في خطوةٍ أثارت جدلاً واسعاً داخل الأوساط السياسية والدينية في الهند، قدمت حكومة “ناريندرا مودي” مشروع قانون جديد لتعديل قانون الأوقاف، يستهدف القانون تغيير طريقة إدارة الأراضي الموقوفة لصالح المسلمين. وتُمثل هذه الأراضي واحدة من أكبر محافظ العقارات في البلاد، كما تُعد رمزاً تاريخياً ودينياً واجتماعياً للمجتمع المسلم، ويُنظر إليها كأداة دعم اقتصادي وتعليمي للفئات المهمّشة. لكن مشروع القانون الجديد، الذي يتيح للحكومة التدخل في ملكية العقارات الوقفية ويضم أعضاء غير مسلمين إلى مجالس إدارتها، أثار مخاوف عميقة من أي محاولات لتقويض الحقوق الدينية والاقتصادية للمسلمين. وبينما تروّج الحكومة لهذا المشروع بوصفه إصلاحاً لمكافحة الفساد وسوء الإدارة، ترى أطراف أخرى فيه محاولة لتوسيع نفوذ الدولة على مؤسسات الأقلية المسلمة. وقد تفتح هذه الخطوة الباب أمام تساؤلات مصيرية حول العلاقة بين الدولة والمجتمع المسلم، وحدود التدخل في الشأن الديني في دولة تتبنى العلمانية أيديولوجية رسمية، لكنها تواجه اتهامات متزايدة بالميل نحو القومية الهندوسية.
خلفية الموضوع
منذ قرون، لعبت الأوقاف الإسلامية – وهي ممتلكات يتم تخصيصها لأغراض خيرية أو دينية وفقًا للشريعة الإسلامية – في الهند دورًا محوريًا في النهوض بالمجتمع المسلم، حيث ساهمت في تأسيس المدارس، المستشفيات، ودور العبادة، إلى جانب دعم الفئات المهمشة وتقديم خدمات اجتماعية واقتصادية. وبموجب الشريعة الإسلامية، تُعد الأوقاف ممتلكات غير قابلة للبيع أو التنازل وتُدار لأغراض خيرية، وتخضع لإشراف مجالس الأوقاف المحلية. ومع أن الأوقاف كانت دائمًا أداة رئيسية لحماية البنية الاجتماعية والاقتصادية للمسلمين، إلا أن ضعف الإدارة والفساد المالي -وفقًا للحكومة الهندية- أثّرا سلبًا على فعاليتها، ما دفع الحكومة إلى طرح مشروع قانون جديد لإعادة تنظيمها، في خطوة أثارت نقاشات حادة في الأوساط الهندية.
تم تمرير مشروع قانون تعديل الأوقاف في البرلمان الهندي بأغلبية نسبية في مجلس النواب (لوك سابها)، حيث صوّت 288 نائبًا لصالح المشروع مقابل 232 صوتًا ضده، أي بنسبة تأييد تبلغ حوالي 55.4% من إجمالي الأصوات. وتعكس هذه النتائج انقسامًا سياسيًا حادًا حول القانون، حيث اعتمد تمريره على دعم التحالف الحاكم بقيادة حزب بهاراتيا جاناتا وحلفائه، في مواجهة معارضة قوية من أحزاب المعارضة والمجتمع المسلم.
وتُعد هذه القضية أكثر من مجرد إجراء إداري، فهي تمس مباشرة توازن العلاقة بين الدولة والأقليات، وخصوصًا المسلمين الذين يشكلون نحو 13% من السكان. ويرى كثيرون في القانون المقترح محاولة للهيمنة الحكومية على الممتلكات الدينية الخاصة، مما يهدد حقوق الملكية ويقوّض استقلالية المجتمع المسلم في إدارة موارده. ويزداد القلق مع تزامن هذه الخطوة مع سياقات سياسية مشحونة وتنامي الاتهامات الموجهة للحكومة بانتهاج سياسات تمييزية ضد المسلمين، ما يجعل من الأوقاف ساحة لصراع أكبر حول الحقوق الدينية والدستورية في الهند.
وفي هذا الإطار، أصبحت الأوقاف قضية سياسية بامتياز، تعكس التوتر القائم بين مفاهيم المواطنة المتساوية وممارسات التمكين أو التقييد تجاه الأقليات. فبينما تروّج الحكومة للقانون على أنه إصلاح إداري يعزز الشفافية ويكافح الفساد، ينظر إليه كثير من المسلمين كخطوة لتفكيك إحدى أهم أدواتهم المجتمعية التاريخية. وهكذا، لم تعد المسألة محصورة بإصلاح البنية الإدارية، بل باتت تمثل اختبارًا حقيقيًا لقدرة الدولة الهندية على إدارة التنوع الديني والعرقي، واحترام حقوق الأقليات في بيئة سياسية تزداد فيها الاستقطابات.
محتويات مشروع القانون
يتضمن مشروع القانون الجديد مجموعة من التعديلات المثيرة للجدل، أبرزها إدخال أعضاء غير مسلمين في مجالس الأوقاف المركزية والمحلية، وهو ما يُعد خروجًا عن التقليد التاريخي الذي حصر إدارة الأوقاف بالمسلمين، كونها ممتلكات دينية خاصة. وتبرر الحكومة هذا التغيير بالرغبة في تعزيز الشفافية والمساءلة، إلى جانب اقتراح آليات جديدة لحسم النزاعات المتعلقة بملكية الأراضي الوقفية، ما يمنح الدولة صلاحيات واسعة في تحديد مصير هذه الممتلكات.
كما ينص المشروع على إعادة هيكلة مجالس الأوقاف وزيادة الرقابة الحكومية على أصولها المالية والعقارية. وتُثير هذه التعديلات قلقًا حقيقيًا داخل المجتمع المسلم، الذي يرى فيها تهديدًا لاستقلالية الأوقاف وتفويضًا مباشرًا للحكومة بالسيطرة على أملاك دينية. وبينما تصف الحكومة المشروع كإصلاح إداري يستهدف مكافحة الفساد، يحذّر معارضوه من أن التعديلات قد تؤدي إلى تآكل سلطة المسلمين في إدارة مواردهم، وتقييد قدرتهم على توفير الخدمات الاجتماعية التي كانت الأوقاف تؤمنها تقليديًا. وفي ظل هذه التغيرات، يُطرح السؤال حول ما إذا كانت الخطوة تعكس نية صادقة للإصلاح، أم أنها تمهيد لتحجيم نفوذ ديني واجتماعي داخل مجتمع متعدد الأديان.
ردود الفعل
أثار مشروع القانون ردود فعل محلية واسعة النطاق خاصة داخل الأقليات المسلمة في الهند، وبين الحكومة، والأحزاب السياسية والمنظمات الإسلامية، وجاءت ردود الأفعال كالتالي:
- رفض المجتمع المسلم، قوبل مشروع تعديل قانون الأوقاف في الهند برفض واسع من قبل المجتمع المسلم، الذي اعتبر التعديلات تهديدًا مباشرًا لاستقلالية ممتلكاته الدينية وتقويضًا لدوره في إدارتها. وقد اندلعت احتجاجات حاشدة في عدة ولايات، أبرزها “كارناتاكا” التي شهدت خروج أكثر من 100 ألف متظاهر، والبنغال الغربية حيث وقعت أعمال عنف في مرشدآباد أسفرت عن سقوط قتلى واعتقالات جماعية. كما نظّمت فعاليات احتجاجية في نيودلهي وكولكاتا وكويمباتور بقيادة جهات دينية وأحزاب إسلامية، رُفعت خلالها الأعلام السوداء وشُددت الدعوات لسحب القانون. وأعرب المحتجون عن رفضهم لمنح الحكومة سلطات موسعة على إدارة الأوقاف، لا سيما اقتراح إدخال أعضاء غير مسلمين في مجالسها، معتبرين ذلك مساسًا بحقوقهم الدينية والدستورية وتدخّلًا غير مقبول في الشؤون الإسلامية. ويرى كثيرون أن هذه الخطوة قد تهمّش مطالب المسلمين، وتزيد التوترات الطائفية، وتُهدد التعايش السلمي في بلد يتسم بالتعددية الثقافية والدينية.
- تأييد حكومي، من جهة الحكومة، يُنظر إلى مشروع القانون كخطوة ضرورية لإصلاح الأوقاف وتعزيز الشفافية والنزاهة. وفي هذا السياق، أكد وزير شؤون الأقليات “كيران ريججو” أن التعديلات المقترحة ستسهم في مكافحة الفساد والتخفيف من سوء الإدارة الذي يعاني منه نظام الأوقاف الحالي. وتعتقد الحكومة أن وجود أعضاء غير مسلمين في مجالس الأوقاف سيعزز التعددية ويمنح كل الأطراف دورًا في اتخاذ القرارات، ما يجعل النظام أكثر عدلاً وفاعلية. بالإضافة إلى ذلك، يعتقد المسؤولون أن تدخل الحكومة في تحديد ملكية الأراضي المتنازع عليها سيقلل من احتمالية الاستغلال غير العادل للأوقاف، خاصة عندما يتعلق الأمر بالعقارات التي تمثل مصدر دخل هائل. من خلال هذه الإصلاحات، تهدف الحكومة إلى تحسين الاستخدام الاقتصادي للأوقاف لصالح المجتمع ككل.
- الأحزاب السياسية والمنظمات الإسلامية، من جانب الأحزاب السياسية والمنظمات الإسلامية المعارضة، هناك خشية من أن يقود مشروع القانون لتقليص حقوق المسلمين في إدارة الأوقاف. فالعديد من الأحزاب المعارضة والحركات الإسلامية في الهند يرون أن هذا المشروع يعد بمثابة تدخّل حكومي غير مبرر في شؤون المسلمين الدينية. وعلى سبيل المثال فإن الأحزاب المعارضة، مثل “حزب المؤتمر الهندي”، أكدت أن الحكومة تحاول من خلال هذا المشروع تهميش الأقلية المسلمة وتقليص قدرتها على حماية ممتلكاتها من التأثيرات الخارجية. كما تشعر بعض المنظمات الإسلامية أن هذا القانون قد يفتح المجال لتغييرات في الأسس الدينية والاجتماعية للأوقاف بما يخدم أجندات سياسية بعيدة عن مصالح المجتمع المسلم.
السيناريوهات المحتملة
في ظل الجدل المتصاعد حول مشروع قانون الأوقاف الجديد والانقسام الحاد بين مؤيديه ومعارضيه، تبرز ثلاثة سيناريوهات محتملة لمسار الأحداث المقبلة.
- السيناريو الأول: يتمثل في نجاح الإصلاحات وتعزيز الشفافية، حيث يؤدي تطبيق القانون إلى تحسين إدارة الأوقاف، ومكافحة الفساد، وتوزيع الموارد بعدالة، مما يعزز الثقة بين الدولة والمجتمع المسلم ويدعم الاستقرار الوطني.
- السيناريو الثاني: يتعلق بـ تصاعد التوترات الطائفية وزيادة الاحتجاجات، نتيجة تجاهل الحكومة لمخاوف المسلمين، مما قد يؤدي إلى اضطرابات واسعة، واستقطاب اجتماعي، وانتقادات دولية بسبب انتهاك حقوق الأقليات.
- السيناريو الثالث: يتعلق تعديل القانون استجابة للمخاوف، حيث تضطر الحكومة تحت ضغط الشارع والمعارضة إلى إدخال تعديلات تضمن الحفاظ على حقوق الملكية، وتعزيز تمثيل المسلمين في مجالس الأوقاف، مما يُعيد التوازن ويخفف من حدة التوترات.
في الختام، يحمل مشروع قانون الأوقاف الجديد في الهند العديد من الأبعاد الاجتماعية والسياسية التي لا يمكن تجاهلها. فمن جهة، تروج الحكومة أن هذا القانون يهدف إلى تحسين إدارة الأوقاف ومحاربة الفساد، ولكن من جهة أخرى، يثير مخاوف كبيرة حول حقوق المسلمين في إدارة ممتلكاتهم الدينية. ويتوقف مصير هذا القانون على كيفية استجابة الحكومة لمطالب المجتمع المسلم وتعديلاته لتقليل المخاطر التي قد تؤدي إلى تعميق الانقسامات الطائفية، وذلك لضمان استقرار المجتمع الهندي وتعايشه السلمي.
باحث أول بوحدة الدراسات الأسيوية