشرق أوسطية فى زيارة العاصمة السورية “دمشق” فى ما وصفها البعض بـ “الهرولة”؛ وذلك للقاء السلطة الإنتقالية التى تدير المشهد السورى فى ما بعد إسقاط نظام بشار الاسد وحزب البعث؛ وذلك رغم أن بعض من تلك العواصم مازالت تدرج أبو محمد الجولانى (أحمد الشرع) والمجموعة التى تساعده فى الإدارة على قوائم الإرهاب؛ وكان السبب المعلن لكل زيارة هو مساندة الشعب السورى والوقوف على توجهات المجموعة الحاكمة وحجز مقعد فى ما يعد من سياسات وتوجهات ترتب المستقبل السورى.
التريث الذى انتهجته بعض العواصم كان لديه أيضا مبررات فى مقدمتها أنها تدرس الموقف لتقف على التوجهات الحقيقية لما أطلق عليه سياسيا وإعلاميا “سلطة الامر الواقع” لانه لدى تلك العواصم قائمة من التحفظات على تلك المجموعة وممارساتها وقناعاتها الموثقة ضد شعوبها وجيوشها الوطنية وعدم اعترافها بالسيادة والحدود ومبدأ التدخل فى الشئون الداخلية للدول حينما كانت تحكم وتدير فى أدلب وغيرها من المناطق فى شمال شرق سوريا وفى شمال غرب العراق وعلاقاتها الفكرية والتنظيمية التى كانت تربطها بتنظيمى القاعدة وداعش الإرهابيين وكوادرها التكفيرية من المقاتلين الاجانب “المهاجرين”.
القاهرة كانت فى مقدمة العواصم التى تريثت ولم تهرول وعندما قررت أن تشتبك مع المشهد لإعلان موقفها وتصوراتها عن هذا المستقبل كان فى صورة أتصال هاتفى بين وزير الخارجية المصرى ووزير خارجية “سلطة الامر الواقع”، وخرج بيان عن فحوى الاتصال وضع بدقة المحددات التى تساهم فى تبديد مخاوف وتحفظات الدولة الاكبر عربيا تجاه مجمل التغيرات والتوجهات، ووضعت أطارا يراعى دعم الشعب السورى ووحدة الاراضى السورية، وأن تستوعب كل الخطوات والقرارات والسياسات التى تصدر كل مكونات الشعب السورى على كافة تنوعاته العقائدية والعرقية والطائفية والفكرية والسياسية؛ وأن تكون المرحلة الانتقالية خطوة فى اتجاه عودة سوريا إلى محيطها العربى وان تساهم بدورها فى أمن واستقرار الإقليم.
وقد كان التريث والذى وصفه البعض بالتأخير نابعا من أن سلطة الامر الواقع بذلت كل ما تستطيع قوله وفعله كى تبدد كل المخاوف والهواجس لدى إسرائيل وحلفاءها من نوايا السلطة الجديدة بل فى بعض من تلك التصريحات والرسائل العلنية أوجدت مبررات لاحتلال وتوغل القوات الإسرائيلية لهضبة الجولان وجبل الشيخ والقنيطرة وصولا لمحافظة درعا والوقوف على حدود جنوب ريف دمشق؛ ولم تعلن الادارة الجديدة اى شجب أو إدانة صريحة لاكثر من 500 غارة جوية على كل مقدرات “الجيش العربى السورى” التى هى بالأساس من امور السيادة والاساس الذى تبنى عليه قواعد الدولة الجديدة ما بعد بشار والبعث. فى المقابل لم تبذل “سلطة الامر الواقع” أى جهود حقيقية لتبديد مخاوف وهواجس وتحفظات أى من عواصم المنطقة وخاصة القاهرة التى تمتلك بنك وبنية من المعلومات والوثائق والرؤية الواضحة تجاه جوهر سياسات وتوجهات وعقائد كل مكونات الإقليم: أنظمة وجماعات ومليشيات. وكانت القاهرة تدرك أن هناك من يريد أن يوظف مشهد هرولة اى من مسئوليها إلى حيث احمد الشرع وأن ترى هذا المسئول يضع يده فى ايدى أبو محمد الجولانى وتكون مصر اول من يعترف بهم ويمنحهم الشرعية ليس من أجل سوريا والسوريين ولكن يرون فى هذا المشهد إخضاعا لمصر وقرارها السياسى لصالح تيارهم الفكرى والايديولوجى وكنوع من المكايدة السياسية بغض النظر عن مآلات هذا المشهد على المصالح العليا المصرية.
القاهرة لها سوابق فى التعامل مع جماعات مثل حماس التى صنفت إرهابية بحكم قضائى بعد انتهكات متكررة للسيادة المصرية ودعمها لجماعة إرهابية “الاخوان المسلمين” اثناء احداث ثورة 25 يناير 2011؛ ولكن القرار كان مدروسا وخضع لحسابات الربح والخسارة بصورة برجماتية وإدراكا للدور والمكانة والمسئوليات؛ وكان التعامل من منطلق المصلحة المصرية اولا والالتزام تجاه الشعب والقضية الفلسطينية على اعتبار انها كانت “سلطة الامر الواقع” التى تحكم غزة التى تقع على حدودنا الشرقية مع الدولة الفلسطينية وتتحكم فى القطاع على مختلف تنوعاته الايديولوجية والفصائلية؛ حفاظا على الدور المصرى الرئيسى فى أى تفاوض او ترتيبات تمس القضية على مدار التاريخ ولا يمكن لاى متغير او جماعة ان تكون سببا فى التأثير أو إزاحة هذا الدور الذى يمس جوهر الامن القومى المصرى.
شرعية الشرع وحكم الاقليات:
كانت النتيجة المباشرة للتسابق أو الهرولة إلى دمشق للقاء الشرع وأعضاء حكومته هو منح شرعية ما لهذا المكون السياسى الذى يعبر عن طيف واحد ووحيد داخل فسيفساء المشهد السورى؛ لان واقع الامر يؤكد على أن “سلطة الطيف الواحد” لم تسيطر بعد على مناطق الاكراد ومناطق الساحل السورى ومناطق تمركز الدروز وبالطبع الجنوب الذى تحتله إسرائيل ولم يلق أى من مكونات الشعب السورى سلاحه؛ وان الاتفاق على تفاصيل المشهد الحالى تم فى جلسة جمعت أحمد الشرع والفصائل المسلحة التى تخضع لسلطة الدول التى ترعى “سلطة الطيف الواحد” مما يعكس حقيقة مهمة يجب أن توضع فى الاعتبار لكل من يريد أن يتفاعل أو يشتبك أو يحلل المشهد وهى أن كل ما جرى هو انتقال حكومة أدلب إلى دمشق.
أن الواقع الديموغرافى فى سوريا يعكس أن الشرع حتى لو أستقر به الامر مرحليا فهو يحكم أقليات؛ إذ أن “حاكم الأمر الواقع” يواجه وضعاً ديموغرافيا مرتبكاً بشدة لم يعتاده طوال حكمه إدلب لنحو 8 سنوات؛ فإدلب احتضنت 6 ملايين نسمة بسبب التهجير ونقل المسلحين من مناطق النزاع إلى شمال غرب سوريا؛ كانت الأغلبية في إدلب بنحو أكثر من 85% من السُنة العرب وكانت التركيبة الديموجرافية تسمح بتمرير خطاب “الجولاني” الشهير باحترام العادات ورفض نموذج “هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر”..؛ اليوم وبسبب وجود اكثر من 8 مليون سوري خارج البلاد أغلبهم من السنة العرب فإن الأغلبية في الأراضي السورية خارج حدود إدلب مكونة من الأقليات؛ فعدد من هم داخل سوريا اليوم نحو 14 مليون نسمة؛ من بينهم 6 ملايين في إدلب يبقي 8 ملايين من بينهم 2.5 مليون تحت حكم الإدارة الذاتية “قسد” في المناطق تحت النفوذ الكردى ليكون المتبقى 5.5 ملايين نسمة؛ مليون درزى في السويداء ودمشق؛ و2.5 مليون علوى فى اللاذقية وطرطوس ودمشق؛ الباقى هو 1.5 مليون سنى خارج إدلب؛ والأكثرية من العلويين 2.5 مليون. وبناء عليه فإن الجولاني خارج “إدلب” يحكم أغلبية من الأقليات.
بعض العواصم التى التقت الشرع وحكومته وضعت تلك الحقيقة الديموغرافية امام اعينها وواجهت بها الشرع؛ بعض من تلك العواصم طرحها فى اطار شروط للاعتراف ومنح الشرعية عن قناعة ومبدا بعدالة الطرح وإعلاء وعدم لمصالح ووحدة الشعب السورى وسيادته على اراضيه؛ بينما البعض الاخر اعتبرها مدخل للضغط والتدخل فى الشئون الداخلية والتلويح بأن الشرعية منقوصة ما لم تكن هناك صفقة لتمرير تلك الشرعية وفرض السيطرة مع مساحة معقولة تراعى مصالح الاخر الذى يحرك تلك الورقة ويهدد ضمنيا بإستغلالها.
ذلك الواقع الديموغرافى وكل القرارات التى اتخذت لتمكين الطيف الذى ينتمى له الشرع وجبهة تحرير الشام تثير عدد من الاسئلة المهمة والموضوعية التى تهم كل الاطراف التى تؤيد والتى تتحفظ والتى لا تعترف؛ فى مقدمتها:
- ما هو الدستور أو الإعلان الدستورى الذى بموجبه تحكم وتقرر وتشرع “سلطة الطيف الواحد”؛ مع قناعة بأن الجدول الزمنى الذى أعلنه أحمد الشرع (4 سنوات قابله للزيادة لصياغة دستور جديد) غير مقنع؛ وأن الفراغ الدستورى ينزع عن كل قراراته الشرعية المطلوبة على أقل تقدير من وجهة نظر بقية مكونات الشعب السورى.
- الشرعية المنقوصة وعدم التوافق مع بقية المكونات ستكون عقبة مهمة فى قضية نزع السلاح والسيطرة على كافة الاراضى والحدود؛ وقد كانت محاولة دخول مناطق الدروز فى محافظة السويداء بروفة مهمة للتعاطى مع هذا الواقع عندما رفضت قيادات وقوات الدروز المسلحة دخول قوات جبهة تحرير الشام اراضيها او مناقشة فكرة إلقاء السلاح وتسليمه؛ وأقصى مرونة كانت أنهم سيحتفظون بالسلاح فى جبالهم ومخازنهم حتى يتأكدون أن الدستور والمسار والخطاب السياسى لـ “سلطة الطيف الوحيد” التى كانت تكفرهم لن تمس بهم وأن المسألة وجودية؛ وهو الطرح الذى سيكون سببا فى عدم إلقاء الاكراد والعلويين والقبائل وغيرها من المكونات بسلاحهم.
- المسألة الفنية والاستراتيجة والامنية التى تهم من يريد أن يحكم بموضوعية هى: “ما هى عقيدة الجيش الذى أمر الشرع بتشكيله؟”؛ ومسألة عقيدة الجيش هى الحكمة فى مواقف عدد من دول المنطقة وفى مقدمتها مصر حيث شمل قرار تعيين قيادات للجيش رموز اجنبية إرهابية مطلوبة للقضاء فى عدد من الدول ومنهم مصر فضلا عن أن معظمهم كانوا قيادات تكفيرية فى جبهة النصرة الإرهابية والقاعدة الإرهابية وداعش الإرهابية وجودهم على رأس جيش مسلح سابقة يجب أن يحيطها التوجس والقلق من العواصم والدول الموجودة فى الإقليم والعالم ممن هم خارج المجموعة التى ترعى تلك الجماعات الإرهابية وتسعى وتضغط لجلب كل العواصم لمنحها الاعتراف والشرعية.
- إسرائيل ومعها الولايات المتحدة تعلن دعمها لحقوق الاقليات فى سوريا كمدخل للتدخل فى الشان الداخلى والضغط على الرعاة وذلك حين أعلن وزير الخارجية الإسرائيلى جدعون ساعر ومن بعده بنيامين نتانياهو ووزير دفاعه كاتس عن دعمهم للاكراد والدروز؛ حيث أن وضع “سلطة الطيف الوحيد” تحت هذا الضغط يكبح مخطط “الشريك التركى” فى الهيمنة الشاملة على الساحة السورية؛ وأن تسليح ودعم سياسى للاكراد ولاحقا الدروز بسلاح وتواجد أمريكى على الارض يحد من تلك الهيمنة.
- أن أى تعامل خشن أو مسلح من قبل أحمد الشرع وحكومته وجيشه مع الاكراد او الدروز سيكون مبرر تراه إسرائيل شرعيا للتدخل لحمايتهما حال طلبهما المساعدة خاصة الدروز الذين تسيطر عليهم مخاوف وهواجس من الخطاب التكفيرى لجماعة الشرع على مدار تواجدها فى سوريا والعراق.
- عدم نزع السلاح وعدم السيطرة على الحدود والمحافظات والقبائل يرشح الأمر للصدام المسلح بين المكونات ويفتح أبوابا خلفية للتدخل وتسليح الاطراف حتى فى حالة عدم وجود تبعية فكرية او عقائدية؛ وفى مقدمة تلك الاطراف إيران التى ستغذى أى طرف يناهض سلطات الشرع المنقوصة وتعميق وزيادة مساحات النقص والشرعية، وكذلك ستفعل إسرائيل وغيرها من الاطراف التى تريد لعب دور على حساب رعاة المشهد الاصليين.
- زيادة التوترات والصدامات المسلحة وتهديد الشرعية والشرع قد تدفع “سلطة الطيف الواحد” إلى اللجوء إلى امتلاك أوراق ضغط وإثارة الفوضى بالتعاون والتنسيق مع التيارات والجماعات التى تنتمى لها فكريا وتنظيميا فى دول الجوار وفى الإقليم كى يشكلوا معا حالة تخضع من يهدد شرعيتها وسيطرتها وإفشال تجربة حكم هذا التيار مجددا وعلى مقربة منها جماعة أحمد الاسير فى لبنان ومنيشبهها فى الإقليم.
- رعاة المشهد ورعاة “سلطة الطيف الواحد” سيركزون فى المقابل على إنجاح تلك السلطة بأى ثمن حتى مع الشرعية المنقوصة وفى غياب الدستور والقانون وحقوق الاقليات ونقص السيادة من خلال توفير كل متطلبات الاستقرار الشكلى والإغداق فى توفير المواد البترولية والمواد الغذائية وكل الاموال المطلوبة لرفع الرواتب وشراء الولاءات وتشبيك المصالح لعبور تلك المرحلة الحساسة لفترة لا تقل عن 4 سنوات حتى تتحول “سلطة الطيف الواحد” إلى “سلطة أمر واقع” حتى لو استمر مشهد التقسيم. ويصبح هذا النموذج ورقة ضغط قابلة للتكرار فى المنطقة تهدد أمن واستقرار شعوب مستقرة وتخدم مصالح الرعاة الذين ينظرون للامر على أنه استثمار طويل المدى.