في خطوة تحمل دلالات استراتيجية كبيرة، أصبحت إندونيسيا أول دولة من جنوب شرق آسيا تنضم رسميًا إلى مجموعة البريكس؛ مما يعكس تحولًا في المشهد الاقتصادي والجيوسياسي العالمي. وتمثل هذه الخطوة تحولًا جوهريًا في سياسة إندونيسيا الخارجية، كما تأتي في وقت حساس على الصعيدين الإقليمي والدولي. في الوقت ذاته، يعكس انضمام إندونيسيا إلى البريكس رغبتها في تعزيز مكانتها الاقتصادية والدبلوماسية في ظل عالم متغير، ويعكس أيضًا تطورًا في التوجهات العالمية نحو تعزيز التعاون بين الدول النامية. وفي هذا المقال سنستعرض دوافع إندونيسيا للانضمام إلى البريكس، وتأثيرات هذه الخطوة في الساحة الإقليمية والدولية، بالإضافة إلى ما تمثله هذه الديناميكية في النظام العالمي المتغير.
دوافع الانضمام
أعلنت الحكومة البرازيلية عن انضمام إندونيسيا رسميًا إلى مجموعة البريكس؛ مما يمثل خطوة نحو تعزيز التعاون بين الاقتصادات الناشئة. وهذا الانضمام جاء ضمن حملة توسع شامل للمجموعة، التي تم الإعلان عنها خلال قمة جوهانسبرج 2023 عبر ضم دول جديدة للتجمع لزيادة قوته وفاعليته ضمن ما يعرف “بريكس بلس”. وتعكس خطوة انضمام إندونيسيا إلى مجموعة البريكس تطلعاتها الاستراتيجية لتعزيز موقعها كقوة إقليمية ودولية. فمن الناحية الاقتصادية، تسعى إندونيسيا إلى الاستفادة من التعاون مع الاقتصادات الناشئة لتسريع وتيرة التنمية الوطنية، خاصة في مجالات البنية التحتية والتكنولوجيا والطاقة المستدامة. كما تهدف إلى تعزيز صادراتها إلى أسواق الدول الأعضاء في المجموعة؛ مما يوفر فرصة لتنويع الشركاء التجاريين بعيدًا عن الاعتماد التقليدي على الأسواق الغربية.
أما من الناحية السياسية، فترى إندونيسيا في البريكس منصة لتعزيز دورها في إصلاح مؤسسات الحوكمة العالمية، بما في ذلك الأمم المتحدة وصندوق النقد الدولي، لتحقيق تمثيل أكثر عدالة للدول النامية. ويتماشى هذا التوجه مع رغبة جاكرتا في توسيع نفوذها ضمن النظام العالمي المتعدد الأقطاب، في وقت يتسم بتزايد التوترات بين القوى الكبرى.
إضافة إلى ذلك، يعكس الانضمام رؤية القيادة الجديدة تحت قيادة الرئيس “برابوو سوبيانتو” الذي تولى منصبه في أكتوبر 2024. وفي حين أن قرار انضمام إندونيسيا إلى البريكس جاء بعد فترة من التردد خلال فترة حكم الرئيس السابق “جوكو ويدودو”، الذي كان حذرًا في اتخاذ هذه الخطوة، فإن القيادة الجديدة تحت قيادة برابوو اتخذت خطوة أكثر انفتاحًا تهدف إلى تعزيز مكانة إندونيسيا على الساحة الدولية. وجاءت هذه الخطوة لتعزيز التحالفات مع دول الجنوب العالمي، ودعم الأجندة الإقليمية للآسيان، التي ترى في إندونيسيا قوة دافعة لتحقيق الاستقرار والازدهار في منطقة جنوب شرق آسيا. كما يسعى الرئيس برابوو لإثبات قدرة إندونيسيا على لعب دور مؤثر في صياغة القرارات العالمية، وهو ما يتطلب الانخراط في تجمعات مثل البريكس التي توفر منصة لمواجهة التحديات المشتركة.
تأثير الانضمام
يعد انضمام إندونيسيا إلى مجموعة البريكس خطوة استراتيجية تتجاوز الفوائد الاقتصادية والتجارية المباشرة، حيث يمكن أن يكون له تأثير طويل الأمد في السياسة العالمية. إذ تُعتبر إندونيسيا، بوصفها رابع أكبر دولة في العالم من حيث عدد السكان، وأكبر اقتصاد في جنوب شرق آسيا، لاعبًا رئيسيًا في تعزيز التعاون بين الاقتصادات الناشئة. وبفضل هذه العضوية، يمكن لإندونيسيا لعب دور محوري في مواجهة التحديات العالمية، سواء كانت اقتصادية أو بيئية أو اجتماعية. ومن المتوقع أن تسهم إندونيسيا في تعزيز التكامل الإقليمي مع دول البريكس؛ مما يوفر لها منصة لتوسيع استثماراتها في مجالات مثل الطاقة المتجددة، والنقل، والبنية التحتية الذكية.
بالإضافة إلى ذلك، يتيح الانضمام لإندونيسيا تعزيز مشاركتها في مشاريع التنمية المستدامة وتوسيع نفوذها في القضايا العالمية المتعلقة بالأمن الغذائي، مع ضمان توافر مصادر الطاقة بكفاءة وبأسعار معقولة. كما يُمَكّنها من تعزيز مكانتها في الحوار المتعلق بمستقبل النظام المالي الدولي، وخاصة في مجال إصلاح المؤسسات المالية العالمية مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي.
ومع ذلك، ووفقًا لما أعلنه وزير الخارجية الإندونيسي السيد “سوجيونو” فإنه من غير المتوقع أن يؤثر هذا الانضمام على علاقات إندونيسيا التقليدية مع القوى الغربية. فإندونيسيا تبقى ملتزمة بالحفاظ على تحالفاتها الاستراتيجية مع القوى الكبرى مثل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، لكنها تأمل في تعزيز سياساتها الاقتصادية والدبلوماسية من خلال هذه التحالفات الموازية. كما تسعى إندونيسيا إلى الحفاظ على توازن دقيق بين الشراكة مع مجموعة البريكس، التي تمثل مجموعة من الاقتصادات الناشئة، والعلاقات مع الدول المتقدمة التي تؤثر بشكل كبير في الاقتصاد العالمي.
السياسة الخارجية
تعتبر السياسة الخارجية لإندونيسيا تحت قيادة الرئيس برابوو سوبيانتو أكثر انفتاحًا ونشاطًا مقارنة بسياسة سلفه جوكو ويدودو. حيث يسعى “برابوو” إلى تنويع الشراكات الاقتصادية والجيوسياسية لإندونيسيا. وعلى الرغم من أن انضمام إندونيسيا إلى مجموعة البريكس يعد خطوة مهمة في تعزيز مكانتها كدولة نامية كبيرة، فإن الحكومة الإندونيسية أكدت على أن هذا لا يعني انحياز إندونيسيا إلى أي طرف معين، بل هو تعبير عن سياسة خارجية مرنة تتيح لإندونيسيا التنقل بين الكتل الدولية المختلفة.
وتهدف إندونيسيا من خلال هذه السياسة إلى تعزيز أولوياتها في مجالات الأمن الغذائي والطاقة وتنمية رأس المال البشري، التي تمثل جوهر الاستراتيجية الوطنية للرئيس برابوو. في هذا السياق، تسعى إندونيسيا إلى الاستفادة من التعاون مع الدول الأعضاء في البريكس لتحقيق هذه الأهداف؛ مما يعزز قدرتها على تلبية احتياجاتها التنموية وتحقيق المزيد من الاستقلال في هذه القطاعات الحيوية.
تداعيات الانضمام
يأتي انضمام إندونيسيا إلى مجموعة البريكس في وقت حاسم، حيث تشهد الساحة الدولية تحولات جيوسياسية هائلة تؤثر في الاستقرار الاقتصادي والسياسي في جميع أنحاء العالم. في هذا السياق، تعتبر إندونيسيا أن عضويتها في البريكس تمثل خطوة مهمة نحو تعزيز دورها كداعم للمصالح الاقتصادية والسياسية لدول “الجنوب العالمي”، بينما تسعى أيضًا للحفاظ على توازن استراتيجي بين القوى العالمية المتنافسة.
وفي الوقت الذي تشهد فيه العلاقات بين الصين وروسيا من جهة، والغرب من جهة أخرى، تصاعدًا في التوترات، يسعى التحالف داخل مجموعة البريكس إلى أن يكون ردًا جماعيًا على النظام العالمي السائد. من خلال الانضمام إلى هذه المجموعة، تأمل إندونيسيا في تعزيز قدرتها على التأثير في المفاوضات العالمية، إذ يمكنها الاستفادة من قوة المجموعة الاقتصادية والسياسية في الدفاع عن مصالحها الوطنية وفي الحصول على نفوذ أكبر في المؤسسات العالمية. على سبيل المثال، يمكن أن تستفيد إندونيسيا من دور أكبر في قضايا الأمن الغذائي والطاقة والتنمية المستدامة، التي تعد من أولويات مجموعة البريكس.
وفي هذا السياق، يظهر أن إندونيسيا تتبنى عقلية مرنة في سياستها الخارجية، إذ تركز على استخدام عضويتها في مجموعة البريكس كمنصة للتعاون مع الدول النامية، بينما تحافظ على استقلاليتها عن التأثيرات الخارجية. فهي تدرك أهمية الحفاظ على علاقاتها التقليدية مع القوى الغربية، مثل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، من خلال المشاركة الفعالة في المنظمات الدولية مثل منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية. وهذا النهج المتوازن يمكن أن يُسهم في تعزيز قدرة إندونيسيا على اتخاذ مواقف دبلوماسية مستقلة، وكذلك التفاعل بشكل فعال في مساعي تعزيز الاستقرار الإقليمي والدولي.
إضافة إلى ذلك، يتيح لها هذا الانضمام مواجهة التحديات التي قد تنشأ بسبب الحروب الاقتصادية أو الصراعات التجارية بين القوى الكبرى، مثل الولايات المتحدة والصين. من خلال هذه الاستراتيجية، يمكن لإندونيسيا أن تستفيد من الفرص التي تقدمها مجموعة البريكس لتعزيز نموها الاقتصادي مع الاستمرار في بناء علاقات قوية مع الدول المتقدمة؛ مما يعزز مرونتها أمام التحديات المتزايدة.
مستقبل مجموعة البريكس
يُعد انضمام إندونيسيا إلى مجموعة البريكس مؤشرًا على الاهتمام المتزايد لدول جنوب شرق آسيا بهذه المجموعة. وفي هذا السياق فإن دول مثل ماليزيا وتايلاند أبدت رغبتها في الانضمام أيضًا؛ مما يعكس توقع توسع متزايد للمجموعة في المنطقة. ويأتي هذا التوجه في سياق التنافس الإقليمي بين دول جنوب شرق آسيا لتوسيع خياراتها الاقتصادية والدبلوماسية في ظل تصاعد التوترات بين القوى الكبرى.
تسعى هذه الدول إلى تعزيز دورها في النظام العالمي المتعدد الأقطاب من خلال الانضمام إلى مجموعة البريكس، ما يسمح لها بالاستفادة من التعاون بين الدول النامية على المستويين الاقتصادي والدبلوماسي. وهذا التوسع يعزز من أهمية مجموعة البريكس كبديل للمؤسسات الغربية ويعكس التوجه العالمي نحو تعزيز دور الاقتصادات الناشئة في النظام الدولي.
ختامًا، فإن انضمام إندونيسيا إلى مجموعة البريكس يمثل خطوة استراتيجية مهمة على المستويين الإقليمي والدولي. من خلال هذه العضوية، تسعى إندونيسيا لتعزيز مكانتها الاقتصادية والدبلوماسية، وتحقيق توازن بين علاقاتها مع القوى الكبرى والاقتصادات الناشئة. كما يعكس هذا الانضمام تحولًا في السياسة الخارجية لإندونيسيا تحت قيادة الرئيس برابوو سوبيانتو، الذي يسعى إلى بناء شراكات متعددة الأبعاد تحقق مصالح بلاده في عالم سريع التغير. كما تتطلع إندونيسيا، بتوسع نفوذها ضمن مجموعة البريكس، إلى تعزيز دورها كقوة مؤثرة في النظام العالمي وتعزيز مكانتها في الصراع الجيوسياسي العالمي.
باحث أول بوحدة الدراسات الأسيوية