تعتبر التغيرات المناخية من أكبر التحديات التي تواجه العالم في الوقت الحالي وفي المستقبل، ومن المتوقع أن تتسبب في تأثيرات سياسية وديموغرافية واقتصادية مهمة على مستوى العالم لا تستثني قارة أو منطقة. ويرجع الاهتمام الأمريكي المفاجئ بجرينلاند التابعة للدانمرك إلى عوامل أهمها ما تسببت فيه التغيرات المناخية، من زيادة قيمتها الجيوسياسية وتسهيل استخدام الثروات الموجودة فيها.
رغبة ترامب في شراء جرينلاند
أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في تصريح مثير للجدل في يناير 2024 عن نيته شراء جرينلاند من الدنمارك. يميل المحللون الاقتصاديون والبيئيون إلى أن الغرض الرئيسي من محاولات الاستحواذ الأمريكي على هذه البلد النائية في الشمال، هو احتواء منطقة القطب الشمالي على ثروات هائلة من الوقود الأحفوري والمعادن النادرة في باطنها ومياهها، وهو ما تشير إليه الدراسات الجيولوجية، في الوقت نفسه الذي أدى فيه إلى ذوبان الجليد بسبب التغيرات المناخية إلى تسهيل استثمار تلك الموارد وزيادة جدواها الاقتصادية.
قد تنشأ خلافات مستقبلية وصراعات على المنطقة الشمالية للكرة الأرضية، خاصة بعد تلميح ترامب باعتزامه ضم كندا إلى الولايات المتحدة هي الأخرى. ويبدو أن ترامب يحاول استغلال نجاح الإحتباس الحراري في إذابة الثلوج في هذه المنطقة. وفي حالة نجاحه في ضم جرينلاند أو بعض مدن كندا الشمالية، سيعمل على ترسيم الحدود البحرية، على غرار ما فعلته مصر مع السعودية واليونان وقبرص، ليكون جاهزًا لعمليات الاستكشاف المزمعة في هذه المنطقة بسبب انحسار الجليد.
لا تتوقف المزايا النوعية لشراء جرينلاند وذوبان الجليد في منطقة القطب الشمالي على احتياطيات النفط فقط. فهناك فرص للتجارة الدولية تتعلق بفتح ممرات ملاحية جديدة مع تقلص الجليد تدريجيًا بزيادة الحرارة. هذه الممرات تُعتبر المنافس الأهم لقناة السويس المصرية، بل وحتى قناة بنما التي أعلن الرئيس الأمريكي نيته لاسترجاعها.

(الشكل يوضح مقارنة بين مسارات الملاحة التجارية الرئيسية من خلال منطقة القطب الشمالي أو عبر قناة السويس المصرية).
فإذا امتلكت الولايات المتحدة جرينلاند، فسيكون بإمكانها نقل الوقود بصورة أيسر عن السابق، إلى أوروبا التي تعتمد حاليًا على غاز روسيا. يمكن ذلك من خلال إمداد خطوط بحرية بعد ذوبان الجليد، والوصول إلى أوروبا عبر الأراضي الكندية وجرينلاند، ثم إلى الدول الإسكندنافية.
في حالة تحقق رغبة ترامب سيضمن مساحة ضخمة من القطب الشمالي تقارب تلك التي لدى الحكومة الروسية. وبعدها ستتغير خارطة استغلال النفط والوقود الأحفوري الموجود في تلك المنطقة وكذلك مسارات التجارة ما بين قارات آسيا وأوروبا وأمريكا الشمالية. ومعها ستتغير حتمًا طبيعة سوق الوقود مع تحكم أكبر للولايات المتحدة الأمريكية وتجنيب المنافسين.
بالفعل شهدت حركة الشحن في القطب الشمالي زيادة بنسبة 37% في عدد السفن على مدار آخر 10 سنوات. وفي سبتمبر 2023 وحده، دخلت 1122 سفينة منطقة بحار القطب الشمالي مع تراجع ملحوظ في حجم الجليد بالمنطقة. وهو ما يشير إلى تحول التغيرات المناخية في هذا السيناريو إلى حليفة للولايات المتحدة. خاصة بعدما أدرك صناع القرار آثارها بعد سنوات طويلة من إنكارها. ولم يكن ليأخذوها بعين الاعتبار لولا الدلائل العلمية المختلفة.

الشكل يوضح اختلاف مسارات الملاحة ما بين شهري مارس وسبتمبر. تعتبر شهور الصيف وبداية الخريف هي الموسم الأمثل لحركة الملاحة التجارية بمنطقة القطب الشمالي.
استراتيجية أمنية والسعي للثروة المعدنية لجرينلاند
بالفعل تناولت استراتيجية وزارة الدفاع الأمريكية لعام 2024 لمنطقة القطب الشمالي تلك التحديات الأمنية مدللة على أنشطة دول مثل روسيا والصين. وأشارت الاستراتيجية إلى كيفية تأثير الذوبان السريع للجليد على المنطقة وفتح مسارات بحرية جديدة؛ مما يتيح فرصًا تجارية، لكنه يزيد أيضًا من الأخطار الأمنية على الدول التي كانت حدودها محمية سابقًا بسبب صعوبة الوصول إلى المنطقة خاصة جرينلاند التي تحظى بثروات معدنية تزيد من أهمية الاستحواذ عليها. إذ يوجد الجرافيت في العديد من المواقع بالجزيرة، الذي يُستخدم في عدة صناعات مثل بطاريات السيارات الكهربائية والفولاذ.
كذلك الحال مع معادن النحاس والنيكل والزنك والرصاص. حيث تسعى بعض الشركات إلى تطوير مشروع الزنك والرصاص في خليج “سيتروتن”، الذي كان يُعتبر واحدًا من أكبر مصادر الزنك غير المطورة في العالم. أما عن المعادن والأحجار النفيسة، فتعتبر أكثر المناطق الواعدة لاستخراج الذهب حول خليج سيرميليغارسوك في جنوب البلاد. بينما يحتوي غرب الجزيرة على الماس وأحجار أخرى. كما يوجد بجرينلاند بأنحاءها المختلفة خام الحديد والتنجستن والتيتانيوم والفاناديوم المستخدمين في العديد من التطبيقات الصناعية المتنوعة.
أما عن اليورانيوم، ففي عام 2021 حظر حزب “إنويت أتاكغيت” اليساري استخراجه وتوقف تطوير مشروع “كوينيرسويت” لعناصر الأرض النادرة. كل هذه المؤشرات للثروة المعدنية الضخمة لجرينلاند تعتبر من العوامل التشجيعية الإضافية لعملية الاستحواذ الأمريكية خاصة مع التحركات التجارية والعسكرية لدول الجوار للقطب الشمالي وتزايد معدلات التغيرات المناخية.
التغير المناخي في القطب الشمالي
تشير الدراسات البيئية لارتفاع درجة حرارة القطب الشمالي بمعدلات تصل إلى ثلاث مرات أسرع من المتوسط العالمي. ويرجع هذا في الأساس إلى أن ذوبان الثلوج والجليد يكشف عن سطح البحر الأكثر قتامة؛ مما يزيد من كمية الحرارة الشمسية الممتصة في هذه المناطق. ويؤدي هذا الاحترار الإقليمي الكبير إلى استمرار فقدان الجليد البحري وذوبان الأنهار الجليدية والغطاء الجليدي في جرينلاند وما حولها.
لقد وصلت درجة الاحترار التي شهدها القطب الشمالي منذ عام 1980 إلى ضعف تلك التي شهدها بقية العالم. كذلك الحال في ألاسكا وغرب كندا، اللذين شهدا ارتفاع في درجات الحرارة في الشتاء بحوالي 3 إلى 4 درجات مئوية على مدى نصف القرن الماضي.
وهو ما أكدته محطات الأرصاد الجوية النرويجية في القطب الشمالي. ففي مستوطنة لونجييربين بسفالبارد النرويجية بالشمال، ارتفعت درجة الحرارة المتوسطة السنوية بنحو ربع درجة مئوية لكل عقد منذ بدء القياسات في عام 1912 وحتى الآن. وكشفت الفحوصات العلمية والأدلة المتاحة أن الأعوام الأخيرة في القرن الحالي كانت الأكثر دفئًا على الإطلاق في القطب الشمالي.
كما أظهرت المقارنة بين درجات الحرارة في القطب الشمالي منذ خمسينيات القرن العشرين زيادة ملحوظة. حيث ارتفعت في المتوسط بين 0.5 و 1.0 درجة مئوية في هذه الفترة، وأعلى من ذلك في مناطق بعينها. وهي الدرجات الأكثر ارتفاعًا من أي وقت مضى خلال الألفين عام الماضية على الأقل.

(الشكل يوضح مقارنة بين متوسطات وجود الجليد في منطقة القطب الشمالي في بداية الألفية ونهاية القرن الحالي طبقًا لمعدلات الذوبان المرتبطة بالتغيرات المناخية).
يوجد خمس دول مطلة على منطقة القطب الشمالي. وهي روسيا التي تمتلك حصة كبيرة منها من خلال سيبيريا، والنرويج عبر حدودها الرئيسية وأرخبيل سفالبارد، والدنمارك عبر إدارتها لجرينلاند، وكندا من ساحلها الشمالي، والولايات المتحدة الأمريكية عبر ولاية ألاسكا. كما أنه وفقًا لخطوط ترسيم الحدود الحالية، لا يزال هناك مناطق غير مأهولة ولا تنتمي إلى أي من الدول المذكورة.
تغيرات جيوسياسية للاحتباس الحراري
الأمثلة الأخرى للتغيرات الجيوسياسية عديدة، فقد تتغير ديموغرافية بعض الدول نتيجة للتغيرات المناخية. إذ إن مظاهر الاحتباس الحراري كارتفاع مستويات سطح البحر والفيضانات والجفاف يمكن أن تؤدي إلى هجرات مناخية سكانية للنزوح بعيدًا عن مناطق الصراعات على الموارد والكوارث البيئية. كما أن هناك دراسات عدة تشير بالأرقام لقدر الأضرار ومواقعها. ففي حالة بنجلاديش على سبيل المثال، هناك مخاوف من فقدان حوالي 17.5% من أراضيها بحلول عام 2050 بسبب الكوارث البيئية المرتبطة بمعدلات هطول الأمطار وتسرب مياه البحر إلى التربة.
قد تطال يد التغيرات المناخية أغلب بقاع الأرض. ونتاج تلك الأزمة بالمعدلات الحالية سيصل بعدد النازحين من جراء التغيرات المناخية إلى ملايين الأشخاص في العقود القادمة. كما قد يحدث تغير فارق في ديناميكيات القوى العالمية الاقتصادية والسياسية للدول؛ مما يؤثر في العلاقات الدولية. وتعتبر منطقة وسط وجنوب آسيا من الأماكن المهددة بشدة، وبالتالي من المتوقع أن تتأثر قوة دول مثل الصين والهند بالإيجاب أو السلب طبقًا لقدرتهم على التكيف مع التحديات المناخية والزيادات السكانية.
وبالطبع سيتلازم مع كل ما سبق تأثيرات في الأمن القومي للدول. إذ قد تزيد التغيرات المناخية من التوترات الأمنية، خاصة فيما يتعلق بالأمن الغذائي والمائي. بالفعل تواجه العديد من الدول تحديات في تأمين موارد المياه نتيجة لتغيرات المناخ منذ القرن الماضي. وسيتطلب حل مشاكل ندرة المياه تحولات في النظام الدولي؛ مما يستدعي إعادة تقييم الآليات الدولية الموجودة لمواجهة هذه التحديات. ومن الممكن اعتبار اتفاقية باريس للمناخ أحد الجهود الدولية التي تتطلب التفعيل أو التعديل لتحسين فرص معالجة تغير المناخ. وإن كان هناك شكوك تجاه فاعليتها خاصة بعد إعلان البيت الأبيض نية الحكومة الأمريكية بالانسحاب منها في ولاية ترامب الثانية بعد ما تراجعت عن قرارها في أثناء ولاية بايدن.
تعد تلك القضية مجرد مثال بسيط عن المزيد من التحولات الأمنية والاقتصادية والسياسية التي ستحدث نتيجة التغيرات المناخية. إذ اعتبرت وزارة الدفاع الأمريكية في عام 2021 التغيرات المناخية تهديدًا أمنيًا خطيرًا. ولا يأتي هذا التهديد من جهة بعينها أو دولة أو شخص كما كان متعارفًا في السابق. لكن كما هو الحال مع أي أزمة، هناك أيضًا فرص يمكن استغلالها.
وطبقًا لذلك، من المهم على الدول والمجتمع الدولي العمل معًا لمواجهة تحديات التغيرات المناخية والتأثيرات الجيوسياسية المتوقعة، من خلال التعاون ووضع استراتيجيات مشتركة للتكيف مع هذه التحديات والحفاظ على الاستقرار العالمي.
