منذ الإعلان عن وقف إطلاق النار بين إسرائيل وحزب الله، لم تتوقف الخروقات والانتهاكات الإسرائيلية للاتفاق؛ حيث يواصل الجيش الإسرائيلي تنفيذ غارات جوية وعمليات اغتيال تستهدف قيادات الحزب، في إطار استراتيجية تهدف إلى إضعافه ومنعه من إعادة بناء قدراته العسكرية وتعزيز تموضعه في لبنان. تتزامن هذه الضغوط مع تحديات داخلية وإقليمية متزايدة؛ أبرزها القيود المفروضة على خطوط إمداده، وتراجع الدعم الإيراني نتيجة عودة سياسات الضغط القصوى، فضلًا عن الضغوط السياسية والدولية لمصادرة سلاحه وتحجيم نفوذه السياسي. في هذا السياق، تسعى هذه الدراسة إلى تحليل التحديات التي تواجه الحزب في إعادة تموضعه، واستشراف السيناريوهات المستقبلية المحتملة لمساره السياسي والعسكري في ظل المتغيرات الراهنة.
الانتهاكات والخروقات الإسرائيلية لوقف إطلاق النار مع لبنان
تستمر الانتهاكات والخروقات الإسرائيلية لوقف إطلاق النار مع لبنان الذي دخل حيز التنفيذ في 27 نوفمبر 2024، والتي اتخذت أشكالًا متعددة، شملت ضربات جوية مباشرة، واستمرار عمليات الاغتيال لقيادات حزب الله، فضلًا عن انتهاكات واضحة للسيادة اللبنانية. ومن أبرز هذه الخروقات ما يلي:
غارات وضربات جوية المباشرة: في السابع من مارس 2025، شن الجيش الإسرائيلي لأول مرة منذ اتفاق وقف إطلاق النار سلسلة من الغارات الجوية الواسعة على الجنوب اللبناني بأكثر من عشرين غارة، على منطقة مريصع بين بلدتي البابلية والزرارية، ومنطقة وادي الزغارين، ومنطقة برغز، وشملت الغارات أيضًا منطقة تبنا البيسارية وطريق تفاحتا، وبيت ياحون ووادى مريمين بين زبقين وياطر، وغارتين على حرش عيتا الجبل، والحمدانية. وبررت إسرائيل هذه الاعتداءات المستمرة بأنها تأتي لاستهداف منصات صواريخ ومواقع عسكرية تابعة لحزب الله في جنوب لبنان، ومنعه من إعادة تموضعه في المنطقة.
استمرار سياسة اغتيال القيادات في حزب الله: بالتزامن مع تصعيد الضربات الجوية استمر الجيش الإسرائيلي في اتباع سياسة الاغتيال لقيادات وكوادر الحزب، ففي الأيام القليلة الماضية أعلن الجيش الإسرائيلي عن اغتيال كلٍ من مسئول منظومة الدفاع الجوي في وحدة بدر الإقليمية التابعة لحزب الله “حسن عباس عز الدين”، وقائد القوات البحرية في قوة الرضوان التابعة للحزب “خضر هاشم”، وتأتي هذه الاغتيالات كجزء من الاستراتيجية الإسرائيلية الساعية لتفكيك الكوادر القيادية للحزب ومنعه من إعادة ترتيب صفوفه مرة أخرى، وإضعاف قدرته على التنسيق العسكري، خصوصًا في المجالات التخصصية (كالدفاع الجوي والعمليات البحرية).
عدم الانسحاب الكامل من الأراضي اللبنانية: على الرغم من اتفاق وقف إطلاق النار الذي نص على انسحاب إسرائيل الكامل بحلول 18 فبراير الماضي، فإنها احتفظت بوجودها العسكري في 5 نقاط استراتيجية في الجنوب اللبناني، وهي: تلة اللبونة (منطقة غابات كثيفة وتشرف على الجهتين اللبنانية والإسرائيلية، وتبعد 300 متر عن الحدود على امتداد منطقة خراج علما الشعب والناقورة)- جبل بلاط ( يبعد 1 كيلومتر عن الخط الأزرق بين راميا ومروحين، ويشرف على القطاع الغربي والأوسط من الجهتين، ويطل على عدد من المستوطنات الإسرائيلية)- مركبا (موقع مستحدث بمحاذاة طريق مركبا حولا في القطاع الشرقي مقابل موقع وادي هونين الإسرائيلي)- تلة جل الدير(جنوب عيترون في القطاع الأوسط مقابل موقع المالكية الإسرائيلي)- تلة الحمامص (تبعد 1 كيلومتر عن الخط الأزرق وهي في خراج مدينة الخيام، وتشرف على مستوطنة المطلة من جهة الشمال)، وهو ما تعتبره لبنان انتهاكًا صريحًا لسيادته واستمرارًا للاحتلال، وعلى الرغم من الضغط الدبلوماسي والمطالبات اللبنانية بالانسحاب الإسرائيلي، فإنها لم تسفر بعد عن نتائج حقيقية خاصة وأن هذا القرار جاء بالتنسيق مع إدارة الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” تحت ذريعة منع عودة حزب الله للمناطق الحدودية”؛ وهو ما يعد ضوءًا أمريكيًا أخضر يعرقل الضغوط الدبلوماسية اللبنانية لاستكمال الانسحاب الإسرائيلي من أراضيها.
ويمكن تفسير عدم الانسحاب من هذه المواقع كجزء من استراتيجية إسرائيلية تهدف إلى فرض واقع ميداني يرسخ الوجود الإسرائيلي في هذه النقاط لخلق مناطق عازلة تمنع حزب الله من إعادة التموضع وتأمين المناطق الحدودية وخلق عمق دفاعي لمنع أي عمليات تسلل أو تهديد مباشر للمستوطنات الإسرائيلية من الجانب اللبناني في ظل الضغوط السياسية والانتقادات المتزايدة من المستوطنين الإسرائيليين -النازحين من المستوطنات القريبة من الحدود اللبنانية عقب اندلاع الاشتباكات مع حزب الله منذ أكتوبر 2023– الرافضين للعودة إلى منازلهم والمطالبين بإيجاد حلول تضمن عودتهم بأمان.
انتهاك السيادة اللبنانية: ففي السابع من مارس2025، وفي سابقة تعد الأولى من نوعها منذ عام 2000، دخل نحو 800 مستوطن إسرائيلي إلى بلدة حولا الواقعة جنوب لبنان، تحت حماية عناصر من القوات الإسرائيلية بحجة زيارة دينية إلى قبر حاخام يهودي، في انتهاك واضح للسيادة اللبنانية.
استهداف المدنيين ومنع السكان من العودة إلى بعض القرى الحدودية: على الرغم من التبريرات الإسرائيلية بأن هذه الانتهاكات تستهدف حزب الله بالأساس، فإنها أدت إلى سقوط العديد من الضحايا المدنيين؛ فوفقًا للبيانات اللبنانية الرسمية، أدت هذه الاعتداءات إلى مقتل 86 شخصًا وإصابة 285 آخرين من جراء الانتهاكات الإسرائيلية لاتفاق وقف إطلاق النار مع لبنان الصادر في نوفمبر 2024، بينهم أطفال ونساء، هذا بالإضافة إلى منع سكان بعض القرى اللبنانية الحدودية من العودة إليها من خلال تنفيذ ضربات مباشرة وإطلاق النار وتحليق مسيرات على علو منخفض وإلقاء قنابل صوتية؛ لترهيب السكان ومنعهم من العودة.
انعكاسات الانتهاكات الإسرائيلية على محاولات حزب الله لإعادة التموضع
تفرض الانتهاكات الإسرائيلية المستمرة لوقف إطلاق النار تحديات معقدة على محاولات حزب الله لإعادة التموضع في الجنوب اللبناني؛ حيث كشفت هذه الخروقات لوقف إطلاق النار مع لبنان عن استراتيجية إسرائيلية هجومية استباقية تعتمد على الضربات الجوية المتكررة لاستنزاف مخزون الحزب العسكري، وعمليات الاغتيال للكوادر السياسية والميدانية للحزب، بالإضافة إلى عدم الانسحاب من المواقع الاستراتيجية الخمسة داخل الأراضي اللبنانية، والتي أدت بدورها إلى تقييد حرية الحركة أمام الحزب، وهو ما أثر بشكل مباشر في استراتيجياته في الانتشار وإعادة بناء قدراته القتالية في المناطق الحدودية. كما أسهم تدمير البنية التحتية للقرى الحدودية ومنع بعض السكان للعودة إلى منازلهم في حرمان الحزب من الحاضنة الشعبية التي يعتمد عليها.
التحديات الأخرى التي تواجه حزب الله
لا تقتصر التحديات التي تواجه حزب الله في العودة لتصدر المشهد اللبناني على الضربات الاستباقية الإسرائيلية، وإنما يواجه الحزب جملة من التحديات التي تعرقل من محاولاته للعودة وإعادة التموضع، ومن أبرزها ما يلي:
تحدي إعادة بناء القدرات وترتيب الصف:
أدى تدخل حزب الله كطرف في الحرب الإسرائيلية على غزة كجبهة إسناد وجزء من محور المقاومة إلى تحمل الحزب تكلفة وخسارة قاسية؛ حيث أسفرت الضربات الموجعة التي وجهتها إسرائيل لحزب الله إلى إفقاد الحزب قدراته العسكرية (حيث تشير التقديرات الإسرائيلي إلى تدمير نحو 80% من مخازن الأسلحة والصواريخ)، بالإضافة إلى اغتيال قيادات ورموز الحزب مثل الأمين العام حسن نصر الله وهاشم صفي إلى جانب القادة الميدانيين؛ وهو ما أسهم في إضعاف البنية القيادية للحزب وتقويض قدرته على إعادة تنظيم صفوفه، وأسهم في إرباك عمليات اتخاذ القرار داخل الحزب، وعقد من عملية إعادة هيكلة قياداته وتأهيل كوادر جديدة خاصة في ظل استمرار الضغوط العسكرية الإسرائيلية على مواقعه في الجنوب اللبناني.
تزامنت هذه الخسائر مع تغيرات دولية وإقليمية متسارعة تعقد من عملية إعادة بناء القدرات العسكرية يأتي في مقدمتها عودة الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” لرئاسة الولايات المتحدة الأمريكية والذي يقدم دعمًا غير مشروط لإسرائيل في قراراتها وعملياتها التي تستهدف تقويض وتدمير قدرات التنظيمات والجماعات المسلحة التي تهدد الأمن الإسرائيلي، كما يتبنى سياسة تقويض إيران، فوقع في 4 فبراير الماضي قرار يعيد فرض سياسات الضغط القصوى على إيران، وهو ما يشمل ضغوطات اقتصادية هائلة عليها، وهو ما يلقي بظلاله على قدرات إيران على توفير الدعم المالي لشبكة حلفائها، وفي مقدمتهم حزب الله.
من جانب آخر، أدى سقوط نظام “بشار الأسد” -الحليف الاستراتيجي لحزب الله- وسيطرة الفصائل السورية المناوئة لحزب الله على سوريا إلى من حرمان الحزب من خط الإمداد الرئيسي له بالأموال والسلاح من إيران عبر الأراضي السورية، وهو ما يسهم أيضًا في تعقيد عملية إعادة بناء القدرات العسكرية.
تحديات الداخل اللبناني وتحجيم النفوذ السياسي:
يواجه حزب الله تحديات متزايدة في الداخل اللبناني تتعلق بتراجع شعبيته، وتقليص نفوذه السياسي في الشارع اللبناني، وذلك عقب ما تسبب فيه انخراطه في المواجهة مع إسرائيل من تدمير لمحافظات وقرى الجنوب اللبناني وتهجير الأهالي، بالإضافة إلى عجزه عن تحمل أعباء إعادة الإعمار عقب الخسائر المادية الهائلة للحزب؛ مما أدى إلى تراجع الحاضنة الشعبية للحزب خاصة بين الفئات الأكثر تضررًا بالحرب.
امتدت التحديات الداخلية التي تواجه الحزب لتصل لمحاولات وخطوات ملموسة من الحكومة اللبنانية الجديدة لتحجيم نفوذه السياسي، فعقب انتخاب قائد الجيش جوزيف عون رئيسًا للبلاد وتشكيل حكومة نواف سلام، خسر الحزب ما يعرف بالثلث المعطل الذي كان يعد إحدى أهم أدواته السياسية والذي كان يضمن له السيطرة على المشهد السياسي اللبناني ويعرقل أي قرار يمس مصلحته؛ وبالتالي فقد الحزب القدرة على التأثير في مجريات الحياة السياسية اللبنانية.
من جانب آخر، يواجه حزب الله محاولات الحكومة اللبنانية لنزع الشرعية التي منحت وبررت امتلاكه للسلاح خارج سلطة الدولة؛ حيث استبعدت الحكومة الجديدة برئاسة نواف سلام بند “المقاومة” من بيانها الوزاري- بعد أن كانت معادلة “الجيش، الشعب، المقاومة” حاضرة في بيانات الحكومات السابقة-، وأكد على احتكار الدولة للسلاح، وهو ما ينزع الشرعية التي أعطاها بند المقاومة لحزب الله لامتلاك السلاح. وبالرغم من هذه المحاولات يرفض الحزب تسليم سلاحه، وهو ما يتعارض مع التزامات الحكومة اللبنانية أمام المجتمع الدولي بحصر السلاح بيد الدولة، كما يتعارض مع اتفاق وقف إطلاق النار مع إسرائيل، ويشكل هذا الرفض محاولة من الحزب للمماطلة وكسب الوقت في انتظار حدوث تغيرات سياسية قد تخفف من الضغوط المفروضة عليه.
السيناريوهات المحتملة
بالرغم من جملة التحديات التي تواجه حزب الله، فإنه لا يمكن القول إن الحزب انتهى تمامًا أو في مرحلة التفكك الكامل، فلا يزال يمتلك بعض الأوراق الضاغطة بجانب المرونة التنظيمية والسياسة البراجماتية التي تُجنبه حالة الانهيار التام وتضمن له تحقيق هدف البقاء والاستمرارية في المشهد اللبناني والإقليمي عبر التكيف مع المستجدات في البيئة الداخلية والخارجية المتسارعة من حوله. وبناءً على المتغيرات والتطورات السابق ذكرها، قد يكون الحزب أمام واحد من السيناريوهات التالية:
- التكيف السياسي، والتأكيد على الالتزام بالدولة اللبنانية واتفاق الطائف والتنازل التكتيكي عن بعض نفوذه بما يمكنه من إعادة تموضعه كجزء من النظام السياسي الرسمي بدلًا من كيان موازٍ في ظل التحديات والضغوطات المتزايدة التي تواجهه. ويبدو وأن هذا السيناريو ما يتبناه الحزب في هذه المرحلة الحرجة وهو ما ينعكس في تصريحات “نعيم قاسم”، وفي بعض التنازلات التي قدمها في الفترة الأخيرة مثل التنازل عن الثلث المُعطل.
- العودة كقوة عسكرية عبر انتظار ما تسفر عنه المتغيرات الإقليمية والدولية في ظل التوترات المتصاعدة في المنطقة مثل استمرار الغارات الإسرائيلية في سوريا ولبنان، وطرح مشاريع التهجير الفلسطينية، أو اندلاع المواجهة المباشرة بين إيران وإسرائيل، والتي قد تؤدي إلى صراع إقليمي قد يجد فيه الحزب الفرصة لإعادة طرح نفسه كفاعل موثر فيه.
- التفكك التدريجي مع تصاعد المطالب الداخلية والإقليمية والدولية بنزع سلاحه، وهو ما قد يُجبر الحزب على تسليم أسلحته جنوب الليطاني تماشيًا مع القرار 1701، مع الاحتفاظ بجزء آخر من أسلحته كورقة تفاوض للحصول على مكاسب من الحكومة الجديدة كالمحافظة على المشاركة في الحكم.
وأما عن إمكانية المواجهة المستقبلية مع إسرائيل من الصعب أن يغامر الحزب بمواجهة جديدة مع إسرائيل في ظل ما تكبده من خسائر هائلة حتى بعد سريان وقف إطلاق النار من ضربات استباقية وتصفيات لقادة العمليات الميدانية، وفي ظل خسارة شريان الإمداد الرئيسي له عبر الأراضي السورية، وما تواجهه إيران من ضغوطات سياسية واقتصادية كبيرة تُصعب عملية نقل الأسلحة والأموال لحلفائها.
حاصل ما تقدم، يمر حزب الله بمرحلة حرجة وحاسمة في تاريخه، فقد أدت الضربات الإسرائيلية المتكررة على البنية التحتية للحزب وسياسة الاغتيالات لقياداته إلى تدمير مقدرات التنظيم ومنعه من إعادة بناء قدرات وإعادة تموضعه، وهو ما يترافق مع متغيرات على المستويات الداخلية والإقليمية والدولية والتي تمثل عراقيل أخرى أمام محاولات ترتيب الصف وتوحيد جبهته الداخلية، وهو ما يجعل التنظيم أمام معركة وجودية، فإما أن ينجح الحزب في التكيف مع المستجدات المتسارعة، أو ينزلق نحو التفكيك تحت وطأة الضغوطات والتحديات المتزايدة.
باحثة بوحدة الأمن والدفاع





