شهدت الفترة الأخيرة تغيرًا في خريطة القوة العالمية للبحث العلمي. على مدار قرن من الزمان، كانت الولايات المتحدة الأمريكية تحتل الصدارة عالميًا في مخرجات البحث العلمي وجودته بفضل استثماراتها الضخمة في التعليم العالي، وتمويل الأبحاث، وشبكة مؤسساتها البحثية العريقة. إلا أن السنوات الأخيرة كشفت عن تحوّل كبير، حيث بدأت الكفة تميل تدريجيًا نحو آسيا، وتحديدًا نحو الصين، التي صعدت بسرعة مذهلة لتحتل الصدارة في التصنيفات العالمية لأداء المؤسسات البحثية، حتى باتت تهدد الهيمنة الأمريكية التقليدية، بل وتتجاوزها في بعض المؤشرات، خاصة في مجالات العلوم الطبيعية.
في هذا المقال، نستعرض هذا التحول العالمي حيث نقارن بين الصين والولايات المتحدة في مجال البحث العلمي، ونناقش كيف يمكن لمصر الاستفادة من هذا الحراك لتطوير منظومة البحث العلمي لديها.
نستند في رصد التغير الملحوظ في موازين القوة في البحث العلمي على عدة مصادر، يعد من أهمها مؤشر Nature Index وهو قاعدة بيانات مفتوحة معنية بمتابعة الحركة البحثية، حيث يرصد المؤشر إسهامات الباحثين في المقالات العلمية المنشورة في مجموعة مختارة من المجلات عالية الجودة في مجالات العلوم الطبيعية والعلوم الصحية.
يتم تحديث بيانات المؤشر شهريًا، كما تصدر مجموعة Springer Nature الألمانية – وهي الجهة المسئولة عن إصدار المؤشر والتي تتميز بكونها دار نشر علمية مرموقة – تقريرها السنوي الذي يقدم معلومات حول إنتاج البحث العلمي لكل مؤسسة ودولة؛ مما يسمح بتحليل الأداء البحثي ومقارنة المخرجات العلمية بين المؤسسات والبلدان المختلفة.
تُظهر بيانات تقرير Nature Index 2024 تغيرًا جذريًا في توازن القوى: سبع مؤسسات من أصل العشرة الأوائل عالميًا تقع في الصين، بينما تراجع عدد المؤسسات الأمريكية في القائمة، مع خروج جامعة ستانفورد للمرة الأولى من المراكز العشرة الأولى. أيضًا، بحسب التقرير، تجاوزت الصين الولايات المتحدة لأول مرة في مجالات العلوم الطبيعية (الكيمياء، علوم الحياة، الفيزياء، وعلوم الأرض والبيئة). وحققت الصين نموًا بنسبة 21.4% في نصيبها من الإنتاج البحثي مقارنةً بعام 2021، وهو أعلى معدل بين الدول العشر الأوائل، بينما سجلت الولايات المتحدة انخفاضًا بنسبة – 6.9%. في الفترة نفسها.
تفوق الصين
في عام 2024، تصدّرت الأكاديمية الصينية للعلوم (CAS) الترتيب العالمي في نشر الأبحاث العلمية، بحصولها على أعلى نقاط في تصنيف Nature Index-حيث يتم احتساب تلك النقاط بطريقة خاصة بناءً على حصة كل مؤسسة من المقالات المنشورة بالمجلات العلمية التابعة لمجموعة Nature– وذلك بحصة نشر بلغت 2,243.22 نقطة وهو ما يعد تقريبًا ضعف حصة جامعة هارفارد الأمريكية التي جاءت في المركز الثاني بـ 1,143.43 نقطة. وتوزعت الحصة الصينية من النقاط الدالة على حجم نشر الأبحاث العلمية على عدد كبير من المؤسسات الأخرى، أبرزها:
- جامعة الأكاديمية الصينية للعلوم (UCAS) – المرتبة 4، برصيد 635.81 نقطة
- جامعة العلوم والتكنولوجيا في الصين – المرتبة 5، برصيد 631.20 نقطة
- جامعة بكين – المرتبة 6، برصيد 617.17 نقطة
- جامعة نانجينغ وجامعة تشينغهوا وجامعة تشجيانغ أيضًا ضمن العشرة الأوائل
هذا التطور الملحوظ يظهر جليًا في العقدين الأخيرين فقط، حيث إنه في عام 2000، كانت الصين تُنتج أقل من 10% من عدد الأبحاث العلمية التي تُنشر سنويًا مقارنةً بالولايات المتحدة بينما بحلول عام 2022، فاق عدد الأوراق البحثية التي تنشرها الصين نظيرتها الأمريكية، وفقًا لبيانات كشفت عنها مؤسسة Scopus الهولندية.
هذا النجاح الصيني ليس عشوائيًا، بل هو نتيجة استراتيجية وطنية مدروسة يمكن تلخيصها في النقاط الآتية:
- الاستثمار المكثف في الجامعات والمراكز البحثية
- تشجيع العودة للمغتربين الصينيين من الباحثين الأكاديميين.
- التركيز على المجالات الحيوية مثل الذكاء الاصطناعي، الطاقة، والصحة.
- تمويل ضخم يتجاوز 2.4% من الناتج المحلي الإجمالي للبحث والتطوير (R&D)
ماذا عن الولايات المتحدة؟
في السنوات الأخيرة، أدت بعض العوامل لتراجع نسبي للولايات المتحدة الأمريكية في مجال البحث العلمي، مثل:
- تخفيض التمويل الفيدرالي للبحث العلمي.
- فرض بعض القيود على الباحثين الأجانب خاصة بعد تزايد التوترات السياسية بين الولايات المتحدة والعديد من الدول.
- المنافسة المتزايدة من المؤسسات الآسيوية والأوروبية.
رغم تراجعها النسبي في العلوم الطبيعية، لا تزال الولايات المتحدة تسيطر على الريادة في مجال العلوم الصحية والطبية وفقًا لـ Nature Index.
- حصلت الولايات المتحدة على 5352 نقطة في العلوم الصحية، مقارنة بـ 1287 نقطة فقط للصين.
- 15 من أفضل 20 مؤسسة في هذا المجال كانت أمريكية، تتصدرها جامعة هارفارد.
أيضا، لا تزال جامعات مثل هارفارد وMIT وNIH تحتفظ بمكانة علمية مرموقة، لكن إجمالي عدد المنشورات في مجلات Nature Index لا يُوازي تسارع الصين.
بالتالي، يتضح أن المشهد ليس أحادي الجانب. الصين تتفوق في الكم والنمو السريع، فيما لا تزال الولايات المتحدة متفوقة في تخصصات بعينها والابتكار في مجالات محددة، خصوصًا الطب والتكنولوجيا الحيوية.
مقارنة عامة: الصين VS الولايات المتحدة
نستعرض في الجدول التالي مقارنة عامة بين الصين والولايات المتحدة في مؤشرات نمو البحث العلمي في عام 2024 بمرجعية Nature Index (مع ملاحظة أن الأرقام تقريبية).
| الصين | الولايات المتحدة | المؤشر |
| 778,000+ | 680,000+ | عدد الأوراق البحثية |
| 1.5 مليون | 600,000 | عدد طلبات الحصول على براءة الاختراع |
| الأولى عالميًا | الثانية عالميًا | حصة العلوم الطبيعية (Nature) |
| الثانية عالميًا | الأولى عالميًا | حصة العلوم الصحية (Nature) |
| 456 مليار$ | 679 مليار$ | تمويل البحث والتطوير (R&D) |
| 2.4% | 3.5% | نسبة الإنفاق إلى الناتج المحلي |
| 6 جامعات | 11 جامعة | أفضل 20 جامعة عالميًا |
أين تقف مصر من هذا المشهد؟
رغم التحديات، تمتلك مصر إمكانات علمية وبشرية كبيرة، وتاريخًا أكاديميًا مشرفًا. إلا أن أداءها لا يزال يحتاج للمزيد من التطوير لتستطيع المنافسة في المؤشرات العالمية. فبحسب تصنيف SCImago – وهو مقياس يعتمد على تحليل البيانات الأكاديمية والعلمية لتصنيف الجامعات والمؤسسات البحثية والدوريات العلمية على مستوى العالم والتابع لمؤسسة Scopus الهولندية – لعام 2024:
- الترتيب العالمي: احتلت مصر المرتبة 26 عالميًا من بين 233 دولة، متقدمة مركزين عن ترتيبها في عام 2023 وذلك طبقًا لمؤشرScopus (بينما يختلف الترتيب العالمي في مؤشر Nature Index الذي يأخذ في الاعتبار الإسهام العلمية بالمقارنة بعدد السكان وتحتل فيه مصر المركز 57).
- عدد الأبحاث المنشورة: بلغ إجمالي الأبحاث الدولية المنشورة 34,575 بحثًا مع ملاحظة مهمة وهي أن معظم الأبحاث لا تُنشر في المجلات الأعلى تصنيفًا
- وصل إنتاج مصر من الأبحاث إلى 1.13 % من إجمالي المنشورات الدولية
- أظهرت مصر تفوقًا واضحًا في مجالات العلوم الزراعية والكيمياء؛ حيث احتلت مصر المرتبة 19 عالميًا في البحث العلمي بمجال العلوم الزراعية من بين 222 دولة، وفي الكيمياء: جاءت مصر في المرتبة 18 عالميًا من بين 194 دولة.
- عدد براءات الاختراع المسجلة لا يتجاوز 500 براءة سنويًا.
كيف نطور البحث العلمي في مصر؟
لتعزيز مكانة مصر في مجال البحث العلمي والنشر الدولي، هناك عدة عوامل رئيسية يجب التركيز عليها. فيما يلي ثلاث عناصر مهمة قد تسهم في تحسين الأرقام وتعزيز أداء البحث العلمي في مصر:
- زيادة تمويل البحث والتطوير (R&D):
- حاليًا، لا يتجاوز الإنفاق على البحث العلمي في مصر 0.7% من الناتج المحلي، وهي نسبة أقل من المتوسط العالمي (2.2%).
- تحتاج مصر إلى زيادة الاستثمار في البحث والتطوير على كافة المستويات، سواء في القطاع الحكومي أو الخاص.
- زيادة الدعم المالي للمشاريع البحثية سيسهم في تطوير تقنيات جديدة، وزيادة عدد المنشورات العلمية، وتعزيز قدرة الباحثين المصريين على الإسهام في الأبحاث العالمية.
- تشجيع التعاون الدولي:
- التعاون بين الباحثين المصريين والمؤسسات الأكاديمية الدولية يمكن أن يسهم في رفع جودة الأبحاث وزيادة فرص نشرها في المجلات العالمية.
- تعاون مصر مع الجامعات الكبرى والمؤسسات البحثية في الخارج من خلال شراكات استراتيجية، ورعاية المؤتمرات والندوات العلمية الدولية، سيتيح الفرصة للباحثين المصريين للاطلاع على أحدث التطورات العلمية.
- المنح الدراسية لطلاب الدراسات العليا في الجامعات العالمية يمكن أن تسهم في تبادل الخبرات وتعزيز البحث العلمي المصري على الصعيد العالمي.
- تحسين بيئة البحث العلمي المحلية:
- إنشاء برامج لاستقطاب العقول المهاجرة، مشابهة لتجربة الصين.
- إنشاء مجمعات بحثية متكاملة على غرار “وادي السيليكون” الصيني، تضم الجامعات ومراكز الابتكار والصناعات في بيئة واحدة.
- إنشاء المزيد من المراكز البحثية المتخصصة في مجالات العلوم الحديثة مثل الذكاء الاصطناعي، الطاقة المتجددة مما سيسهم في رفع جودة الأبحاث.
- تحسين البنية التحتية للبحث العلمي داخل الجامعات والمراكز البحثية من خلال توفير معامل متطورة وتقنيات متقدمة.
- تدريب الباحثين المصريين على استخدام أدوات البحث الحديثة وطرق النشر الدولية، مما سيسهم بشكل كبير في تحسين الأبحاث العلمية وجودتها.
- تحفيز النشر في المجلات العالمية من خلال تقديم مكافآت مادية أو ترقيات للباحثين ودعم تكاليف النشر واللغة والترجمة.
أخيرًا، فإن الصعود الصيني في مجال البحث العلمي ليس حدثًا عابرًا، بل نتيجة استراتيجية طويلة المدى ومدعومة سياسيًا واقتصاديًا. الولايات المتحدة لا تزال قوية، لكن المشهد يتغير بوضوح. أما مصر، فهي بحاجة إلى تحرك جاد ومدروس للحاق بالركب، خاصة أن العلم أصبح أداة رئيسية في التنمية الاقتصادية والسياسية.
اللحظة الراهنة فرصة ذهبية لمصر لتعيد رسم دورها العلمي على الخريطة العالمية، بشرط أن ننظر للعلم والبحث كإحدى أهم ركائز الأمن قومي.




