النخب الأوروبية وقطاعات واسعة من النخب الأمريكية، تصورت لسنوات أن الولاية الأولى للرئيس ترامب كانت “حادثًا” استثنائيًا لن يتكرر، فالرجل لاحقته التهم وأُدين في عدة قضايا، وعلى المستوى السياسي اختلف الرئيس ترامب مع أعداد كبيرة من الجمهوريين المخضرمين المتمتعين بمصداقية واحترام، وتخلص منهم. ومع قيام روسيا بغزو أوكرانيا تصور العديد أن صلات الرئيس ترامب القديمة بالدولة الروسية ستكون عائقًا يمنع إعادة انتخابه، ودعم هذه الأوهام نجاح إدارة الرئيس بايدن في التعامل مع الملفات الاقتصادية، ومع انسحاب الرئيس بايدن من السباق الرئاسي تصور الكثيرون أن الديمقراطيين تخلصوا من أهم مشكلة لهم وهي تدهور حالة الرئيس بايدن الصحية والذهنية وتقدمه في السن.
عاد القلق في العواصم الأوروبية عقب نجاح الرئيس ترامب وفوزه المبين في الانتخابات، ومما زاد منه استغناؤه عن رموز الجمهوريين المعروفين لدى الأوروبيين والمخضرمين في العلاقات الدولية، من أمثال ماتيس وبومبيو وتيلرسون وبولتون وماك ماستر وهالي، وجاءت اختيارات ترامب لأعضاء إدارته حاملًا لرسائل متناقضة، الرسائل المطمئنة كانت اختيار مستشاره للأمن القومي ووزير خارجيته، ومبعوثه الخاص الجنرال كيلوج، والرسائل التي أثارت القلق أسماء وزير دفاعه ومديرة الاستخبارات الوطنية.
وبصفة عامة وطوال العقد الأخير كانت مفردات ومصطلحات ومضامين خطاب الرئيس الأمريكي باعثين للقلق، ولكن خفف من هذا القلق –قبل الأسبوع الماضي- أنهم لم يترجموا إلي أفعال وقرارات، وكان الأوروبيون يدركون أن بعض الاتهامات الموجهة لهم في محلها، فالولايات المتحدة تتحمل فعلًا ما لا يقل عن ثلث عبء الدفاع عن أوروبا وغالبًا أكثر، وفي الماضي –سنة ٢٠١٨- قال الرئيس ترامب عن الاتحاد الأوروبي: إنه أكبر عدو، وكان دائم الثناء على الرئيس بوتين، ودائم القدح في القادة الأوروبيين، وشديد الكراهية لأوكرانيا، وكانت روايته تتبنى ادعاءات روسية بعضها واضح الكذب، وأكثر من التصريحات والمواقف التي ترفض مبادئ التجارة الحرة، والأسس التي قام عليها الناتو. تصريحات مستاءة ومشككة في الالتزامات الأمريكية بموجب اتفاقيات الدفاع المشترك. ووفقًا لرواية أبدى الرئيس ترامب تعجبه من وجود التزام يعرض المدن الأمريكية للخطر بإنقاذ دولة من دول البلطيق الصغيرة، ونستطيع أن نعدد ونرصد العشرات من التصريحات الأخرى، ولكنني أتصور أن الأهم هو أولًا نبرة الكراهية العميقة لأوروبا ولليبرالية وللدفاع المشترك ولمبدأ التحالفات –من المعروف أنه بفضل الصفقات، وثانيًا انتماء الرئيس ترامب إلى مدرسة ترى في تفتيت أوروبا ما يحقق المصلحة الأمريكية –لأنه يضعف كل الفاعلين الأوروبيين وموقفهم التفاوضي- هناك مدرسة أمريكية أخرى تفضل أن ترى أوروبا قوية تتكلم بصوت واحد لأن هذا يقوي الأمريكيين ويسمح بتوفير الوقت وبتسهيل التنسيق.
ولكن الأداء الفعلي للولاية الأولى كان مخالفًا إلى حد ما لهذه التصريحات والتوجهات، فهو أول رئيس أمريكي أمد أوكرانيا بالسلاح، وزود عدد القوات الأمريكية في بولندا، وتبنى مواقف صلبة في الملف النووي، وكانت اتهاماته التي استهدفت التقصير الأمني والدفاعي المريع لأوروبا في محلها، سبقه فيها عدد من الرؤساء ومن الساسة الأمريكيين –وإن كانت نبرتهم ودية على عكس نبرته هو، وكان من الممكن فعلًا اعتبار بعض الدول الأوروبية –وعلى رأسها ألمانيا- راكبًا لا يدفع التذكرة، ويتعاون مع روسيا بما يدعم اقتصادها ثم يطلب الحماية من واشنطن ولا يسهم بفاعلية في الدفاع المشترك في وقت بات فيه الجهد الأوروبي ضروريًا ليتمكن الأمريكيين من التفرغ للمسرح الآسيوي، ومن نافلة القول إن الميزان التجاري بين أوروبا والولايات المتحدة في صالح الأولى، يمكن ويجب طبعًا ذكر الجانب الآخر للصورة التي يتناساها الرئيس ترامب، والقول إن أوروبا تشتري سلاحًا أمريكيًا بكثافة، وأن أغلب دولها تتفاعل بإيجابية مع طلباته الملحة الغليظة برفع معدلات الإنفاق الدفاعي، وإن ظل مستوى إنفاقهم أقل بكثير من الضروري ومن المطلوب.
ما أقصده أن أداء الولاية الأولى كان حمالًا للأوجه؛ مما غذى نقاشًا داخل كواليس أوروبا حول “حقيقة” نوايا ترامب ومدي جسامة تهديداته. هل خطابه مجرد ابتزاز أم مؤشر لمشكلة أكبر، ومما دعم وجهة نظر المتفائلين نسبيًا هو عدم واقعية بعض وعود المرشح ترامب، مثل الوعد بإنهاء الحرب الروسية الأوكرانية في ٢٤ ساعة، وبدا ذلك “كلام انتخابات لا يعول عليه” عند الكثيرين، ونبه آخرون إلى كون ترامب يحاول دائمًا ترجمه أقواله إلى أفعال وأن الموضوع “خطر”. وسادت نقاشات فعلية حول دور “حكماء الإدارة الترامبية الأولى” في قرارات وأفعال هذه الإدارة.. هل هم الذين كبحوا جماح الرئيس أم هو الذي ضبط تصرفاته.. وفجأة اتضح الموقف الأسبوع الماضي. يلاحظ أولًا أن الرئيس ترامب اتبع أسلوبًا جديدًا في بداية ولايته الجديدة وهو طوفان القرارات المصيرية والتصريحات الفارقة. طوفان يصيب الفرقاء والمعلقين والخصوم بالدوار، وإضافة إلى هذا لا يزال محتفظًا بأسلوب قديم له في قيادة الأمور مفاده السماح لأعضاء إدارته بالتعبير العلني عن وجهة نظرهم بحرية، هذا يتيح له فرصة اختبار ردود الأفعال على كل تصريح، ويزيد من حيرة الجميع، ويوسع من حرية اختياره.
وثانيًا توالت التصريحات المتعلقة بحرب أوكرانيا وبالشأن الأوروبي في عدد محدود من الأيام. قال الرئيس الأمريكي: إنه اتصل بالرئيس بوتين، وإنه سيعقد قمة معه غالبًا في المملكة السعودية، وبدا من مجمل تصريحاته وتصريحات رجاله أنه وافق قبل أي مفاوضات على الأغلب إن لم يكن كل مطالب الرئيس بوتين، وأنه أمن على روايته، فهو يجتمع به كأنهما على قدم المساواة، ولن تنسحب روسيا من أراضي احتلتها، ويجب تطبيع العلاقة معها وإعادتها إلى مجموعة الثمانية، وأوكرانيا لن تنضم إلى الناتو، ويجب أن تعقد انتخابات رئاسية في أوكرانيا في أقرب وقت، وإضافة إلى ذلك يطالب الرئيس الأمريكي أوكرانيا بتعويض الولايات المتحدة لإسهامها في دعم مجهودها الحربي بمنحها حق استغلال الأراضي والمعادن النادرة، وأضاف أن الولايات المتحدة لن تشارك في تطمينات أو ضمانات ولن تنشر قوات برية في أوكرانيا للفصل بين القوات. وإضافة إلى ذلك قال وزير دفاعه: إن الدفاع عن أوروبا لم يعد من أولويات الولايات المتحدة، وأن وجود القوات الأمريكية في أوروبا ليس أبديًا، وطالب الرئيس الأمريكي برفع معدلات الإنفاق الدفاعي في أوروبا ليصل إلى ٥٪، وهذا مستحيل في الوضع المالي الحالي لكل من ألمانيا والمملكة المتحدة وفرنسا وإيطاليا. وفي مؤتمر ميونخ للأمن جاء نائب الرئيس الأمريكي وألقى خطبة قال فيها: إن أكبر تهديد لأمن أوروبا آتٍ من داخلها، يتمثل في تقييد حرية الكلام (يقصد قمع خطابات الكراهية والأخبار “المضللة”)، وفي الهجرة غير الشرعية والإرهاب الآتي معها، وفي عدم الاستماع إلى كلمة الشعب عندما لا تعجب النخب، وذكر عدة أمثلة توحي بوجود دعم أمريكي لفصائل أقصى اليمين الأوروبي، ولما قاله إيلون ماسك حول الانتخابات الألمانية، ولم يشر بكلمة واحدة إلى روسيا وحرب أوكرانيا. يجب الاعتراف أن نائب الرئيس أشار إلى مشكلات حقيقية وعميقة، أهمها الهوة بين النخب والشعوب، وطرح بحنكة سؤالًا فلسفيًا، هل من حق مبادئ دولة القانون أن تلجم وتسكت أصواتًا سياسية تمثل قطاعات كبيرة من الشعوب، ولكنه في الوقت نفسه عدّ هذا الخطاب تدخلًا فجًا في الشئون الداخلية للأوروبيين، وقوى هذا التشخيص جدول لقاءات نائب الرئيس الأمريكي، وأخيرًا فإن عدم ذكر الصراع الحالي الروسي الأوكراني والحرب الهجينة التي تشنها روسيا على أوروبا جاء صادمًا.
يضاف إلى ذلك عدة أمور.. يبدو أن أوروبا لن تكون طرفًا في المفاوضات، على عكس ما يطالب به الرئيس الأوكراني، وهناك شكوك أصلًا حول نية إشراك كييف فيها، رغم التوضيحات التي تلت بعد ذلك، وتعجب الأوروبيون من “البجاحة” في عقد مفاوضات ترتب عليهم التزامات دون التشاور معهم، ومن ناحية الحالي بدا الموقف الأمريكي الحالي متراجعًا عن المواقف المعلنة عبر تسريبات في ديسمبر الماضي (التي كانت تتحدث مثلًا عن تأجيل الحسم في مسألة ضم أوكرانيا إلى الناتو)، والظاهر أن الرئيس ترامب وافق على استبعاد الجنرال كيلوج من المفاوضات بناءً على طلب روسي، ويبدو أن أمريكا ستواصل الضغط علي أوروبا لتشتري أسلحة أمريكية لتكون قادرة على سد النقص النابع من الانسحاب الأمريكي.. إضافة إلى ذلك وكما أشار عدد من الخبراء الذين تكلموا في مؤتمر ميونخ تتصرف هذه الإدارة وكأن أوروبا العدو وروسيا الشريك، وتوحي التصريحات والتصرفات الأمريكية بوجود استراتيجية نشيطة تهدف إلى بث الشقاق في الصفوف الأوروبية وإضعاف الاتحاد.
لا يتسع المجال لرصد كافة ردود أفعال المسئولين والخبراء الأوروبيين، البريطانيون سربوا أخبارًا تفيد أنهم لن يتمكنوا من زيادة الانفاق الدفاعي بالمعدلات المطلوبة، وأنهم غير قادرين على تطوير يجعل قواتهم البرية والجوية والبحرية جاهزة للقتال في آن واحد وأن عليهم ترتيب أولويات وأن الناتو يريد منهم التخصص في صواريخ ومنظومات الدفاع الجوي، وزير الدفاع الألماني قال: إنه لو كان مكان “أفضل من يعقد صفقات في العالم” لما قدم هذه التنازلات قبل الجلوس على طاولة المفاوضات، ووزير خارجية فرنسا قال: إن لا أحد يفرض نظامه السياسي على أوروبا، ووزير الخارجية البولندي ورئيس ليتوانيا عبرا عن قلقهم الشديد وأدانا كلام الرئيس بطريقة غير مباشرة، من ناحيتها قالت رئيسة المفوضية الأوروبية: إنه يجب عدم حساب الأموال التي تنفق في الدفاع عند قياس مدى التزام الدول بالحد الأقصى للعجز مقارنة بالناتج المحلي الإجمالي، في اقتراح جديد يشكل مبادرة مهمة ستدعم موقف فرنسا.
المشكلة الأساسية أن الوضع السياسي الداخلي في ألمانيا وفرنسا والمملكة المتحدة لا يسمح بتعامل سريع وفعال مع المستجدات، إلى جانب الخلافات المتفاقمة بين برلين وباريس. الدول القادرة على التحرك وعلى الحسم حاليًا هي بولندا واسبانيا وإيطاليا، وهي ليست على تصور ولا على خط سياسي واحد.
وهناك مشكلة أخلاقية وأخرى سياسية بالغة الأهمية، رغم إدراكنا بمحدودية أهمية الأخلاق في السياسية، للولايات المتحدة أسباب واضحة مبررة للغضب من أوروبا ومن تقاعسها، ولكن من يدفع ثمن غضبها هو أوكرانيا، وهي لم تخل بالتزاماتها، فهي لم تكن عضوة في الناتو، ودفع أبناؤها ثمنًا باهظًا في الدفاع عن أرضهم وبفضل بسالتهم عطلوا الخطط الروسية فيما يخص دول أخرى، وأسهموا في تحسين الأمن الأوروبي وفي منحه مهلة وقت. قرارات الرئيس ترامب هي انحياز إلى الطرف الأقوى والمعتدي، لأسباب لا تتعلق بسلوك الضحية. والمشكلة السياسية هي الرسالة التي يرسلها السلوك الأمريكي لكل الفاعلين، الصين وروسيا وحلفائهم وحلفاء وشركاء أمريكا، رسالة مفادها لا يوجد أي التزام أمريكي جاد، وأي طلب مساعدة سيقابل بابتزاز صارخ، والضمانات الغربية لا تساوي شيء. وهي رسالة سبق لإدارة بايدن أن ترسل مثلها عندما انسحبت من أفغانستان، على كل دولة أن تعتمد على نفسها أو على شركاء غير أمريكا.
