انتهت الجولة التمهيدية من المباحثات بين الولايات المتحدة وإيران يوم السبت الموافق الثاني عشر من أبريل وسط أجواء وصفها الطرفان بـ “الإيجابية والبناءة“، مع اتفاق على استكمالها الأسبوع المقبل في التاسع عشر من أبريل. وقد جرت المحادثات بصورة غير مباشرة كما طلبت طهران وليست مباشرة كما تطلع الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب”؛ إذ أوضح “إسماعيل بقائي”، المتحدث باسم الخارجية الإيرانية، أن كل وفد جلس في غرفة منفصلة، وتبادلا الرسائل عبر وزير الخارجية العُماني، باستثناء لقاء مباشر قصير جرى بين الوفدين بعد خروجهما من المحادثات غير المباشرة. هذا، وقد كشفت بعض الإفادات الإعلامية بأن “ترامب” يريد التحرك بسرعة فيما يتعلق بالاتفاق، على الرغم من التهديدات المتكررة باللجوء للأداة العسكرية حال فشلت المباحثات، وذلك في خضم مساعي إيرانية لتخفيف العقوبات من جانب، ومطالب أمريكية لتحجيم البرنامج النووي الإيراني من جانب آخر، في ظل توترات إقليمية متصاعدة على خلفية الجموح الإسرائيلي في المنطقة. المشهد الذي يثير التساؤلات بشأن فرص واحتمالات التصعيد والتهدئة بين واشنطن وطهران على خلفية الشروع في المباحثات.
مفاوضات في خضم الحرب الكلامية والضغوط القصوى
أعلن الرئيس “ترامب”، في الرابع من فبراير 2025، أنه يعتزم استئناف سياسة “أقصى ضغط” ردًا على محاولة إيران تطوير أسلحة نووية. كما أكدت “تامي بروس”، المتحدثة باسم وزارة الخارجية الأمريكية، أن واشنطن “ستستخدم كل الأدوات المتاحة لمحاسبة طهران على أنشطتها المزعزعة للاستقرار وسعيها للحصول على أسلحة نووية تهدد العالم المتحضر”. واستنادًا إلى ذلك، فرضت واشنطن عقوبات على أسطول سفن وشبكة دولية مسؤولة عن تحويل الإيرادات غير المشروعة إلى الجيش الإيراني، وأوضحت وزارة الخزانة أن العقوبات استهدفت أفرادًا وشركات في دول من بينها الصين والهند والإمارات، بالتوازي مع فرض عقوبات جديدة على ستة كيانات مقرها هونج كونج والصين بسبب تورطهم في شبكة شراء مسيرات إيرانية.
وعلى النقيض من ذلك، أوضح “ترامب” في منشور على منصته “تروث سوشيال“، أن التقارير التي تتحدث عن نية الولايات المتحدة وإسرائيل لـ “تدمير إيران حتى تتحول إلى شظايا.. مبالغ فيها بشكل كبير”، مؤكدًا على رغبته في رؤية إيران “عظيمة وناجحة”، ولكن مع “عدم امتلاكها للسلاح النووي”. وقد ذهب “ترامب” أبعد من ذلك حينما أبدى رغبته في العمل على “اتفاق سلام نووي موثق”، يسمح لطهران بـ “النمو والازدهار” بشكل سلمي، داعيًا إلى البدء في العمل على هذا الاتفاق “فورًا”، ومقترحًا “إقامة احتفال كبير” في الشرق الأوسط عند توقيعه وإتمامه. ومن جهتها، رفضت إيران على لسان المرشد “آية الله خامنئي” مقترح الرئيس “ترامب” بشأن إجراء مفاوضات لتوقيع اتفاق جديد.
وفي تصعيد مثّل انقضاضًا على دعوته للانعزالية وعدم الانخراط العسكري مجددًا في الخارج، شنت إدارة “ترامب” في الخامس عشر من مارس الماضي غارات عنيفة على جماعة الحوثي المدعومة من إيران، والتي تعد الذراع الإيراني الوحيد الذي لا يزال يعمل بنشاط. وقد أكد “ترامب” في منشور له على منصته “تروث سوشيال” أنه لن يتسامح مع هجوم جماعة الحوثي على السفن الأمريكية، وسيستخدم القوة الساحقة لتحقيق أهدافه، كما أكد على تحمل إيران “المسئولية عن أي هجمات أخرى من جانب الحوثيين”. كما صرح مستشار الأمن القومي “مايك والتز” بأن واشنطن قد تضرب أهدافًا إيرانية في اليمن كجزء من حملتها العسكرية ضد الحوثيين.
وفي خضم هذه الحالة من الشد والجذب، كشف الرئيس “ترامب” للصحفيين -في إعلان غير متوقع- بالمكتب البيضاوي أثناء لقائه رئيس الوزراء الإسرائيلي “بنيامين نتانياهو” في الثامن من أبريل أن “المحادثات المباشرة مع طهران قد بدأت” مشيرًا إلى اجتماع مزمع عقده يوم السبت الموافق الثاني عشر من أبريل، مضيفًا أنه يعتقد “أن الجميع متفقون على أن التوصل إلى اتفاق سيكون أفضل”. وتأكيدًا على ذلك، قالت المتحدثة باسم البيت الأبيض، “كارولين ليفيت” خلال مؤتمر صحفي: إن “الرئيس ترامب كشف عن مباحثات مباشرة ستجري مع إيران السبت”. مضيفة أن الرئيس جعل الأمر واضح أمام الإيرانيين و”عليهم اتخاذ القرار، بإمكانهم الوصول إلى اتفاق، وبإمكانهم التفاوض، أو سيتعين عليهم دفع الثمن”. وردًا على ذلك، قال وزير الخارجية الإيراني “عباس عراقجي” إن بلاده تفضل عقد محادثات “غير مباشرة” مع واشنطن “لتجنب الضغوط والتهديدات”. ونقلت وكالة “إرنا” الإيرانية عن “عراقجي” قوله “لن نقبل أي طريقة أخرى للتفاوض”.
واستنادًا إلى ذلك، وصل الوفد الأمريكي برئاسة المبعوث “ستيف ويتكوف” والوفد الإيراني برئاسة “عراقجي”، إلى العاصمة العمانية مسقط، في الثاني عشر من أبريل. هذا، وقد صرحت طهران مجددًا على لسان المتحدث باسم وزارة الخارجية الإيرانية أن الوفد الإيراني توجه إلى مسقط “لإجراء مفاوضات غير مباشرة”. ومن جانبه، هدد الرئيس “ترامب” بعمل عسكري إذا لم يتوصل إلى اتفاق. فيما حذرت طهران الدول المجاورة التي تضم قواعد أمريكية من أنها ستواجه “عواقب وخيمة” إذا شاركت في أي هجوم عسكري أمريكي ضدها.
وفي إطار سياسة “أقصى ضغط”، قال وزير الطاقة الأمريكي “كريس رايت” خلال زيارة لـ”أبو ظبي” إن واشنطن قادرة على تكثيف الضغط على طهران ووقف صادراتها النفطية في إطار خطة للضغط عليها بشأن برنامجها النووي. مشيرًا إلى اعتقاده أن حلفاء الولايات المتحدة في الخليج “قلقون للغاية” بشأن البرنامج النووي الإيراني، ويشاطرون واشنطن رؤيتها. بالتوازي مع ذلك، أعلنت واشنطن فرض عقوبات على خمسة كيانات تُدير وتُشرف على البرنامج النووي الإيراني، بما في ذلك منظمة الطاقة الذرية الإيرانية (AEOI) وشركة تكنولوجيا الطرد المركزي الإيرانية (TESA) التابعة لها. وشدد بيان للخارجية الأمريكية على أن واشنطن “ستواصل محاسبة كل من يسعى لدعم البرنامج النووي الإيراني”.
وفي هذا السياق، حدد رئيس الوزراء الإسرائيلي في بيان نشرته صفحة إسرائيل بالعربية مطالب إسرائيل حول ما يجب أن يتضمنه أي اتفاق مع إيران، قبل المحادثات الجارية بين واشنطن وطهران. قال “نتنياهو”: إننا متفقون على أن إيران لن تمتلك أسلحة نووية. يمكن إنجاز ذلك عبر اتفاق، ولكن فقط إذا كان هذا الاتفاق على النموذج الليبي؛ أي تفجير المنشآت، وتفكيك جميعها، تحت إشراف وتنفيذ أمريكي، فهذا سيكون أمرًا جيدًا”. موضحًا أن الخيار الثاني سيكون “عسكريًا” حال انتهج الإيرانيون أسلوب “المماطلة والتسويف في المحادثات”.
السيناريوهات المحتملة
اعتبر “ترامب” خلال حملته الانتخابية أن الرئيس “جو بايدن” قد أضعف نهج “أقصى ضغط” الذي تبناه خلال ولايته الأولى بسبب التطبيق غير الصارم للعقوبات. كما انتقد “ترامب” إدارة “بايدن” معتبرًا أن التساهل الذي أبدته تجاه طهران كان السبب الرئيس وراء هجوم السابع من أكتوبر 2023. وعلى الرغم من وجود فترة رئاسية أولى يمكن أن تحدد أطر تحرك الرئيس “ترامب” تجاه إيران في ولايته الثانية، فإن هناك تغيرات كبيرة على الأرض يمكن أن تعمل كمحددات لسياسة واشنطن الجديدة تجاه طهران، وفي مقدمتها: الجموح الإسرائيلي في المنطقة، وضعف إيران الاستراتيجي، ومحاولات إيران للتقارب مع محيطها الإقليمي. ومن ثَمّ، يتضح أن المشهد بات أكثر تعقيدًا بطريقة تجعل تفكيك وتحليل المحادثات الجارية ونتائجها المتوقعة أكثر صعوبة. وهو ما يمكن النظر إليه وفق ثلاثة سيناريوهات:
- السيناريو الأول: الضغط في سبيل الاتفاق:
يقوم هذا السيناريو على افتراض رئيس مؤداه أن الهدف الأساسي للرئيس “ترامب” يكمن في الوصول لاتفاق جديد، وذلك بالاستناد إلى شخصية “ترامب” التي تتطوق إلى تحقيق إنجازات سريعة واختراقات غير متوقعة، بالتوازي مع ميله المتواضع صوب الأداة العسكرية، ورغبته كرجل أعمال في عدم تحمل التكاليف بما فيها تكاليف الأمن والدفاع. ويدلل على ذلك، تصريحه الخاص برغبته في العمل على “اتفاق سلام نووي موثق”، يسمح لإيران بـ “النمو والازدهار” بشكل سلمي. ويرتبط هذا السيناريو أيضًا برغبة دول المنطقة في احتواء الاحتقان ومنع المزيد من التصعيد، ويؤشر على ذلك قنوات الاتصال المفتوحة بين إيران ودول الخليج، والتي توجت بعودة العلاقات الدبلوماسية بين إيران والسعودية، ناهيك عن مشاركة إيران في القمة العربية الإسلامية، وزيارة رئيس هيئة الأركان العامة السعودية لطهران.. وغيرها.
وعلى الرغم من أن الوصول لاتفاق هو الهدف، فإن “ترامب” يقوم في سبيل ذلك بممارسة سياسة “أقصى ضغط” لسببين رئيسيين؛ ينصرف الأول: إلى ثني إيران عن المماطلة وممارسة سياسة “كسب الوقت”، ويتصل الثاني: بإرغام طهران على اتفاق وفق الشروط الأمريكية. وفي مقابل ذلك، يسعى “ترامب” لإعطاء رسائل تطمينية للنظام الإيراني من شأنها تشجيعه على الجلوس على مائدة المفاوضات، وهي الرسائل المتعلقة بعدم رغبة واشنطن في إسقاط النظام الإيراني. مما يعني أن واشنطن توظف دوافع النظام الإيراني، ما بين ضمان بقاء النظام من جانب، في الوقت نفسه الذي تعمل فيه على فرض المزيد من الاختناق الاقتصادي من جانب آخر. لذا؛ تعتبر بعض التحليلات أن التصريحات المتناقضة لـ “ترامب” هي جزء من أسلوبه التفاوضي الذي يهدف إلى الضغط على خصومه في سبيل إبقائهم في حالة من عدم التوازن.
- السيناريو الثاني: هجوم عسكري في سبيل الاتفاق:
يستند هذا السيناريو إلى التوقعات المرتبطة بتواضع تأثيرات سياسة “أقصى ضغط” في شكلها الحالي، بما يمكن أن يدفع واشنطن إلى شن حرب محدودة كمرحلة تالية ضمن الضغوط القصوى الموجهة ضد إيران. ويرتبط هذا السيناريو بفكرة أساسية مفادها أن تكثيف الانتشار العسكري الأمريكي بالمنطقة والهجمات الأمريكية ضد الحوثيين في اليمن تأتي في إطار كونها رسالة لإيران من أجل التعجيل بعودتها لمائدة المفاوضات وفق الشروط الأمريكية. ومن ثَمّ، يقوم هذا السيناريو على مبدأ السلام من خلال القوة الذي يوظفه “ترامب” في الملفات المختلفة. الأمر الذي يعني إمكانية توجيه ضربات محددة تجاه إيران وليس فقط الاكتفاء بالحوثيين، من أجل كسر سياسة النفس الطويل التي تنتهجها طهران، ومواجهة إصرارها على المفاوضات غير المباشرة. ومن المحتمل أن يتشابه الهجوم العسكري المزمع أو الحرب المحدودة مع الهجمات التي وقعت في أبريل وأكتوبر 2024، أي تقوم بها إسرائيل تحت مظلة أمريكية.
وعلى الرغم من الرفض الذي ستبديه دول المنطقة تجاه التصعيد العسكري ضد طهران، فإنه سيسهم في تحقيق قدر من الإرضاء لإسرائيل؛ فقد أفاد موقع “الحرة” في فبراير 2025 بوجود تقييمات استخباراتية أمريكية تشير إلى وجود ميل إسرائيلي صوب شن هجمات على المنشآت النووية الإيرانية خلال العام الجاري استغلالًا لحالة الضعف التي تمر بها إيران. لذا؛ تكمن خطورة هذا السيناريو في صعوبة تحديد السقف المقبول به من قبل إيران. الأمر الذي يعني أن هذا السيناريو قد لا ينجح بالضرورة في دفع إيران للتفاوض، وإنما قد يؤدي عن دون قصد إلى إغراق المنطقة بأكملها في مستنقع الفوضى.
- السيناريو الثالث: شن حرب ضد إيران:
تبني الرؤساء الأمريكيين لما يزيد عن العقدين اقترابًا تجاه إيران يقوم على الردع باستخدام الدبلوماسية والعقوبات، ولم يميلوا صوب شن هجمات عسكرية داخل الأراضي الإيرانية، إلا أن النجاحات العملياتية الإسرائيلية في استهداف وكلاء طهران وقطع الأذرع الإيرانية قد أسهم في الانقضاض على هذه الرؤية، بل ودلل على إمكانية استكمال تفكيك شبكة التهديد الإقليمي الإيرانية. ومن ثَمّ، ينطلق هذا السيناريو من التحليلات التي تعتبر أن الولايات المتحدة تتجهز لضربة شاملة على إيران، بالاستناد إلى تكثيف الحشد العسكري الأمريكي في المنطقة (على سبيل المثال: زيادة عدد القاذفات الشبحية “بي 2″، وإرسال حاملة الطائرات “كارل فينسون”، والتمديد لحاملة الطائرات “هاري ترومان”)، وكذا تصاعد عمليات الاستطلاع الجوي الأمريكي للساحل الإيراني خلال الفترة الأخيرة. علاوة على ذلك، ينظر هذا السيناريو إلى العمليات الجوية الأمريكية في اليمن كـ”محاكاة” أو “تدريب ميداني” على استهداف الأراضي الإيرانية.
يدعم هذا السيناريو محاولة إسرائيل دفع الولايات المتحدة لاستغلال حالة الضغط الاستراتيجي التي تمر بها إيران من أجل القضاء على التهديد الذي تمثله للأبد. كما يشجع هذا السيناريو أيضًا جانب من تيار اليمين المسيحي الأمريكي الذي يفسر التصعيد الجاري بالمنطقة بوصفه جزءًا من “معركة نهاية الزمان”؛ إذ أشارت بعض الرموز “الإيفانجيليكية إلى أننا “على حافة المجيء”. ومن ناحية أخرى، فإن رفض طهران للشروط الأمريكية واستمرارها في سياسة “كسب الوقت” قد يدفع “ترامب” تجاه رد فعل متهور، ولا سيما في ضوء إصراره على تحقيق مكاسب سريعة. إلا أن هذا السيناريو يبقى باهظ التكلفة، ليس فقط من حيث حجم التكاليف المادية، وإنما التكلفة التي سوف تتحملها المنطقة بأسرها، والتي ترتبط في جانب منها برد الفعل الإيراني، وحجم الانتقام الإيراني حال شعرت طهران بتهديد وجودي (قيام إيران بشن هجمات من جميع “المدن الصاروخية” التي نجت من الاستهداف).
استنادًا إلى ما سبق، يبدو –وفق تحليل أولي– أن السيناريو الأول هو الأكثر ترجيحًا، إلا أن تطورات الأوضاع على الأرض تؤشر على أن كل الاحتمالات ممكنة، ولا سيما في ضوء حالة الاحتقان التي تتسم بها التفاعلات والضبابية والتشوش التي تغلف الرؤى في المنطقة. علاوة على ذلك، يصعب التنبؤ –بشكل قاطع– بموقف إدارة “ترامب” تجاه المنطقة؛ إذ يتضح أن هناك انقسامًا واضحًا في الإدارة الأمريكية تجاه الانخراط مجددًا في الشرق الأوسط، وهو ما كشفته تسريبات “سيجنال” بشأن الهجمات الأمريكية ضد الحوثيين باليمن عن تصدر نائب الرئيس “جي دي فانس” للتيار الداعم للانعزالية في مقابل تصدر وزير الدفاع “بيت هيجسيث” للتيار التصادمي. وهذا الانقسام الذي علق عليه “ماثيو بيتي”، مساعد التحرير في مجلة “ريزون”، لقناة الجزيرة بالقول إن “النفور الجديد من الحروب الخارجية، وخاصة في الشرق الأوسط، لا يتوافق بشكل مريح مع التقارب الثقافي اليميني لإسرائيل”. موضحًا أن اليمين الديني الأمريكي يعاني انقسامات داخلية بسبب الجدل حول دعم الانعزالية من جانب وحماية إسرائيل من جانب آخر.
رئيس وحدة الدراسات الأمريكية
