تجتمع لجنة السياسة النقدية للبنك المركزي المصري يوم الخميس 26 ديسمبر في آخر اجتماعاتها لعام 2024، وسط توقعات غالبية المحللين بعدم تغيير معدلات الفائدة الأساسية. تأتي هذه التوقعات في إطار المعطيات الاقتصادية الحالية سواء على الصعيدين المحلي أو العالمي، خاصة مع تراجع التضخم في مصر، وإن كان ذلك بوتيرة بطيئة.
في الوقت الراهن، تتراوح أسعار الفائدة للبنك المركزي المصري على أدواته الأساسية. حيث يسجل سعر عائد الإيداع لليلة واحدة 27.25%، بينما يسجل سعر عائد الإقراض لليلة واحدة 28.25%، بينما يبلغ سعر العملية الرئيسية 27.75%. في حين يستقر سعر الائتمان والخصم عند 27.75%.
السياسة النقدية في ٢٠٢٤
خلال العام 2024، وفي إطار تشديد السياسة النقدية للسيطرة على الموجة التضخمية، قام البنك المركزي بتحريك أسعار الفائدة مرتين متتاليتين في اجتماعي فبراير ومارس بإجمالي 8% (800 نقطة أساس). ومنذ قرارات مارس التي تضمنت تطبيق موجة جديدة من التسعير العادل للعملة المصرية أمام سلة العملات الأخرى، أبقى البنك المركزي على معدلات الفائدة دون تغيير طوال خمسة اجتماعات متتالية.
في اجتماعه الأخير المنعقد في 21 نوفمبر الماضي، قال البنك المركزي إن سياسة التشديد النقدي التي اتبعتها البنوك المركزية على مستوى العالم قد أسهمت في انحسار التضخم عالميًا، وهو ما شجع بعض البنوك المركزية على خفض أسعار الفائدة تدريجيًا مع التمسك بسياسة التشديد النقدي بهدف الإبقاء على المسار النزولي للتضخم والوصول به إلى مستوياته المستهدفة.
أشار البنك المركزي إلى بعض التحديات التي تهدد النمو العالمي المستقر إلى حد ما في الوقت الراهن، والتي تشمل تأثير السياسات النقدية التقييدية في نمو النشاط الاقتصادي، التوترات الجيوسياسية، واحتمالية عودة السياسات التجارية الحمائية بعد إعلان فوز دونالد ترامب بالرئاسة الأمريكية. كما لفت المركزي إلى أنه رغم زيادة التوقعات بانخفاض الأسعار العالمية للسلع الأساسية، وخاصة الطاقة، فإن التوقعات بمعاودة المسار الصعودي للتضخم عالميًا لا تزال قائمة، خاصة مع استمرار تعرض أسعار السلع الأساسية لصدمات العرض مثل الاضطرابات العالمية وسوء أحوال الطقس.
على المستوى العالمي، ورغم التزام الفيدرالي الأمريكي بالتيسير الحذر للسياسة النقدية في ضوء بيانات الاقتصاد الأمريكي، وخاصة التضخم والبطالة، فقد جاءت تصريحات رئيسه، جيروم باول، في آخر اجتماعات مراجعة أسعار الفائدة كإنذار لاحتمالية معاودة التضخم مساره الصعودي مرة أخرى، خاصة مع عودة السياسات الحمائية بعد انتخاب دونالد ترامب رئيسًا للولايات المتحدة. ويُذكر أن سياسة التشديد النقدي التي اتبعها الفيدرالي قد نجحت في خفض التضخم في الولايات المتحدة بعد أن بلغ أعلى مستوياته في 40 عامًا خلال العام 2022؛ مما ساعد في تجنب دخول الاقتصاد الأمريكي في حالة ركود.
محليًا، انخفض معدل التضخم السنوي العام في نوفمبر لأول مرة خلال ثلاثة أشهر ليصل إلى 25% مقارنة بمستوى 26.3% في أكتوبر، وفقًا لأحدث بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، وهو ما عُزي إلى التراجع في أسعار بعض السلع الأساسية مثل الخضراوات واللحوم والدواجن والخبز والحبوب. كما تراجع معدل التضخم السنوي الأساسي وفق حسابات البنك المركزي المعلنة مؤخرًا وللشهر الثالث على التوالي، ليصل إلى 23.7% مقارنة بـ 24.4% في أكتوبر.
ورغم هذا التراجع، فإن معدلات التضخم لا تزال بعيدة عن مستهدفات المركزي المحددة عند 7% (±2%) خلال الربع الحالي من العام الجاري، وعند 5% (±2%) في الربع الأخير من 2026. ومن واقع معدلات التضخم المعلنة والمتوقعة لشهر ديسمبر الجاري، يمكن التأكيد على أن المركزي لن يتمكن من الوفاء بمستهدفه للربع الحالي، وأنه من الضروري مراجعة المستهدفات المحددة في ضوء بيانات الاقتصاد المحلي والعالمي. وحتى مع أكثر التوقعات تفاؤلًا، ستظل معدلات التضخم في مصر بعيدة عن المستهدف خلال العام المقبل أيضًا.
وفقًا لآخر تحديث لتقرير آفاق الاقتصاد الإقليمي لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وآسيا الوسطى الصادر عن صندوق النقد الدولي في نوفمبر الماضي، من المتوقع أن يشهد معدل التضخم في مصر تراجعًا ليصل إلى 16% بنهاية السنة المالية الحالية 2024/2025، المنتهية في يونيو 2025. وأرجع التقرير هذا التراجع المتوقع بشكل أساسي إلى تأثير سياسة التشديد النقدي المتبعة من البنك المركزي المصري.
١٩٪ زيادة منذ مارس ٢٠٢٢
تجدر الإشارة إلى أن البنك المركزي المصري بدأ تطبيق سياسة التشديد النقدي في مارس 2022، وذلك عبر التحرك على صعيد التسعير العادل للعملة، في أعقاب تطبيق السياسة نفسها من قبل البنوك المركزية العالمية، خاصة في الولايات المتحدة وأوروبا، بالإضافة إلى الأسواق الناشئة، وذلك للتعامل مع التداعيات الوخيمة للحرب الروسية الأوكرانية التي اندلعت في الشهر ذاته. الحرب أدت إلى خروج أكثر من 22 مليار دولار من استثمارات الأجانب في أدوات الدين قصيرة الأجل، المعروفة بالأموال الساخنة؛ مما أثر بشكل ملحوظ في السيولة الدولارية في السوق واحتياطي مصر الأجنبي لمدة تجاوزت العامين.
خلال هذه الفترة وحتى الآن، قام البنك المركزي بتحريك أسعار الفائدة بمجموع 19% (1900 نقطة أساس) لتستقر عند المستويات التي تم ذكرها سابقًا.
وفي تقريرها الصادر في سبتمبر الماضي، توقعت فيتش سوليوشنز تراجع التضخم في مصر إلى ما دون 20% بحلول فبراير المقبل. كما توقعت أن يقوم البنك المركزي بتخفيض أسعار الفائدة الأساسية بواقع 12% (1200 نقطة أساس) خلال عام 2025 استجابة للتراجع المتوقع في التضخم.
مؤشرات تعكس سلامة توجهات المركزي
مع التراجع المحدود في التضخم والتوقعات باستمرار هذا التراجع، يبدو أن سياسة التشديد النقدي بدأت في إظهار نتائج إيجابية بالنظر إلى مؤشرات اقتصادية أخرى. فوفقًا لأحدث بيانات البنك المركزي، فقد نمت ودائع العملاء بالبنوك بنسبة 6.5% لتسجل حوالي 12.8 تريليون جنيه بنهاية سبتمبر الماضي، مقارنة بحوالي 12 تريليون جنيه بنهاية يونيو الماضي (نهاية السنة المالية 2023/2024). كما ارتفعت الودائع بالعملات الأجنبية للأفراد خارج القطاع الحكومي في بنوك مصر بأكثر من 5 مليارات دولار خلال التسعة أشهر الأولى من العام الجاري، لتسجل حوالي 56 مليار دولار بنهاية سبتمبر، مقارنة بـ 50.5 مليار دولار بنهاية ديسمبر 2023.
وفي إطار سعيه لتعزيز السيولة النقدية، كثف البنك المركزي وتيرة سحب السيولة من السوق مؤخرًا من خلال العطاءات المفتوحة من البنوك.
الخلاصة
التحديات الاقتصادية صعبة بلا شك، ومن المتوقع أن تزداد حدتها مع السياسات التي قد يتم تطبيقها بعد تنصيب دونالد ترامب رئيسًا للولايات المتحدة، خاصة فيما يتعلق بتعزيز قيمة الدولار الأمريكي وزيادة التعريفات الجمركية. مع توقعات صعود التضخم عالميًا، ستكون هذه العوامل تحت نظر صانعي القرار في مصر عند اتخاذ قرارات السياسة النقدية، على المستوى المحلي، بدأت سياسة التشديد النقدي تؤتي ثمارها بالنظر إلى المؤشرات الاقتصادية الحالية، إلا أن هناك حاجة إلى التيسير النقدي خلال العام المقبل لتشجيع الاستثمار والاقتراض على حد سواء. هذا من شأنه أن يعطي دفعة قوية للسوق المحلية، ولكن يجب أن تظل وتيرة التيسير متواضعة بالنظر إلى التحديات العالمية المتوقعة. في هذا السياق، يجب أخذ العوامل التالية في الاعتبار، تتطلب المرحلة الحالية تطبيق سياسة نقدية صارمة ومرنة في الوقت ذاته، حيث ينبغي مراجعة أسعار الفائدة بشكل دوري بما يتماشى مع المؤشرات الاقتصادية المحلية والعالمية. من الضروري أيضًا الاستمرار في التحكم بعرض النقود للحد من حدوث تضخم مفرط؛ مما يسهم في استقرار الاقتصاد المحلي، على صعيد آخر، يجب التركيز على تحسين الإنتاجية من خلال تشجيع الاستثمارات في القطاعات الإنتاجية لزيادة العرض المحلي، كما أن دعم المشروعات الصغيرة والمتوسطة يعتبر أمرًا بالغ الأهمية لزيادة القدرة التنافسية، خاصة وأن هذه المشروعات تمثل 98% من القطاع الخاص في مصر.
وفيما يتعلق بالرقابة على الأسعار، من الضروري مراقبة الأسواق للحد من الممارسات الاحتكارية وضمان الشفافية من خلال توفير المعلومات اللازمة للمستهلكين. من جهة أخرى، يجب تشجيع الإنتاج المحلي وتوفير بدائل للمنتجات المستوردة ذات الجودة المقبولة، بما يسهم في الوفاء بالطلب المحلي وتحسين عجز الميزان التجاري من خلال تقليل الاستيراد. بالإضافة إلى ذلك، من المهم التركيز على أسواق بديلة لتوفير السلع وتصدير المنتجات المصرية، من جانب آخر، يتطلب الأمر تطوير البنية التحتية بشكل مستمر، خاصة في مجال النقل والخدمات اللوجستية لتقليل تكاليف نقل السلع والبضائع داخل الجمهورية. كما يجب الاستثمار في قطاعات الطاقة والمياه لتحسين كفاءة الإنتاج؛ مما سينعكس إيجابًا على جودة البضائع والمنتجات.
تعزيز برامج الدعم الاجتماعي أمر بالغ الأهمية أيضًا، إذ يجب توفير دعم مباشر للفئات الأكثر تضررًا من ارتفاع الأسعار، يمكن التوسع في برنامج “حياة كريمة” ليشمل عددًا أكبر من الأسر، مع رفع نسبة الدعم المقدم بما يتناسب مع مستويات الأسعار والتضخم. كما يجب تحسين برامج الحماية الاجتماعية الأخرى لتخفيف الأعباء عن المواطنين، وأخيرًا، يتعين تعديل مستهدفات البنك المركزي لمستويات التضخم لتكون أكثر واقعية في ضوء المؤشرات الاقتصادية الحالية والمستقبلية، بما يضمن استدامة استقرار الاقتصاد الوطني.
ولا شك أن برنامج التسهيل الائتماني الممتد الممنوح لمصر من صندوق النقد الدولي بقيمة 8 مليارات دولار يعد دعمًا مهمًا للموجة الثانية الحالية من الإصلاحات الاقتصادية والهيكلية. هذا البرنامج يحدد لمصر سياسة عامة لإدارة الاقتصاد بالتوافق بين الحكومة وصندوق النقد، بهدف تحسين المؤشرات الاقتصادية التي من المتوقع أن تنعكس بشكل إيجابي على المواطن، من حيث مستوى معيشته والخدمات المقدمة له.