إن موقع الأردني الجغرافي، وارتباطه بالقضية الفلسطينية، يجعلها طرفًا مؤثرًا ومتأثرًا بتطورات الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، وفي ظل ضغوط عديدة على الأردن بتهجير الفلسطينيين إليها بدعم من الولايات المتحدة وتأييد من اليمين المتطرف الإسرائيلي، وهو ما يخلق تهديدات للأمن القومي الأردني، ويؤثر في الدولة داخليًا وعلاقاتها الخارجية. في هذا الإطار يناقش هذا التحليل مسألة تنامي الضغوط على الأردن، والتهديدات للأمن القومي الأردني في ضوء طرح مسألة التهجير القسري.
أولًا: تنامي الضغوط
تعتبر الأردن مأوى للملايين من اللاجئين الفلسطينيين، ومع نشأة إسرائيل في العام 1948، نزح أكثر من 700 ألف فلسطيني للأردن، وتضاعف العدد بعد حرب 1967، إذ استقبلت الأردن نحو 300 ألف فلسطيني، ثم تزايد عدد اللاجئين الفلسطينيين حتى وصل 2.4 مليون فلسطيني. كانت منظمة التحرير الفلسطينية متمركزة في الأردن حتى أحداث أيلول الأسود، لكن حدثت اشتباكات بين المنظمة والجيش الأردني في العام 1970 بما دفع الملك “حسين” إلى إخراج منظمة التحرير من الأردن، وانتقلت إلى لبنان في العام 1971. وكان الأردن في حالة عداء مع إسرائيل حتى توقيع منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل اتفاقية أوسلو في العام 1993، ووعد الرئيس كلينتون بإعفاء الأردن من ديونه، وتقديم الدعم الاقتصادي والعسكري لها، ثم وافق الملك حسين على توقيع اتفاق سلام مع إسرائيل في العام 1994.
ويمثل الموقع الجيوسياسي للأردن، والتركيبة الديموغرافية بها، والوصاية الهاشمية على الأماكن المقدسة في القدس، محددات رئيسية في موقف الأردن في التعاطي مع القضية الفلسطينية، ومنذ السابع من أكتوبر 2023 واندلاع الحرب في غزة، واجهت الأردن تهديدًا لأمنها القومي عبر الأفكار المطروحة من جانب إسرائيل بضم الضفة الغربية أو تهجير الفلسطينيين إلى الأردن، والترويج لفكرة الأردن كوطن بديل لفلسطين والمرفوضة من الأردن رسميًا وشعبيًا، خاصة أن مثل هذه الأفكار تنذر بنزوح مزيد من الفلسطينيين إلى الأردن سواء من الضفة أو غزة بما يُهدد الأمن القومي الأردني والنظام السياسي بها. وقد عبر خطاب الملك “عبد الله” في الجمعية العامة للأمم المتحدة في 24 سبتمبر 2024 عن رفض التهجير بقوله: “هؤلاء المتطرفون، الذين يروجون باستمرار لفكرة الأردن كوطن بديل، دعوني أكن واضحًا تمامًا، هذا لن يحدث أبدًا، ولن نقبل أبدًا بالتهجير القسري للفلسطينيين، فهو جريمة حرب”.
بالرغم من ذلك، لا تزال الأردن تواجه ضغطًا من الولايات المتحدة وإسرائيل بشأن التهجير وذلك في اتصال هاتفي بين الرئيس “دونالد ترامب” والملك عبد الله في 25 يناير 2025، في محاولة لفرض سياسة التهجير القسري واستقبال مزيد من اللاجئين الفلسطينيين، وكذلك خلال زيارة الملك “عبد الله” إلى الولايات المتحدة ولقائه الرئيس ترامب في 11 فبراير الجاري. هذا إلى جانب تأييد اليمين المتطرف في إسرائيل لمقترح ترامب بالتهجير، على غرار وزير الأمن القومي السابق “إيتامار بن غفير”، ووزير المالية “بتسلئيل سموتريتش” والذين طالبوا الحكومة الإسرائيلية بسرعة نقل السكان من غزة إلى الدول المجاورة.
في هذا السياق، تواجه الأردن موقفًا حرجًا ما بين الحفاظ على علاقاتها ومصالحها الخارجية مع هذه الأطراف، وما بين الضغط وحالة الاضطراب الداخلي التي قد تنجم عن أي موقف للأردن إزاء القضية، فهناك ضغوط منذ أحداث طوفان الأقصى، تتعلق بإلغاء اتفاق السلام “وادي عربة” الموقع مع إسرائيل في 1994، بالإضافة إلى تنامي الضغوط الشعبية والسياسية من جانب أحزاب المعارضة وخاصة الإخوان المسلمين، والتي دعت إلى إعادة النظر في علاقة الأردن مع حركة حماس، وضرورة التقارب معها لحماية الأمن القومي الأردني من التهديدات الإسرائيلية المستمرة، والادعاء بأن الأردن أخطأت في إبعاد حماس وأن تدهور العلاقة بين الأردن وحماس حدث بعد طرد الحركة من عمان في العام 1999. علاوة على الضغوط الخارجية والتهديد بتجميد المساعدات الأمريكية للأردن، وما بين محاولة النظام الأردني الحفاظ على علاقات الدولة الاستراتيجية مع واشنطن، وتحقيق التوازن في ضبط الملفات والمصالح الخارجية.
تعد الأردن من أكبر المتلقين للمساعدات الأمريكية، وفي العام 2024 حصلت عمان على 1.65 مليار دولار من المساعدات الاقتصادية، ونحو 425 مليون دولار من المساعدات العسكرية. ويتلقى الأردن سنويًا نحو 780 مليون دولار سنويًا دعم للميزانية الأردنية. وتعد شريكًا دفاعيًا للولايات المتحدة، وتصنف بكونها حليفًا رئيسيًا من خارج الناتو منذ عام 1996، وتستضيف الآلاف من العسكريين الأمريكيين. وهي عضو التحالف العسكري الذي تقوده الولايات المتحدة ضد تنظيم القاعدة وداعش، وهناك اتفاقية عسكرية موقعة بين الولايات المتحدة والأردن في فبراير 2021، وبموجبها تقدم للقوات الأمريكية تسهيلات في الأردن لمدة 15 عامًا تتضمن تقديم 12 قاعدة جوية وبحرية في الأردن و4 قواعد للتدريب وللتعاون المشترك بين الجيش الأمريكي والأردني.
وبناء على ذلك، فإن مسألة التهجير القسري للفلسطينيين، سوف ترتب عواقب سلبية على المصالح الأمريكية في الأردن، وتفقد الولايات المتحدة الأردن كمركز عمليات دفاعية في المنطقة، خاصة أن تهديد النظام الأردني أو سقوطه قد يجلب نظامًا في غير صالح الولايات المتحدة ووجودها العسكري في الأردن، كذلك ليس من مصلحة الولايات المتحدة اندلاع الفوضى في الأردن، بما يجعل القواعد العسكرية الأمريكية في جنوب الأردن هدفًا محتمًا لحماس والمؤيدين لها من الأردنيين والفلسطينيين أو من الأذرع الإيرانية، واحتمالية تحول الأردن لساحة معركة في ضوء مجريات الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. لذلك فإن مسألة التهجير أو استمرار الحرب في غزة قد تحول الحدود الشرقية للأردن إلى ساحة للمعركة بين الجماعات الشيعية العراقية الموالية لإيران والقوات الأمريكية في العراق وسوريا والأردن.
في سياق متصل، تهدد الاضطرابات في الأردن الحدود الإسرائيلية، فهناك حدود ممتدة بين الأردن وإسرائيل يبلغ طولها 350 كيلومترًا، وقد يدفع ذلك الإخوان المسلمين في الأردن إلى شن هجمات ضد إسرائيل، أو تهريب الأسلحة من الأردن إلى الضفة الغربية وإسرائيل، فقد اعترضت الشرطة الإسرائيلية في سبتمبر 2024، 74 مسدسًا من طراز جلوك و61 مخزنًا عند معبر إسحاق رابين بالقرب من مدينة إيلات جنوب إسرائيل داخل مركبة كانت تحاول العبور إلى إسرائيل من الأردن، إذ يستخدم المهربون البدو على الجبهة الشمالية الشرقية على طول الحدود الأردنية السورية طرقًا لنقل الأسلحة والمخدرات إلى الأردن، ويتم نقل الأسلحة المهربة إلى الحدود مع إسرائيل.
يضاف إلى ما سبق، أن مسألة التهجير القسري لن تعني السلام الإقليمي بالنسبة لإسرائيل، بل تخلق مزيدًا من العنف، وشن هجمات من داخل الأردن باتجاهها، على غرار الهجمات السابقة في 8 سبتمبر 2024 حيث أطلق سائق شاحنة أردني النار بالقرب من جسر الملك حسين” اللنبي” وهو معبر حدودي بين الأردن والضفة الغربية، ولم يكن مرتكب الحادث من أصل فلسطيني بل من قبيلة الحويطات في جنوب الأردن والداعمة للنظام الملكي الأردني. أيضًا في 18 أكتوبر 2024 عبر أردنيان الحدود جنوب البحر الميت وفتحا النار على جنود إسرائيليين بما أدى إلى إصابة بعضهم، وفي 24 نوفمبر من العام ذاته، أطلق مسلح النار على الشرطة بالقرب من السفارة الإسرائيلية في عمان بما أدى إلى إصابة ثلاثة أشخاص.
ثانيًا: تهديدات الأمن القومي الأردني
ترتب مسألة التهجير القسري عدة تهديدات على الأمن القومي الأردني نذكرها على النحو التالي:
• تهديدات اجتماعية واقتصادية: تؤثر مسألة التهجير القسري للفلسطينيين في الأمن القومي الأردني، خاصة أنها تستضيف بالفعل عددًا كبيرًا من اللاجئين من مختلف الجنسيات، ويرتب استمرار سياسة الضغط على الأردن بنزوح الفلسطينيين من الضفة الغربية أو غزة، تحديات اقتصادية واجتماعية تؤثر في استقرار الدولة الأردنية، خاصة أن لذلك التهجير تأثيرًا في التركيبة الديموغرافية بالدولة، واستقرارها المجتمعي، ويفرض تدفق اللاجئين ضغطًا على قدرة الدولة الاستيعابية، فأكثر من 50% من سكان الأردن يحمل وضع لاجئ، ومنذ حرب 1948 و1967 استقبل الأردن موجات من اللاجئين الفلسطينيين، بنحو 2.4 مليون لاجئ فلسطيني في الأردن والمسجلين لدى وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل الفلسطينيين في الشرق الأدنى، والذين يعيشون في الأردن ويحملون الجنسية الأردنية. بالإضافة إلى معاناة الدولة من ندرة المياه، إذ يقل نصيب الدولة عن 145 مترًا مكعبًا سنويًا، واستضافة مزيد من اللاجئين يُشكل ضغطًا على أمن الدولة المائي بما يهدد وضعها واستقرارها، فضلًا عن التأثير فيها اقتصاديًا، فهناك ضغط على ميزانية الدولة يشكله استضافة الأردن للعديد من اللاجئين السوريين والعراقيين والفلسطينيين، فضلًا عن ارتفاع معدلات البطالة بها، والتي بلغت 21.9%.
• اضطرابات داخلية: ستواجه الأردن ضغوطًا من الرأي العام في حال قبول مسألة التهجير، فهناك العديد من الفلسطينيين يعيشوا في عمان، بما قد يقود إلى اضطرابات واحتجاجات داخلية في ظل ارتفاع شعبية حماس في الشارع الأردني منذ طوفان الأقصى خاصة لدى الأردنيين من أصول فلسطينية، ويظل هناك تخوف قائم من قيام قادة حماس بتحريض العشائر الأردنية على الدخول في صراع مع إسرائيل، بالإضافة إلى تحركات الإخوان، ويمثلهم في البرلمان الأردني جبهة العمل الإسلامي، والتي حصلت على ربع مقاعد البرلمان خلال الانتخابات الأخيرة التي عقدت في 10 سبتمبر 2024 بنحو 31 من أصل 138 مقعدًا، وتتمتع جبهة العمل الإسلامي بشعبية الشباب والأردنيين من أصل فلسطيني. وربما تقود مسألة التهجير القسري إلى الأردن إلى تنسيق بين حماس والإخوان المسلمين في الأردن بما يمثل تهديدًا مستمرًا للحدود الأردنية مع الضفة وإسرائيل. وربما عودة حماس، وفرصة لإعادة تأسيس موطئ قدم لها في الأردن، بما يهدد الأمن القومي للدولة.
• توتر في علاقات الأردن الخارجية: تُثير مسألة التهجير القسري العديد من التوترات في علاقات الأردن الخارجية، فمنذ اندلاع الحرب في غزة في السابع من أكتوبر 2023، هناك حالة من الغضب الشعبي الأردني، إزاء المشاهد المؤلمة في غزة، ليس فقط للأردنيين من أصل فلسطيني، بل بالنسبة للأردنيين عامة، وقد دعت الاحتجاجات التي قام بها الملتقي الوطني لدعم المقاومة وحماية الوطن في الأردن إلى إلغاء معاهدة وادي عربة “اتفاق السلام بين الأردن وإسرائيل”، وإنهاء صفقة الغاز بين الأردن وإسرائيل، ووضع حد لاتفاقيات الدفاع بين الأردن والولايات المتحدة، ورفض الوجود العسكري الأمريكي في المملكة. بالإضافة إلى احتمالية تأثير مسألة التهجير في العلاقات الأردنية الإسرائيلية والممر الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا والذي يمر عبر الأردن، خاصة بعد توقف صفقة المياه مقابل الطاقة بين إسرائيل والأردن والتي كانت تُجرى بوساطة إماراتية على خلفية الصراع في غزة.
ختامًا، بالرغم من الضغوط التي تمارس على الأردن، فتظل عمان ركيزة أساسية لأمن المنطقة، لكن مسألة ضم الضفة الغربية لإسرائيل أو تهجير الفلسطينيين للأردن يدفع عمان إلى حافة الهاوية سواء في شكل أزمة لاجئين كبرى وتهديد بعدم الاستقرار الداخلي أو سقوط النظام الملكي، وهو ما يفرض ضرورة مراجعة الولايات المتحدة وإسرائيل لمواقفها بشأن مسألة التهجير القسري، وإنهاء الاحتلال الإسرائيلي، وتحقيق السلام في المنطقة.