لم يُشكل الاستهداف الإسرائيلي لإيران مفاجأة في سياق الوضع الإقليمي بعد 7 أكتوبر 2023، إلا أن التوقيت الذي انطلقت فيه العملية الإسرائيلية لم يكن متوقعًا، حيث وضعت إيران في خندق ضيق وقرار صعب قبيل العملية العسكرية التي شنتها إسرائيل فجر الثالث عشر من يونيو، وذلك بين مناخ عام تم تأكيده بتقارير نشرت في وسائل إعلام دولية، عن قرب شن هجمة إسرائيلية استباقًا لإعلان فشل المفاوضات النووية، وبين عمليات تمويه قامت بها إسرائيل، بهدف تأخير رد الفعل الإيراني عن طريق عدد من الرسائل التي قامت تل أبيب بتصديرها وأعطت انطباعًا لطهران بأن الحكومة الإسرائيلية لا تنوي الدخول في حرب، على الأقل الآن.
تضمنت الرسائل الإسرائيلية ثلاث نقاط رئيسية؛ الأولى: التأكيد على وجود عطلة” رئاسية” تمكن نتنياهو من حضور زفاف نجله في الجليل، والثانية: إظهار الانشغال بأزمتين هما: باجتماعات تتعلق بصفقة الرهائن في غزة فضلًا عن أزمة المتدينين في إسرائيل- وهي الأزمة التي لم تكن مفتعلة بطبيعة الحال، أما الثالثة: فتتعلق بالملف النووي الإيراني نفسه، عن طريق تسريب أنباء عن توجه مسئولين أمنيين رفيعي المستوى إلى واشنطن لإجراء مباحثات؛ قبيل الجولة السادسة من المفاوضات النووية في سلطنة عمان.
ولفهم أبعاد التحرك الإسرائيلي فإنه من الأهمية تفكيك هذا القرار من حيث سياقه، دوافعه، نتائجه التي تم تحقيقها بالقياس على النتائج التي كانت مستهدفة من القيادتين السياسية والعسكرية في إسرائيل. وذلك على النحو التالي:
أولًا: التهديد الوجودي لإسرائيل وحساباته:
انطلقت عملية ” الأسد الصاعد” من باب إزالة خطر تهديد ” وجودي” عن إسرائيل، وحسب الجانب الإسرائيلي فإن هذا الخطر يتضمن تمكن إيران خلال فترة قصيرة من الزمن من تطوير قنبلة نووية بالاعتماد على مستويات عالية من تخصيب اليورانيوم، وفي التقديرات الإسرائيلية التي تستند إلى ما يعرف بـ” عقيدة بيجن”، يعد هذا تهديدًا لبقاء دولة إسرائيل، وترجع هذه العقيدة إلى عام 1981 عندما تم تدمير المفاعل النووي العراقي، ومنذ ذلك التوقيت التزمت إسرائيل بمنع أي نظام تراه معاديًا من امتلاك سلاح نووي بما يشكل عمودًا استراتيجيًا في السياسة الإسرائيلية.
وبالتالي، جاء التحرك الإسرائيلي الذي يوصف بالعدوان على دولة أخرى، مدفوعًا بالهدف الأهم لأي حكومة وهو الحفاظ على بقاء الدولة، وهو الهدف الذي يجعل من مشاهد الدمار التي أحدثتها الضربات الصاروخية الإيرانية، قابلة للتدارك حسب الجانب الإسرائيلي، إذا ما كانت تكلفة عدم شن هجوم استباقي تعني زوال إسرائيل.
ثانيًا: إشكاليات تتعلق بنتائج العملية واحتمالية “خطأ الحسابات“:
أ– نتائج عملية الأسد الصاعد قياسًا على أهدافها:
يمكن قياس مدى نجاح هذه الضربة الإسرائيلية بالأهداف التي نجحت في تحقيقها حتى الآن، ومقارنتها بالهدف الرئيسي وهو منع إيران من امتلاك قنبلة نووية، مع الوضع في الاعتبار أن إسرائيل وإن كانت تريد منع طهران من أن تنضم للنادي النووي، إلا أنها تعي في الوقت نفسه، أنها غير قادرة على تحقيق هذا الهدف لوحدها وبدون مساعدة الولايات المتحدة، التي من جانبها أعطت الضوء الأخضر لتل أبيب لممارسة دور الشرطي في المواجهة مع إيران، دون أن توفر إسنادًا مباشرًا للهجمات الإسرائيلية على المواقع النووية في إيران.
وحسب التقديرات فإن تدخل الولايات المتحدة إلى جانب إسرائيل هجوميًا يعد حاسمًا في تدمير المواقع التي يخصب فيها اليورانيوم بمستويات عالية وبالتحديد مفاعل ” فوردو” المحصن في منطقة جبلية مع الإشارة إلى أن إسرائيل قامت باستهدافه بالفعل ضمن مواقع نووية أخرى في إيران أبرزها (نطنز- أصفهان- آراك)، إلا أنه وحسب تقديرات الوكالة الدولية للطاقة الذرية، فإن هذه الضربات ربما تنجح في تعطيل البرنامج النووي الإيراني لمدة أشهر فقط.
حيث تجدر الإشارة أيضًا إلى أن الوكالة الدولية للطاقة الذرية أصدرت تقريرًا عشية استهداف إسرائيل للمواقع النووية في إيران لم يصدر مثله منذ 20 عامًا، وقد تضمن التقرير مخاوف جدية ومتزايدة منذ عام 2019 على الأقل، مفادها أن إيران فشلت في التعاون الكامل مع مفتشي وكالة الأمم المتحدة. وأكد التقرير أن طهران “عجزت مرارًا وتكرارًا” عن تفسير وإثبات أن موادها النووية لا تُحوّل لمزيد من التخصيب بغرض الاستخدام العسكري، في حالةٍ لشرعنة العدوان الإسرائيلي على إيران، وتكرار للدور نفسه المشبوه الذي مارسته الوكالة الدولية للطاقة الذرية قبيل الغزو الأمريكي للعراق في عام 2003 وإسقاط نظام صدام حسين.
ولذلك، يمكن القول إن الهدف الأهم للضربة الإسرائيلية على إيران لم يتم تحقيقه بعد، ورغم أن الجيش الإسرائيلي أقدم على استهداف تسعة علماء نوويين في إيران بنية القضاء على المشروع النووي فإن الواقع يشير إلى أن الذاكرة المعرفية والخبرة التقنية المتراكمة لدى الآلاف من العاملين في المجال داخل إيران من الصعب القضاء عليها باستهداف العلماء القائمين على تخصيب اليورانيوم فقط، فقد قُضي الأمر وإيران امتلكت التكنولوجيا النووية بالفعل.
ولا يزال تعطيل البرنامج النووي الإيراني لمدة طويلة مرهونًا بالتدخل الأمريكي الذي على ما يبدو لا يستطيع أحد حسم التوقعات بشأنه، فترامب الذي وجه بتحركات عسكرية في منطقة الشرق الأوسط توحي بأن الولايات المتحدة قد تكون طرفًا في الهجوم خلال الأيام أو حتى الساعات المقبلة، يمتلك سجلًا حافلًا بالتصريحات المتناقضة، التي يصعب رسم المسارات بقراءتها.
ولكن مما لا شك فيه أن ارتكاب الجانب الإيراني لحماقة، تتمثل باستهداف مصالح الولايات المتحدة في منطقة الخليج أو إغلاق مضيق هرمز، قد تكون الإشارة التي ستدفع الولايات المتحدة للدخول في الحرب وإن لم تكن تريدها، ومن هنا فإن الضغط العسكري الإسرائيلي على إيران، ربما يهدف إلى دفع إيران للإقدام على هذه الخطوة خاصة أن تغطية الإعلام العبري تصدر صورة توحي بأن الولايات المتحدة على وشك المشاركة في الهجوم لدفع طهران بأن تكون الطرف البادئ.
ب– احتمالية خطأ الحسابات الإسرائيلية:
يمكننا أن نشير إذن إلى أن المعطيات التي سبقت الإشارة إليها، وإن كانت متاحة للجميع فهي معروفة بطبيعة الحال للاستخبارات الإسرائيلية، التي رفعت مستوى أدائها بشكل غير مسبوق منذ أكتوبر 2023، وهذه المقدمات يجب أن تحيلنا إلى أن الهدف النهائي الذي تريده إسرائيل هو تحقيق تأثير سياسي على صانع القرار في إيران، إما بدفعه للعودة تحت النيران إلى مائدة المفاوضات، ليوقع استسلامًا غير مشروط يضمن أن النظام في إيران لن يفكر في تطوير قنبلة نووية، أو بإسقاط هذا النظام إذا لم يفهم الدرس سريعًا.
وبالنظر إلى الهدف الأول، وهو العودة إلى مائدة المفاوضات، فقد نفت تقارير إيرانية بتاريخ 18 يونيو أن يكون الجانب الإيراني، قد أرسل وفد التفاوض إلى مسقط التي ترعى المباحثات بين الطرفين الأمريكي والإيراني، فضلًا عن أن المرشد الأعلى الإيراني، أعلنها صريحة ردًا على ” ترامب ” “لن نستسلم”.
وبالنسبة للهدف الثاني، فلم تظهر التقارير الإعلامية أن الجانب الإسرائيلي يتعمد استهداف المصالح الحيوية في إيران، بشكل قد يضغط على الحكومة الإيرانية ويحرك الشارع ضدها، فلم تركز إسرائيل على استهداف شبكات الكهرباء، محطات المياه، شبكات الاتصالات” الإنترنت” أو حتى القطاع الصحي كنهجها داخل قطاع غزة، هذا من ناحية –ومن ناحية أخرى فإن القصف الإسرائيلي المستمر لا يسمح بخروج جموع الشعب الإيراني في تظاهرات للمطالبة بإسقاط النظام، وإن كان طول أمد الحرب وتراكم الدمار يمكن أن يدفع الشارع الإيراني للتحرك في توقيت ما.
ثالثًا– سيناريو اليوم التالي.. بين التهديد الوجودي وحرب الاستنزاف:
في ظل الفرضية التي تشير بأن الهدف الإسرائيلي يتضمن تغيير النظام في إيران، فإنه من الأهمية الإحالة إلى أنه لا الولايات المتحدة ولا إسرائيل تمتلكان خطة حقيقية تسمح بانتقال السلطة بشكل سلمي داخل إيران وتحديدًا لحفيد شاه إيران.
يرجع ذلك إلى أن نظام الشاه ليس مرحبًا به كما هو متوقع، وذلك لسببين؛ أن الشعب الإيراني وإن كان لا يرغب في استمرار النظام الثيوقراطي في إيران، فإن حالة الحرب التي فرضتها إسرائيل تمنحه قدرًا من الشرعية كان قد افتقد لها بعد مقتل الشابة الإيرانية” ماهسا أميني” على يد شرطة الأخلاق، بالسردية نفسها التي منح بها العدوان الإسرائيلي على إيران شرعية لنتنياهو أدت لتقدمه في استطلاعات الرأي على نفتالي بينيت بحوالي أربعة مقاعد للمرة الأولى منذ أشهر.
ومن ناحية أخرى لأن سقوط نظام الشاه، مرت عليه عقود؛ مما يجعل إعادة إحيائه على مستوى المشاريع السياسية، عملية معقدة، وقد تداولت صفحات التواصل الاجتماعي مقطع فيديو لسيناتور أمريكي، من دعاة إسقاط النظام في إيران، لا يعرف تعداد الشعب الإيراني ولا حتى طبيعة المكون الديمغرافي هناك، في تكرار مأساوي لسيناريو العراق.
وإذا كان ما تقدم، يمكن إدراجه تحت بند إساءة التقدير، فإن أبرز انعكاس له، هو تداعيات العملية على اليوم التالي في إسرائيل، والتي يبدو أنها فاقت التوقعات الإسرائيلية؛ حيث إن المسألة لا تعتمد على فاعلية الضربة التي وجهها الجيش الإسرائيلي فقط، وإنما بطبيعة الحال على رد الفعل الإيراني، ضمن عملية الوعد الصادق “3”، والتي أكدت على قدرة إيران على ضرب العمق الإسرائيلي وإصابة الأهداف بدقة، عن طريق الصواريخ والمسيرات وإن ظل سلاح الجو الإسرائيلي متفوقًا.
وحتى إن كانت المكاسب والخسائر في الحروب لا يمكن حسابها بشكل مطلق لأنها تعتمد على اختلافات نسبية بين القوتين، مع الأخذ بالاعتبار أن التقديرات تشير إلى أن الضربات الإسرائيلية هي الأكثر فاعلية حتى الآن، فإن رد الفعل الإيراني على الجانب الأخر، لا يمكن تجاوزه بسهولة. وبالإضافة لمشاهد الدمار في عدد كبير من المدن الإسرائيلية، فقد تمكنت طهران من إسقاط الطائرة المسيّرة الإسرائيلية المتطورة من طراز (هيرمز 900) داخل أجوائها في تطور لافت. وأفادت وكالة أنباء فارس بالعثور على حطام الطائرة في منطقة غرب همدان وتعد الطائرة المسيرة “هيرمز 900” من أبرز أدوات التفوق الجوي الإسرائيلي في ميدان القتال والمراقبة، وهي من إنتاج شركة “إلبِت سيستمز” (Elbit Systems)، وتعمل ضمن أسطول الطائرات دون طيار التابع لسلاح الجو الإسرائيلي.
ولوضع الأمور في نصابها يمكن القول؛ إن إسرائيل اختارت التوقيت الأنسب للعملية، وتل أبيب التي تحدثت منذ عام 2012 على أن إيران على وشك امتلاك قنبلة نووية، خططت على مدار هذه السنوات لضرب البرنامج النووي الإيراني، ولم يكن هناك ظرف تاريخي أكثر ملاءمة من التوقيت الحالي، الذي تفتقد فيه إيران كل جبهات إسنادها، ويتراجع نفوذها في مناطق ذات نفوذ تقليدي بالنسبة للجمهورية الإسلامية، ولذلك فإن إشكالية التقدير بالنسبة لإسرائيل ترتكز بشكل أساسي على رد الفعل الإيراني.
صحيح أن التمويه الإسرائيلي أخر رد الفعل الإيراني، ولكن للمرة الأولى تتمكن طهران من إصابة أهداف في قلب إسرائيل، ليس فقط بقوة تدميرية ولكن بدقة أيضًا، وبعد أن كانت التقديرات تشير إلى أن المنحنى الإيراني سيهبط بعد الأيام الأولى في الأسبوع الأول للحرب، خرجت أنباء أخرى من إسرائيل لتشير إلى أن إيران لا تزال تمتلك مخزونًا استراتيجيًا من الصواريخ.
ولذلك فقد تحال الأمور لحرب استنزاف طويلة الأمد للجانب الإسرائيلي مع طرف إيراني لا يقارن بأذرعه، من حيث القوة العسكرية والبشرية وكذلك العمق الاستراتيجي؛ مما يمنحه هامش مناورة قد تضمن له الصمود في وقت تتخبط فيه الجبهة الداخلية في إسرائيل، ويبقى العامل الأكثر حسمًا هو انخراط الولايات المتحدة في الحرب من عدمه، لأنه سيحدد ما إذا كانت إسرائيل ستنفذ الهدف الأساسي من العملية وهو إزالة التهديد الوجودي القادم من إيران.