تعتبر الطاقة أحد العوامل الأساسية التي تحدد استقرار الاقتصاد العالمي، ويلعب الغاز الطبيعي دورًا حيويًا في هذا السياق، خصوصًا في أوروبا التي تعتمد بشكل كبير على الغاز لتلبية احتياجاتها في مجالات التدفئة والصناعة والكهرباء. على الرغم من أن أوروبا كانت تعتمد في السابق بشكل رئيسي على الغاز الروسي، فإن التوترات السياسية والجيوسياسية في السنوات الأخيرة، وخاصةً مع بدء الحرب الروسية في أوكرانيا، قد أثرت بشكل كبير على ديناميكيات السوق وأسواق الطاقة الأوروبية.
بشكل عام، تواجه أوروبا الآن تحديات كبيرة في ضمان تأمين إمدادات الغاز اللازمة لمواصلة تأمين حاجاتها الطاقية، ما يثير تساؤلات حول الأزمات المحتملة في المستقبل في حال استمرار الأوضاع الراهنة. في هذا السياق، تستعرض هذه الدراسة الوضع الحالي لسوق الغاز في أوروبا والتحديات التي قد تؤدي إلى أزمة طاقة في المستقبل القريب.
مدخل:
على الرغم من أن مفهوم أمن الطاقة لا يُعد من الأمور الحديثة في سياسات الاتحاد الأوروبي، فإنه أصبح اليوم يكتسب أهمية خاصة، ويُعد من أهم الأعمدة لجميع الدول الأوروبية. ولذلك فإن الهدف الأساسي لسياسة الطاقة الأوروبية هو العمل من أجل تأمين مصادر مستقرة تضمن إمداد المواطنين بكافة مصادر إنتاج الطاقة المختلفة. الحرب الروسية الأوكرانية لم تضع أوزارها حتى الآن، بل تشتد وطأتها يومًا بعد يوم لتستمر في إرباك المشهد العالمي، وبالأخص في ملف الطاقة. حيث تثير المزيد من الشكوك حول التوقعات المستقبلية للأسواق؛ وذلك لأنه مع اقتراب دخول الحرب عامها الثالث كان قطاع الطاقة العالمي من الأكثر تأثرًا وتقلبًا في نهاية العام الثاني من الحرب، حيث شهد العديد من التغييرات في صناعة الطاقة على مستوى العالم بشكل عام والقارة الأوروبية بشكل خاص.
استكمالًا لما سبق، فالأزمة متعلقة بروسيا التي تُعد من أهم شرايين الطاقة في العالم وتُشكل لاعبًا أساسيًا في أسواق الطاقة العالمية، حيث إنه مع بداية الحرب تأثرت أسواق الطاقة العالمية، وقامت الدول بخطوات استثنائية بهدف مواجهة تداعيات تلك الأزمة، إذ لجأ عديدٌ من دول العالم إلى المخزون الاستراتيجي من أجل تقليص الضغوط على الأسواق بهدف إرسال رسالة بأنه لن يكون هناك نقص في الإمدادات العالمي.
ملامح قطاع الغاز الطبيعي في القارة الأوروبية
على مدى أكثر من خمسين عامًا، ظلت موسكو المصدر الموثوق فيه لتوريد الغاز للقارة الأوروبية فيما استمر ذلك حتى في ذروة الحرب الباردة، حيث لعبت موسكو دورًا كبيرًا في تعزيز اعتماد ألمانيا –أكبر اقتصاد أوروبي– على مصادر الطاقة الروسية. وعلى وقع ذلك، شكل الغاز الروسي نموذجًا تجاريًا في أوروبا قوامه الأساسي الصادرات ومصادر الطاقة الرخيصة.
تستهلك دول القارة المختلفة حوالي 40% من الغاز الطبيعي القادم من موسكو، وذلك عبر خطوط الأنابيب (وذلك قبل الحرب الروسية الأوكرانية التي أدت إلى الوصول إلى حوالي 20%)، حيث تدفع يوميًا ما بين حوالي 200 و800 مليون يورو لموسكو مقابل الغاز الطبيعي. وبلغ إجمالي الإمدادات الروسية إلى القارة الأوروبية في نهاية عام 2021 نحو 155 مليار متر مكعب، ويبلغ حجم الغاز الذي يمر عبر الأنابيب المارة في أوكرانيا حوالي 52 مليار متر مكعب (نسبة حوالي 33% من إجمالي الإمدادات).
يُشكل فقدان الغاز الروسي الذي كان يُمثل خيارًا اقتصاديًا نسبيًا، صدمة كبيرة لقطاعات الصناعة الأوروبية، منذ بداية الأزمة، إذ أغلقت عشرات المصانع أبوابها، ما أدى إلى فقدان نحو مليون وظيفة خلال السنوات الـ4 الماضية. ويعاني القطاع الصناعي الأوروبي من تناقص القدرة التنافسية بسبب ارتفاع أسعار الغاز والطاقة بوجه عام، التي تضاعفت بمقدار حوالي 4 إلى 5 أضعاف مقارنة بالولايات المتحدة التي يُتداول الغاز فيها عند حوالي 3.095 دولارًا لكل مليون وحدة حرارية بريطانية، ما يعادل 10.02 يورو لكل ميغاواط/ساعة.
ومن الجدير بالذكر أن موسكو قلصت التدفقات عبر خط الأنابيب نورد ستريم الذي ينقل الغاز الروسي إلى الدول الأوروبية إلى حوالي 40% في يونيو 2023، وحوالي 30% في يوليو 2023، بالإضافة إلى قطع الإمدادات عن عدة دول أوروبية مثل بلغاريا والدنمارك وفنلندا وهولندا وبولندا، وخفضت التدفقات عبر خطوط أنابيب أخرى منذ بدء حربها على أوكرانيا، كما هو موضح في الشكل التالي.
علاوة على ذلك، يساهم الغاز الطبيعي في إنتاج نحو حوالي 20% من إجمالي الكهرباء المولدة داخل الاتحاد الأوروبي، بالإضافة إلى استخدامه في الصناعات كثيفة الاستهلاك للطاقة، وكذلك في التدفئة المنزلية، ولا يُشكل الإنتاج المحلي لدول الاتحاد الأوروبي سوى حوالي 9% من إجمالي استهلاك الغاز في 2023، ويوضح الشكل التالي معادلة الطاقة الأوروبية.
أمام ما تقدم، تستعد دول الاتحاد الأوروبي لأبرد شتاء منذ بدء غزو روسيا لأوكرانيا، مما يؤدي إلى زيادة تكاليف الطاقة مع تسارع استنزاف القارة لاحتياطاتها من الغاز بشكل أكبر من المعتاد، ومن المتوقع أن تظل درجات الحرارة بين شهر ديسمبر 2024 ومارس 2025 أقل من مستويات العامين الماضيين، ومن المرجح أن يؤدي ذلك إلى ارتفاع الطلب على التدفئة إلى أعلى مستوى منذ بداية الحرب في أوكرانيا.
وبشكل عام، تظل القارة الأوروبية معرضة للاضطرابات الجوية، حيث من المتوقع أن يزيد الشتاء البارد من الضغوط على أسعار الغاز والطاقة التي تشهد ارتفاعًا بالفعل. وقد يتزامن هذا مع توقف تدفقات الغاز عبر أوكرانيا اعتبارًا من الأول من يناير 2025 (مخاطر مستقبلية)، عندما تنخفض درجات الحرارة عادة إلى أدنى مستوياتها. هنا تجدر الإشارة إلى أن واردات الاتحاد الأوروبي من الغاز الطبيعي المسال الروسي انخفضت بشكل طفيف عام 2023، بعد الزيادة الكبيرة التي شهدتها في عام 2022، فيما تتزايد الثقة في قدرة التكتل على التخلص تمامًا من واردات الوقود الأحفوري من موسكو.
وبالنظر إلى مستويات أسعار الغاز في دول الاتحاد الأوروبي، نجد أن أسعار الغاز ارتفعت إلى أعلى مستوياتها منذ أكثر من عام، وهو الأمر الذي يعيد إلى الأذهان أزمة الطاقة التي عصفت بدول الاتحاد الأوروبي عام 2022، والتي أدت إلى إغلاق العشرات من المصانع، وخفض الشركات أنشطتها ووظائفها، إذ أدت أسعار الغاز المرتفعة إلى تقويض قدرتها التنافسية. وعليه، تتواصل الجهود الأوروبية لمواجهة أزمة الإمدادات المرتقبة وتعويض الفجوة عبر واردات الغاز المسال، ما زاد من المنافسة مع الأسواق الآسيوية على الإمدادات المتاحة من الولايات المتحدة والشرق الأوسط، إذ استوردت أوروبا، في نوفمبر 2024، حوالي 170 شحنة من الغاز الطبيعي المسال، بحجم حوالي 11.4 مليار متر مكعب، ووصلت معدلات التخزين إلى نسبة حوالي 85-90%، أي أقل بـ10% مقارنة بالعام الماضي 2023، أي بنحو 10 مليارات متر مكعب، كما هو موضح في الشكل التالي.
من المتتوقع أن تتجاوز أسعار الغاز في أوروبا حاجز 70 يورو لكل ميجاوات/ساعة في العام المقبل 2025، مقارنة بحوالي 50 يورو حاليًا، وهو ما يمثل حوالي 5 أضعاف التكلفة في الولايات المتحدة، إذ ساعد التوتر الناجم عن انتهاء صلاحية اتفاق نقل الغاز الروسي عبر أوكرانيا في تعزيز عمليات الشراء.
إن الزيادة الملحوظة في أسعار الغاز في أوروبا ترجع إلى عدة أسباب:
- انتهاء اتفاقية العبور مع أوكرانيا بحلول نهاية عام 2024، وقد تتوقف تدفقات تصدير الغاز المتبقية عبر خطوط الأنابيب التي تمر عبر هذا البلد إلى المستهلكين في أوروبا الوسطى والشرقية، وهذا الوضع يضع بعض الضغوط على أسعار الطاقة.
- المعركة القانونية بين إحدى الشركات التابعة لشركة غازبروم والشركة النمساوية، وقد أعلنت الشركة مؤخرًا عن قرار إيجابي بالتحكيم الأجنبي في نزاع مع شركة غازبروم للتصدير، وتعتزم شركة النمساوية استرداد حوالي 230 مليون يورو من الشركة الروسية، وهذا الوضع، خلق خطر التوقف الكامل للإمدادات إلى النمسا.
- بداية موسم التدفئة، ومن الطبيعي أن يزيد الطلب على الوقود، خاصةً في ظل درجات الحرارة المنخفضة السائدة في أوروبا.
- خفض إنتاج محطات طاقة الرياح، ويزيد الطقس الهادئ من استهلاك الغاز لإنتاج الكهرباء، مما يزيد من السحب من منشأة تخزين الغاز تحت الأرض.
- رفض السلطات الألمانية رفضت قبول الغاز الطبيعي المسال الروسي في محطة برونسبوتيل في شمال البلاد، وقد تم اتخاذ هذا القرار فيما يتعلق بسياسة رفض استيراد الغاز الطبيعي المسال الروسي، والتي تهدف إلى تقليل اعتماد الاتحاد الأوروبي على إمدادات الطاقة من الاتحاد الروسي.
أسباب تدهور وضع سوق الغاز في أوروبا
الاعتماد على الغاز الروسي: كان الغاز الروسي يشكل المصدر الرئيسي للإمدادات الأوروبية على مدار عقود، حيث كان يشكل حوالي 40% من إمدادات الغاز الأوروبية. لكن منذ بدء الحرب الروسية في أوكرانيا، تراجعت إمدادات الغاز الروسي بشكل كبير نتيجة العقوبات المفروضة على روسيا من قبل الاتحاد الأوروبي، ما أثر على إمدادات الغاز في القارة. لا تزال التساؤلات المتعلقة بالغاز الروسي تلقي بظلالها على المشهد العام. لم تُعد روسيا اللاعب الرئيسي كما كانت في السابق في مجال إمدادات الغاز إلى الاتحاد الأوروبي. فقد انخفضت حصة الغاز الروسي المنقول عبر خطوط الأنابيب الذي تستورده الدول الأعضاء من 40% في عام 2021 إلى نحو 9% في عام 2023.
ومع ذلك، تشير البيانات الحديثة إلى أن واردات الغاز الطبيعي المسال الروسي (LNG) إلى الاتحاد الأوروبي قد شهدت ارتفاعًا، مما يجعل الغاز الروسي لا يزال يُشكل حوالي 18% من إجمالي واردات الاتحاد الأوروبي من الغاز، بزيادة تقارب 5% مقارنةً بالعام 2022. لكن يبدو أن الغاز المنقول عبر خطوط الأنابيب يقترب من نهايته. فقد أوقفت النمسا، التي كانت واحدة من آخر الدول الأوروبية التي لا تزال تستقبل الغاز عبر هذه الخطوط من روسيا، تدفق الغاز الروسي بعد نزاع قانوني مع شركة غازبروم الروسية المملوكة للدولة، وبينما لا تزال سلوفاكيا والمجر تتلقيان الغاز الروسي عبر خطوط الأنابيب. وهنا تجدر الإشارة إلى أن النرويج احتلت المرتبة الأولي في قائمة الدولة المصدرة للغاز عبر الأنابيب عام 2023، كما هو موضح في الشكل التالي.
أزمة الحرب في أوكرانيا: اندلاع الحرب الروسية في أوكرانيا أدى إلى تعطيل إمدادات الغاز عبر أنابيب الغاز التي تمر عبر الأراضي الأوكرانية، كما أدى إلى خفض أو توقف الشحنات من روسيا عبر البحر الأسود. ومع تصاعد التوترات، قامت العديد من الدول الأوروبية بتخزين الغاز لتلبية احتياجاتها الشتوية، الأمر الذي يعكس ضعف الأمن الطاقي في المنطقة.
ارتفاع الأسعار: مع تراجع إمدادات الغاز، ارتفعت الأسعار بشكل كبير، ما أثر على الاقتصادات الأوروبية، التي تعتمد بشكل كبير على الطاقة لتلبية احتياجات الصناعة والنقل. وقد دفع ذلك إلى زيادة الضغوط على الأسر الأوروبية والشركات، خاصة في دول جنوب وشرق أوروبا.
التهديدات المستقبلية لأزمة الغاز في أوروبا
تسابق القارة الأوروبية الزمن لتعويض الغاز الروسي من دول أخري ولكن ذلك أمر صعب، إن لم يكن مستحيلًا، فكل مصادر الغاز الأخرى بعيدة ومكلفة، وتحتاج إلى بنية تحتية بمليارات من اليورو كمحطات الإسالة وخطوط الأنابيب، وفي غياب التوافق الأوروبي يظل الأمر معقدًا. وعليه يمكن تلخيص التهديدات المستقبلية لأزمة الغاز في النقاط التالية:
انقطاع الإمدادات في فصل الشتاء: يعتبر الشتاء هو الفترة التي تشهد أعلى استهلاك للغاز الطبيعي، مما يثير المخاوف من حدوث نقص في الإمدادات مع تراجع المخزون الأوروبي. وإذا استمرت الظروف الحالية، فإن عدم القدرة على تأمين الغاز سيؤدي إلى ارتفاع حاد في الأسعار، ما قد يضر بالاقتصادات الأوروبية ويزيد من حالة عدم الاستقرار الاجتماعي.
إغلاق الأنابيب والمرافق: من المتوقع أن تؤدي التوترات الجيوسياسية في المستقبل إلى مزيد من إغلاق خطوط الأنابيب أو تعطيل شحنات الغاز الطبيعي المسال، ما يعمق الأزمات ويزيد من تذبذب الإمدادات.
التأثير على الصناعات: تعتمد العديد من الصناعات الأوروبية على الغاز الطبيعي لتشغيل منشآتها، مثل الصناعات الكيميائية، والأسمدة، وقطاع الكهرباء. في حال حدوث نقص كبير في الغاز، سيؤدي ذلك إلى تباطؤ الإنتاج وزيادة في تكاليف التشغيل، ما يضر بالنمو الاقتصادي.
تبدو الآفاق الاقتصادية والصناعية في أوروبا قاتمة في ظل استمرار أزمة الغاز الطبيعي. فمع تآكل المخزونات وارتفاع التكاليف، يواجه الاتحاد الأوروبي تحديًا مزدوجًا يتمثل في تأمين إمدادات الطاقة وضمان بقاء القطاع الصناعي تنافسيًا.
علاوة على ذلك، هناك مخاوف مستقبلية، حيث من المتوقع نتيجة لتلك الخطوة الأوكرانية ارتفاع أسعار الغاز بداية العام المقبل، بالإضافة إلى الصراعات الجيوسياسية التي لها تأثير كبير على توفير البدائل الآمنة من إمدادات الغاز إلى القارة الأوروبية، كما هو موضح في الشكل التالي.
استراتيجيات الاتحاد الأوروبي لتفادي الأزمة
أظهرت الأزمة الحالية بوضوح هشاشة النظام الطاقي الأوروبي ومدى تبعيته لمصادر خارجية، خاصةً في مجالات الغاز الطبيعي. ومع توقف أو تراجع تدفقات الغاز من روسيا، أصبحت الدول الأوروبية تواجه تحديات كبيرة في ضمان تلبية احتياجاتها من الطاقة خلال فترات الذروة مثل فصل الشتاء. مما يعكس حاجة ملحة لإيجاد حلول طويلة الأمد وفعالة، من أبرز هذه الحلول تنويع مصادر الغاز من خلال تعزيز الاستيراد من دول أخرى مثل الولايات المتحدة وقطر، بالإضافة إلى تفعيل مشاريع البنية التحتية الخاصة بالغاز الطبيعي المسال التي قد تساهم في تقليل الاعتماد على أنابيب الغاز التقليدية.
تنويع مصادر الغاز: قامت أوروبا بتكثيف جهودها لتنويع مصادر الغاز، مثل استيراد الغاز الطبيعي المسال من الولايات المتحدة وقطر. كما تهدف إلى بناء بنية تحتية جديدة لتسهيل تدفقات الغاز الطبيعي المسال في المستقبل، بما يساعد على تقليل الاعتماد على الغاز الروسي.
تحسين التخزين الاحتياطي: تبنت أوروبا استراتيجيات لتخزين كميات أكبر من الغاز استعدادًا للفترات الشتوية. في إطار هذه الجهود، أطلقت بعض الدول الأوروبية برامج لتخزين الغاز في منشآت تحت الأرض لضمان الاستجابة السريعة في حالة حدوث نقص.
الطاقة المتجددة: تعتبر الطاقة المتجددة أحد الحلول المهمة لتقليل الاعتماد على الغاز والفحم في المستقبل. تزداد الاستثمارات الأوروبية في مصادر الطاقة المتجددة مثل الطاقة الشمسية والرياح، وهي تدابير تهدف إلى تعزيز الأمن الطاقي والحد من التغيرات المناخية.
خلاصة القول، إن الوضع الحالي لسوق الغاز في أوروبا يُشكل تحديًا معقدًا على العديد من الأصعدة، سواء الاقتصادية أو السياسية أو البيئية. منذ تفجر الأزمة الروسية الأوكرانية في عام 2022، شهدت القارة الأوروبية تحولًا جذريًا في هيكل إمدادات الطاقة، حيث كانت تعتمد بشكل كبير على الغاز الروسي الذي كان يُشكل جزءًا كبيرًا من استهلاكها. ولكن مع تزايد التوترات السياسية، والانقطاع المتزايد في إمدادات الغاز من روسيا، أصبحت أوروبا أمام أزمة طاقة حقيقية تهدد استقرارها الاقتصادي والاجتماعي. وقد أدى ذلك إلى تفاقم حالة التضخم وارتفاع تكاليف الطاقة، ما ألحق أضرارًا بالعديد من القطاعات الاقتصادية في أوروبا. ومع استمرار ارتفاع الأسعار والتأثير الكبير على الصناعات التي تعتمد على الغاز في عملياتها الإنتاجية، ستكون أوروبا في حاجة إلى استراتيجيات أكثر قوة لضمان استقرار أسواقها الطاقية. وفي هذا السياق، تعتبر مصادر الطاقة المتجددة من أبرز الخيارات التي يمكن أن تساعد القارة في التخفيف من الاعتماد على الوقود الأحفوري. تدرك دول الاتحاد الأوروبي الآن أن الانتقال إلى الطاقة المتجددة لم يُعد خيارًا، بل ضرورة استراتيجية من أجل مواجهة التحديات المستقبلية المتعلقة بالأمن الطاقي والتغيرات المناخية.
وفي ضوء هذه المتغيرات، يبرز التساؤل حول مدى قدرة أوروبا على تحقيق التوازن بين تأمين إمدادات الغاز الضرورية في المدى القريب، وبين التحول نحو مصادر طاقة أكثر استدامة في المدى البعيد. تعتبر الأزمة الحالية بمثابة اختبار حقيقي لمرونة الاتحاد الأوروبي في التعامل مع الأزمات الطاقية وتقدير المخاطر المستقبلية، وبينما تُشكل هذه التحديات اختبارًا للقدرة على الصمود، فهي في الوقت ذاته تمثل فرصة ذهبية لتعزيز التعاون الإقليمي والدولي في قطاع الطاقة، وتوسيع دائرة الاستثمارات في حلول الطاقة المتجددة، ما قد يفضي إلى تغيير جذري في مشهد الطاقة الأوروبي.
وفي الأخير، في ظل الأزمات المتعددة والمتجددة، يتعين على الدول الأوروبية تطوير استراتيجيات أكثر تنوعًا ومرونة لضمان تأمين احتياجاتها الطاقية، والتحول نحو مصادر طاقة أكثر أمانًا واستدامة. إن الخروج من هذه الأزمة لن يكون مجرد مهمة عابرة، بل سيشكل عملية طويلة الأمد تتطلب التعاون الوثيق بين الدول الأوروبية على مختلف الأصعدة، من أجل بناء بنية طاقية قادرة على تحمل تقلبات الأسواق العالمية ومواجهة تحديات المستقبل بكل قوة.
دكتور مهندس متخصص في شؤون النفط والطاقة