يترقب العالم ردّ الفعل الإيراني على الانتهاكات المتكررة لسيادة الدولة التي تقود ما يسمى بـ “محور المقاومة” بأذرعه الممتدة على شكل هلال يحيط بالمنطقة العربية والشرق أوسطية في العراق وسوريا ولبنان واليمن. وذلك بعد اغتيال “الضيف الرئاسي” السيد إسماعيل هنية رئيس المكتب السياسي لحركة المقاومة الإسلامية “حماس” داخل أحد مباني الضيافة التابعة للحرس الثورى الإيراني أثناء زيارة هنية للمشاركة في حفل تنصيب الرئيس الإيراني الجديد مسعود بزكشيان. وكذلك الرد على مجمل ما تعرضت له من هجمات إسرائيلية وأمريكية استهدف قائد الحرس الثوري الإيراني قاسم سليماني؛ وعددًا كبيرًا من علماء الذرة الإيرانيين وصولًا إلى اغتيال الرئيس إبراهيم رئيسي الذي كان يعد لخلافة مرشد الثورة الإيرانية علي خامنئي، حيث تم إسقاط الطائرة الرئاسية وكان برفقة رئيسي وزير الخارجية حسين أمير عبد اللهيان وكل الملابسات والقرائن تشير إلى أنه حادث اغتيال وليس مجرد حادثة عارضة رغم صدور نتائج التحقيقات التي تصر على أنه حادث حفاظًا على ما تبقى من هيبة للدولة الفارسية ومؤسساتها.
تلك الهجمات وغيرها من اشتباكات وهجمات على المنشأت والمعسكرات واغتيالات بحق قيادات الأذرع الإيرانية في الإقليم جعلت نظام الملالي في موقف مطالب فيه بالرد ولم يترك له خيار الصمت أو القفز فوق الواقع الذي فرض عليه رغم كل ما يواجهه من تهديدات جادة وردع عسكري غير مسبوق على الأرض وفي المياه المحيطة في الخليج العربي والبحر المتوسط والبحر الأحمر وبحر العرب والمحيط الهندي. فطهران تجد نفسها أمام خيارين كلاهما صعب وله ثمن باهظ سيفقدها في كل الأحوال بعضًا من هيبتها ومكانتها وربما مشروعها الذي استثمرت فيه على مدار عقود؛ الخيار الأول: الرد وبقوة على كل الانتهاكات الإسرائيلية حفاظًا على هيبتها ومكانتها بين مؤيدي محور المقاومة وأذرعه، وكذلك استعادة الردع المفقود في وجه القادم من انتهاكات لن تتوقف. والخيار الثاني: الرضوخ للتهديدات والتضحية بمشروعها بالصمت والهروب من المواجهة المباشرة ومن ثَمّ مواجهة العزلة والسخرية والمزيد من الضغوط وفقدان أوراق التفاوض والابتزاز والردع، وستزيد الأمور سوءًا إذا ما فاز دونالد ترامب بعد ثلاثة شهور في انتخابات الخامس من نوفمبر القادم بكل إرثه الصعب مع إيران وسياساته المتشددة تجاهها.
وقد يفقدها هذا الصمت والهروب سيطرتها على أذرعها التي تسعى للثأر والرد على ما تعرضت له من هجوم إسرائيلي مباشر ومعلن، الحوثيين ردًا على قذف ميناء الحديدة؛ وحزب الله ردًا على اغتيال فؤاد شكر نائب زعيم الحزب والقائد العسكري الكبير، وربما تتمرد أي من تلك الأذرع الممتدة شرقًا وغربًا وشمالًا وجنوبًا وتخرج من بيت الطاعة الفارسي لأنها بالأساس جميعها أذرع تنتمي لبيئة وثقافة مختلفة وذات أصول عربية وتتعرض لضغوط داخلية كبيرة.
إيران الجريحة الفاقدة للردع تعرضت لتهديد ووصلت لها رسائل شتى بالقضاء على كل منشآتها النووية والبنية التحتية للمشروع النووي؛ كما تعرضت لتهديد باستهداف كل موانىء تصدير النفط والمنشآت النفطية والتي قد تعرضها لأزمة اقتصادية كبيرة تسكب المزيد من التبعات على حالة عدم الاستقرار الداخلي وتهدد بالإطاحة بالنظام الإيراني وتقطع يدها الممدودة لكل أذرعها في الإقليم والتي ستطالها الضربات العسكرية؛ بل إن بعض التسريبات ذكرت أن تهديدًا باغتيال المرشد الأعلى للثورة الإسلامية قد وصل طهران عبر قنوات متعددة على اعتبار أن اليد التي طالت كل ما تم اغتياله من قيادات وضيوف وأهداف قادرة على أن تصل إلى أي شخصية وأي منشأة داخل إيران حتى ولو كانت خاضعة لسيطرة وتأمين الحرس الثوري الإيراني؛ وهو ثمن تجد طهران بكل تاريخها البرجماتي والوظيفي أنها غير قادرة على دفعه والتضحية بالمشروع والمصداقية والكيان والأذرع إلا ما يتطلبه حفظ ماء الوجه؛ وهو الأمر الذي يفسر تأخير الرد وربما يجعلها تبحث في الكواليس عن رد يشبه ذلك الذي حدث في 13 إبريل الماضى؛ الرد الذي ما بعده رد من إسرائيل وأصدقائها من خلال هندسة المشهد بمعرفة وسطاء غربيين وعرب.
وقد تجد طهران حلًا وسطًا يحفظ لها بعض ماء الوجه من خلال ردود أفعال وهجمات تشنها أذرعها في اليمن ولبنان وسوريا والعراق، وهو عمل فيه توريط لشعوب وحكومات وثروات ومقدرات أرادت طهران أن تحمي بها مصالحها ومنشآتها ومشروعها وثرواتها وسيادتها وتدفع تلك البلدان ثمن المغامرات والحسابات والتطرف الإسرائيلي الإيراني في الإقليم، ذلك السيناريو يراه البعض أنه يحفظ للمرشد الأعلى هيبته ومصداقيته ويبعد النيران عن حدود إقامته رغم أنه طالب الحرس الثورى الإيراني في أول ردّ فعل له على اغتيال هنية بضرورة الرد والانتقام لاغتيال “الضيف الرئاسي” على الأراضي الإيرانية؛ وهو سيناريو يصب في مساعي الرئيس الجديد بزشكيان لتجنيب بلاده ضربات قاصمة تقضي على تجربته قبل أن تبدأ ولم تستقر له الأوضاع بعد.
ويمكننا أن نضع ونحلل ما يقوم به حزب الله من قصف يستهدف بعض القواعد والمنشآت العسكرية الإسرائيلية في هذا الإطار مثلما حدث صباح الأحد الماضي حين أعلن حزب الله أنه قصف عددًا من الأهداف العسكرية داخل إسرائيل، وحرص بيان الحزب وقائده حسن نصر الله على الربط بين القصف والانتقام لروح القيادي الذي تم اغتياله فؤاد شكر، ولم يتطرق لربطه باغتيال إسماعيل هنية؛ كما لم يربطه بأي من الأهداف الإيرانية المعلنة تبريرًا لضربة محتملة على إسرائيل من قبل طهران.
هجوم القنصلية ورد 13 إبريل.. استثناء
بشكل عام وبالنسبة لقادة إيران، كان الهجوم الذي شنته الطائرات الإسرائيلية في الأول من إبريل الماضي على القنصلية الإيرانية المجاورة للسفارة الإيرانية في دمشق انتهاكًا مبالغًا فيه وخارج قواعد الاشتباك واللعبة المتفق عليها ولو ضمنيًا، ولم يكن كذبة الأول من إبريل الشهيرة بل واقع جديد فرض على الملالي وأذرعهم خارج حدودها، والفشل في الرد من شأنه أن يظهر الضعف. إن هذا من شأنه أن يقوض بشكل أكبر موقف الردع الذي يكمن في قلب استراتيجية الدفاع الأمامي/المتقدم لطهران. ولكن حتى مع شن إيران لهجماتها غير المسبوقة على إسرائيل، استمرت في التحرك بحذر شديد، باحثة عن منع المزيد من التصعيد بدلًا من تشجيعه. وقد تم تبادل تفاصيل الهجوم مع الدول المجاورة قبل الضربات – بلا شك مع العلم الإيراني بأن هذه التفاصيل سوف يتم تمريرها بعد ذلك إلى الولايات المتحدة وإسرائيل وضمان الوقت الكافي للاستعداد لمنع وقوع إصابات أو أضرار جسيمة في إسرائيل ولم يستغرق الأمر أكثر من 12 يومًا.
كانت طهران أيضًا سريعة جدًا في الدعوة علنًا إلى إنهاء الدوامة التصعيدية، حين غردت بهذه الرغبة من بعثتها في الأمم المتحدة في نيويورك في الوقت الذي كانت الطائرات بدون طيار في الجو تحلق باتجاه إسرائيل. تواصل إيران إرسال رسالة واضحة للغاية مفادها أنها لا تريد حربًا مع إسرائيل أو الولايات المتحدة. بدلًا من ذلك، يزعم قادة إيران أن هدفهم الرئيسي كان إعادة تأكيد قواعد الاشتباك السابقة مع إسرائيل -قواعد الردع المتبادل حيث يتم احتواء المواجهة في “المنطقة الرمادية” ولا تنطوي على هجمات مباشرة. وعلى نحو مماثل، حتى مع استمرار حزب الله الآن في تصعيد طبيعة رده على الضربات الإسرائيلية، يبدو أن النية الدائمة هي إرساء قواعد جديدة للردع المتبادل بدلًا من إثارة حرب شاملة.
يعكس هذا التوجه رغبة إيرانية واضحة دائمة في تجنب الانجرار إلى حرب أوسع نطاقًا، وهي النقطة التي أكد عليها كل من خامنئي ونصر الله علنًا. ويعود هذا إلى الاعتراف بأن مثل هذا الصراع من شأنه أن يلحق أضرارًا مدمرة بالبنية التحتية العسكرية لحزب الله، مما يقلل بشكل كبير من قدرة حزب الله وإيران على الردع ضد إسرائيل، والتي تظل في نهاية المطاف ذات أهمية أعظم كثيرًا بالنسبة لطهران من مصير حماس والجهاد في قطاع غزة. وهناك تقارير تفيد بأن طهران تشعر بقلق عميق إزاء سيناريو الصراع المباشر مع إسرائيل أو الولايات المتحدة، وتسعى مع حلفائها في لبنان إلى إيجاد سبل لتجنب ذلك.
أسلوب الإغراق المعلوماتي
في أعقاب اغتيال هنية حدث ما يعرف إعلاميًا ومخابراتيًا بــ “الإغراق المعلوماتي” عن طبيعة العملية وتفاصيلها وكيفية تنفيذها، وخرج كل طرف براوية وسردية مختلفة تمامًا عن الطرف الآخر؛ إسرائيل المنفذة للعملية خرجت برواية وسربت أخرى، وإيران التي تلقت الضربة خرجت منها رواية رسمية توجه اتهامات لدول قريبة ورواية أخرى تتناقض مع الرسمية على لسان الحرس الثوري الإيراني الذي كان يستضيف الضحية؛ والولايات المتحدة وأجهزة مخابراتها التي تعلم التفاصيل بطريقة أو بأخرى سربت للإعلام والصحف روايات عدة، وعدد من أجهزة المعلومات والمخابرات في الإقليم عرفت أو كانت تعرف قبل العملية أو بعد حدوثها خرجت منها روايات وسرديات حتى عجت الساحة بالروايات والسرديات وسادت حالة اللا يقين عن المتلقي للرسالة وهو في حد ذاته يعد هدفًا للقائم بالاتصال السياسي والإعلامي، والجميع بنى سرديته وروايته طبقًا لسيناريو محتمل يرغب في السير فيه كالعادة في إدارة الأزمات من هذا النوع والذي تستخدم فيه السرديات والروايات بطريقة تمكنها من التسيد على بقية السرديات والروايات.
ولتحقيق هذه الغاية، كانت التفسيرات التي قدمتها طهران بشأن كيفية اغتيال هنية في بيت الضيافة التابع للحرس الثوري الإسلامي الإيراني تتطور باستمرار؛ وذلك من أجل التمكن من اختيار شكل الرد الذي من شأنه أن يضمن لإيران أنها ستلحق ضررًا كبيرًا بإسرائيل دون التورط في حرب إقليمية تطال حدودها وأراضيها ومواردها، وبسبب المحاولات الحثيثة بين مختلف الأجهزة الأمنية الإيرانية للتهرب من الاتهام بالتقصير والفشل واللوم على ضعف إن لم يكن انعدام الرقابة الأمنية التي سمحت بحدوث الاغتيال. في الوقت الذي يسعى المسئولون ووسائل الإعلام الإيرانية من أجل وضع تصور لكيفية ردع إسرائيل بشكل فعال، حيث من الواضح أن هجوم “الوعد الصادق” بالصواريخ والطائرات بدون طيار لم ينجح في ذلك. وقد تم الترويج لهذا الهجوم حينذاك على أنه تغيير في سياسة رد الفعل الإيرانية تجاه إسرائيل -أي من استخدام الوكلاء إلى الهجوم المباشر- وكان كبار المسئولين الإيرانيين قد زعموا أنه من الآن فصاعدًا سترد إيران على الهجمات الإسرائيلية عليها بهجمات مباشرة على إسرائيل.
في البداية، زعم النظام أن اغتيال هنية تم بصاروخ أطلق من خارج حدود البلاد من دولة قريبة، ثم من صاروخ أطلق بالقرب من موقع الاغتيال. وبالتالي، قال النظام: إن إسرائيل ستتعرض لضربات صاروخية وطائرات بدون طيار متفجرة قادمة من كل اتجاه، لتهديد شامل. ومع ذلك، كان من المتوقع أن تدفع خطوة كهذه إسرائيل إلى ضرب إيران بقوة. لذلك، زعم النظام بعد ذلك أن الاغتيال تم باستخدام عبوة ناسفة تم إدخالها إلى جناح هنية في بيت الضيافة تحت أنف الحرس الثوري الإيراني، بمساعدة أعضاء من الحرس الثوري الإيراني. وهذا أثار احتمال الرد الذي يتضمن هجمات إيرانية موازية على مواقع في إسرائيل ضد كبار المسئولين الإسرائيليين في الداخل والخارج الذين قالت إيران إنهم مسئولون عن الاغتيال. يسمح هذا الخيار لطهران بطلب المساعدة من عناصر غير إيرانية والتفاخر بأنها نفذت هجومًا ذكيًا ومركّزًا، وفي الوقت نفسه صد أي ضربة عسكرية إسرائيلية عليها أو على أصولها في المنطقة.
ولتحقيق هذه الغاية، فإن الرئيس بزشكيان يبذل مجهودًا “لإقناع” المرشد الأعلى بضرب أهداف محددة فقط ويا حبذا لو متفق عليها مع وسيط، وذلك لتجنب حرب إقليمية وحماية أمن إيران ومصالحها في مواجهة مطالب كبار المسئولين في الحرس الثوري الإيراني بالرد الفوري بهجوم صاروخي على إسرائيل بغض النظر عن الثمن الذي قد تدفعه إيران؛ بل إن البعض ذهب إلى القول إن بزشكيان لا يرغب في أي تصعيد عسكري قد يقطع عليه قنوات التواصل مع واشنطن.
ووفقًا للتقارير المسربة وسط حالة الإغراق الإعلامي والمعلوماتي، أثارت المناقشات في قيادة الأمن الإيرانية حول طبيعة الرد الإيراني احتمالات إضافية. وتشمل هذه الاحتمالات ضرب المصالح الإسرائيلية واليهودية في جميع أنحاء العالم؛ وتفويض مسئولية الرد إلى محور المقاومة، وخاصة حزب الله والحوثيين، والاستفادة من تهديد الهجوم الإيراني المباشر على إسرائيل والذي من شأنه أن يؤدي إلى حرب إقليمية في المفاوضات مع الولايات المتحدة بهدف انتزاع الإنجازات النووية الإيرانية، وتأمين رفع العقوبات الاقتصادية، والحصول على انسحاب القوات الأمريكية من المنطقة، ومطالب أخرى يدفع بها بزشكيان وفريقه إلى طاولة الأزمة.
على سبيل المثال، ذكرت صحيفة الجريدة الكويتية في التاسع من أغسطس الجارى أن مصدرًا في المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني قال إن مسألة الرد على إسرائيل لا تزال قيد المناقشة في طهران، وأن المسئولين ينتظرون أوامر محددة من المرشد الأعلى خامنئي لاتخاذ أي قرار بشأن الهجوم. وقال المصدر إن الولايات المتحدة اقترحت على إيران رفع جزء كبير من العقوبات الأمريكية المفروضة على إيران والعودة إلى الاتفاق النووي مقابل تراجع إيران عن نيتها مهاجمة إسرائيل. وقال الرئيس الإيراني بزشكيان ردًا على ذلك إن بلاده مستعدة لتأجيل الرد حتى إشعار آخر بناءً على الاقتراح الأمريكي بشرط أن يتضمن أيضًا وقفًا شاملًا لإطلاق النار في غزة وضمانات أمريكية بوقف أي عدوان إسرائيلي ضد إيران وحلفائها. وقال بزشكيان في اجتماع للمجلس الأعلى للأمن القومي إنه نسق هذا الرد مع خامنئي، وإذا قبلت الولايات المتحدة هذه الشروط، فسوف يقنع خامنئي بتأجيل الرد العسكري والمضي قدمًا في ردود الفعل الانتقامية الفردية -أي اغتيال المسئولين الإسرائيليين ردًا على اغتيال إسرائيل لعناصر تابعة لإيران.
يبدو أن طهران، التي تسعى دائمًا إلى تعظيم المكاسب السياسية من خلال دبلوماسية التهديد العسكري، تواصل التحذير من حقها في “الرد المناسب” على إسرائيل ودفع ثمن محسوب فقط للحصول على مكاسب سياسية واقتصادية وتعزيز صورتها في مواجهة إدارة بايدن وأوروبا من أجل دعم قواتها في الشرق الأوسط. في الوقت نفسه، لا يمكن استبعاد الهجمات الإرهابية المعزولة على أهداف محددة.
والمراقب للسياسة الإسرائيلية خلال تلك الأزمة وغيرها من الأزمات يتأكد في كل مرة من أن أسلوب الإغراق الإعلامي هو سمة مميزة ومصاحبة لكل تحركاتها في كل الأزمات وتستخدمه بكثافة في الضغط والتصعيد من خلال المحاولات المتكررة كي تطغى الرواية والسردية الإسرائيلية للأحداث والبيانات والكواليس والمعلومات على بقية الروايات الأخرى في إيقاع يتفوق على بقية الأطراف الذين يتحولون إلى رد فعل إما بالنفي أو بالتوضيح إلا أنه يظل لاعبًا على المساحة التي فرضت عليه بواسطة الإغراق الإعلامي، وبالتوازي نجحت في أن تخترف سردياتها الفضائيات والمواقع العربية التي تترجم وتعيد بث آراء وتحليلات وتصورات القنوات الثانية عشر والثالثة عشر والرابعة عشر الإسرائيلية واحتلت مساحات ممتدة من بث واهتمام القنوات العربية وبالتبعية المتلقي (المواطن العربي).
استراتيجية الدفاع الأمامي
على المستوى الاستراتيجي، تكمل استراتيجية “الدفاع الأمامي أو المتقدم” الإيرانية هذا الأساس الأيديولوجي من خلال تحويل الطموح إلى عمل. وذلك بتوسيع نفوذ إيران وإنشاء قوات بالوكالة في جميع أنحاء الشرق الأوسط، يسعى قادتها إلى ردع التهديدات المحتملة قبل أن تصل إلى الحدود الإيرانية. إن مفهوم الدفاع الأمامي، المعروف في الدوائر العسكرية الإيرانية باسم “الدفاع الهجومي”!، هو استراتيجية عسكرية تدمج العناصر الهجومية ضمن إطار أوسع قائم على الردع. ومن هذا المنظور، ينظر الاستراتيجيون العسكريون الإيرانيون إلى نهج بلادهم في الشرق الأوسط باعتباره مسعى لتعزيز “العمق الاستراتيجي” لإيران – وليس مشروعًا توسعيًا طموحًا وفقط. ويتلخص هدفهم في زيادة قدرة إيران على امتصاص ضربات العدو وتنفيذ ضربات مضادة، كل ذلك مع حماية الأمن الداخلي وسلامة الأراضي الإيرانية.
ونظرًا لأن عقودًا من حظر الأسلحة قد حدت من قدرة إيران على تطوير القدرات العسكرية التقليدية، في حين أحرز منافسوها في الشرق الأوسط -وخاصة المملكة العربية السعودية- تقدمًا كبيرًا في هذا المجال، فقد ركزت إيران على الأدوات غير المتكافئة، وأهمها حلفاؤها في محور المقاومة. وتشمل هذه الأدوات أيضًا استخدام الطائرات بدون طيار المنتجة محليًا والصواريخ المتوسطة إلى الطويلة المدى والقدرات البحرية غير المتكافئة، مثل الزوارق السريعة والطائرات بدون طيار والألغام البحرية (مثل تلك التي نشرتها إيران في مضيق هرمز على مدى السنوات الأخيرة). وتعكس هذه الاستراتيجية اعتراف إيران بالحدود التي تحد من قدراتها العسكرية التقليدية في مواجهة خصوم متفوقين عليها.
وقد ضاعفت طهران من هذه الاستراتيجية على مدى العقد الماضي مع تصاعد التوترات مع الولايات المتحدة وإسرائيل. وقد أسفر تدهور العلاقات عن فرض عقوبات اقتصادية معوقة تهدف إلى الحد من طموحات إيران النووية والإقليمية، فضلًا عن الاغتيالات المستهدفة والهجمات الإلكترونية ضد البنية الأساسية النووية الإيرانية. وقد أدى هذا إلى تفاقم تصورات القادة الإيرانيين للتهديد بشكل كبير، مما عزز اعتقادهم بالأهمية الاستراتيجية لتعزيز قدرات الردع في البلاد.
وتشكل لبنان وسوريا ساحتين مركزيتين لهذه الاستراتيجية. وعلى مدى العقود الأخيرة، بنت طهران نفوذًا سياسيًا وعسكريًا كبيرًا عبر البلدين، ويزعم كبار المسئولين الإيرانيين الآن أن “العمق الاستراتيجي الطبيعي” لإيران يمتد حتى البحر الأبيض المتوسط. وتشكل الأولويات الجغرافية قوة توجيهية للتركيز الاستراتيجي لإيران. إن الوجود الإيراني في جنوب لبنان يجعل حزب الله يشكل التحدي الأشد أهمية لإسرائيل في حالة اندلاع حرب متعددة الجبهات مع محور المقاومة. كما تشكل مرتفعات الجولان السورية -التي تحد إسرائيل- قيمة استراتيجية هائلة باعتبارها طبقة إضافية محتملة من الردع.
في الوقت نفسه، يخدم شرق سوريا غرضًا مرتبطًا ولكنه مختلف إلى حد ما بالنسبة لطهران، حيث يعمل كجسر بري لربط إيران عبر العراق بسوريا ولبنان. وتسهل السيطرة على هذه المنطقة الحركة الحرة للأفراد والإمدادات والأسلحة الإيرانية والمدعومة من إيران عبر الحدود، مما يتيح الانتشار السريع وإعادة الإمداد للمجموعات الوكيلة.
وعلاوة على ذلك، يسمح وجود إيران في شرق سوريا لها بمراقبة وزيادة الضغط على الأنشطة الأمريكية. كجزء من المهمة التي تقودها الولايات المتحدة ضد داعش، تحتفظ أمريكا بوجود عسكري صغير في ذلك الجزء من البلاد من خلاله تدعم حلفاءها في قوات سوريا الديمقراطية للاحتفاظ بسيطرتهم في الشمال الشرقي. كما تحتفظ الولايات المتحدة بحامية التنف في شرق سوريا، والتي -على الرغم من كونها جزءًا من المهمة ضد داعش- تهدف في الوقت نفسه إلى تحدي نفوذ إيران في المنطقة. وعلى الرغم من هذا الهدف، أصبحت القواعد الأمريكية في شرق سوريا (كما هو الحال في العراق) بشكل متزايد أهدافًا تهاجم من خلالها المليشيات المدعومة من طهران الولايات المتحدة بينما تحاول إيران إجبارها على الخروج من المنطقة.
لقد أكدت الحرب في غزة -من وجهة نظر قادة إيران- على قيمة هذا الموقف الاستراتيجي في تفكير القادة السياسيين والعسكريين. ومع تزايد خطر الحرب مع إسرائيل والولايات المتحدة، تزايدت أهمية سوريا ولبنان باعتبارهما مصالح استراتيجية إيرانية أساسية. والآن ينظر القادة في طهران إلى تحالفاتهم في كلا البلدين باعتبارها حجر الزاوية لأمن إيران وباعتبارها جبهة ردع موحدة في مواجهة إسرائيل. وهذه الجبهة التي تم بناؤها عبر سنوات عديدة من الدعم الإيراني -تاريخ من المشاركة المحلية- تحتاج أوروبا إلى استيعابها وهي تفكر في استجابة فعّالة من جانبها للديناميكيات الإقليمية المتصاعدة. تأتي بعدها في الأهمية جبهة الحوثيين الذين ينسجون علاقة فريدة مع القاعدة في اليمن بالتنسيق مع طهران وكذلك شباب الصومال على الضفة الأخرى من البحر كاستثمار يفيد الأهداف الحوثية الإيرانية كمصدر للتهديد والردع في المنطقة؛ وذلك بالتساوي في الأهمية مع المليشيات الشيعية التابعة في العراق التي تؤمن الفناء الخلفي لنظام الملالي ومصدر تهديد للقوات الأمريكية في بلاد الرافدين، ثم تأتي حماس والجهاد الإسلامي في مؤخرة سلم الأولويات والاستثمار حتى لو فرضت الأحداث في غزة منذ السابع من اكتوبر 2023 نفسها على الساحة وجذبت الاهتمام وتصدرت الأولوية.
ختامًا، يبدو أن الحسابات المعقدة والتردد يسيطران على الموقف، وأن كلاهما (إيران والولايات المتحدة) تخافان على مشروعيهما في المنطقة. إيران لن تضحي بحزب الله، الاستثمار والذراع الأكبر لها. والولايات المتحدة لن تضحي بإسرائيل أو تتركها بلا ردع وحماية في إقليم يُكن لها العداء على الأقل شعبيًا. وسواء يأتي الرد أو لا يأتي فستستمر الجولات والمعارك وفقًا لقواعد الاشتباك المتعارف عليها بما يحقق الهدف من الدور الوظيفي لكل من إسرائيل وإيران وتأثيرهما السلبي في دول الجوار الجغرافي ويبقي على حالتي الاستقطاب والاستنزاف بغض النظر عن حسابات نظرية المؤامرة؛ لأن الواقع فاق كل النظريات والجدل العقيم حول وجود المؤامرة من عدمها.