أشارت صجيفة الوول ستريت جورنال الأمريكية وغيرها من وسائل الإعلام والصحف إلى قرب نفاد المخزون من الصواريخ الاعتراضية أرو “حيتس” الإسرائيلية وكذلك بقية مخزونات صواريخ الدفاع الجوي الإسرائيلية نتيجة لتصديها للأجيال القديمة من الصواريخ الإيرانية التي استُخدمت في الأيام الأولى للحرب ومع بداية استخدام أجيال أكثر تطورًا في الساعات الأخيرة. وطوال الأيام الماضية تتكلف إسرائيل 285 مليون دولار كل ليلة في مواجهة الصواريخ الإيرانية وفقًا لتقديرات صحيفة الواشنطن بوست، حيث إن ثمن الصاروخ حيتس 3 ملايين دولار، وصاروخ ثاد “الأمريكي” 9 ملايين دولار، إضافة إلى تكلفة صواريخ مقلاع داود وباتريوت، بينما أغلى صاروخ تمتلكه إيران لا يكلف بضع عشرات الآلاف من الدولارات، فضلًا عن المخزون الإيراني الكبير، لأنها وفقًا للتقديرات الاستخباراتية التي تم تسريبها كانت تنتج حوالي 50 صاروخًا شهريًا لسنوات.
المعضلة الحقيقية التي تواجهها إسرائيل أن مصنع إنتاج صواريخ حيتس ملاصق لمطار بن جوريون، وغالبًا هو متوقف عن العمل بسبب تعدد الضربات الصاروخية للمطار والمناطق المحيطة به، والشركات الأمريكية التي من الممكن أن تقوم بإنتاج تلك الصواريخ أو بدائلها تحتاج إلى وقت لا يتوافر في زمن الحرب، والولايات المتحدة استنفدت مخزونًا كبيرًا في مواجهة صواريخ الحوثي في البحر الأحمر من مخزونها ورصيدها الكبير لمواجهة الصين في بحر الصين الجنوبي وبجوار تايوان، فضلًا عن أن مجمع رفائيل الإسرائيلي الذي يساهم في إنتاج مكونات مهمة لإنتاج تلك الصواريخ وكل منظومة الدفاع قد استُهدف في أكثر من هجمة، ولا تتوافر معلومات عن وضعه الحالي.
وأمام هذا الوضع الطارئ الذي سيصبح وفق التقديرات واقعًا مؤلمًا خلال عشرة أيام ستضطر غالبية القطع الحربية الأمريكية والغربية للتأهب من قواعدها في المنطقة، وتكون في وضعية استعداد دائم انتظارًا لقرار ترمب النهائي،
أولًا: كي لا تكون هدفًا سهلًا لأي رد فعل إيراني غير محسوب حال انكشاف الدور في الهجوم والدفاع.
ثانيًا: لاستخدامها كقواعد إطلاق صواريخ اعتراضية للصواريخ الإيرانية مع القطع البحرية والطائرات الاعتراضية التي تم جلبها للمنطقة خلال الأيام الماضية.
ثالثًا: كي لا تتسبب في مشكلات للدول التي تستضيف تلك القطع الحربية حال استخدامها كمنصات حتى لو بطريقة غير مباشرة.
رابعًا: استمرار هجمات استهداف منصات إطلاق الصواريخ الإيرانية ومصانع وورش إنتاجها ومخازنها لتقليل موجاتها المتتالية على أمل نفاد المخزون.
الزمن والوقت عاملا ضغط على كل الأطراف. إسرائيل أغلقت مطاراتها وعلى رأسها بن جوريون، والموانئ حيفا وإيلات شبه مغلقة، مع بقاء 9 ملايين مواطن في الملاجئ لفترات طويلة، ولن نتحدث عن تكلفة اقتصادية سيتم تعويضها من الحلفاء، أجيال اغتصبت الأرض وعاشت في الجيتو وصولًا لأجيال تعيش في الملاجئ بسبب سياسات توسعية تسقط من حساباتها فكرة العيش في سلام وأمن واستقرار مع دول الجوار الإقليمي، وتسعى للهيمنة وتتبنى أفكار اليمين الديني المتشدد وبعض التأويلات المتطرفة للنصوص الدينية.
إيران من جانبها تعاني من اختراقات أمنية ومعلوماتية كارثية على مستوى القمة والقاع، سماؤها مكشوفة وأهدافها مكشوفة ورموزها تحت الأرض تحاول أن تصمد وتواجه وسط هواجس ومخاوف لها ظلال على أرض الواقع من الانهيار المفاجئ، خاصة أنه بدأت عملية تغذية النعرة العرقية في المناطق الأذرية القريبة من الحدود مع تركيا التي تعد نفسها لدور مستقبلي في إيران بالتعاون بين أردوغان وعلييف وكوكيل عن الولايات المتحدة وحلف الناتو أو هكذا يروج أردوغان، حيث يشكل الإيرانيون من أصل أذري نسبة 28% من سكان إيران في إقليم ملاصق للحدود الأذرية التي تنشط فيها محطات التجسس الإسرائيلي، وتحتوي على نقاط إنذار وتوجيه منذ زمن، وكذلك يتم اللعب بنفس الورقة في منطقتي الأكراد والأحواز العربية، إضافة إلى الشكوك التي تحيط بالمكون اليهودي في عمليات الاختراق. ورغم ذلك ومن قراءة المشهد الداخلي وتعليقات وكتابات المعارضين الوطنيين الإيرانيين في الداخل والخارج “حتى الآن” تجد أن المشاعر القومية تغلب وتطغى في تلك اللحظات، وتدعو للاصطفاف والمواجهة رغم الاختلافات والاختلالات الأيديولوجية والعقائدية، والذين يعرفون ويقرأون التاريخ يدركون أن إيران القومية أشد قسوة وخطورة على المنطقة وخاصة الخليج من إيران الشيعية التي يحكمها الملالي بممارساتهم السلطوية ودوائر الفساد التي تنتشر من حولهم.
الولايات المتحدة ورئيسها المراوغ وغير الموثوق “دونالد ترمب” تشارك في الحرب منذ بداية المفاوضات ومنخرطة في كل تفاصيل الإعداد للعدوان الإسرائيلي على إيران ولكن دون أن يظهر ذلك رغبة في عدم خلق مبررات قد تؤدي لعمل غير محسوب من طهران يستهدف القواعد التي تستضيفها دول خليجية تعلن رفضها استخدام أراضيها كي لا تنخرط في الحرب وتتعرض لهجمات، بل أعلنت ووصفت ما حدث بالعدوان غير المبرر بغض النظر عن النوايا الحقيقية تجاه إيران ونظامها الحاكم.
“ترمب” يواجه التيار الذي انتخبه (الماجا) ويناقض خطابه الانتخابي والإعلامي الذي كان رافضًا لفكرة انخراط الولايات المتحدة في أي حرب بصورة مباشرة طالما لا تهدد الأراضي والمصالح الأمريكية، ويجد نفسه في حيرة لأن اشتعال الأوضاع وإطالة أمد الحرب لو استمر الصمود الإيراني وتدخلت أذرعها قد يتسبب في فوضى إقليمية تهدد تدفق الاستثمارات التي وقع بشأنها اتفاقيات مع دول الخليج التي ستتضرر اقتصادياتها بسبب توقف تصدير النفط عبر الخليج العربي ومضيق هرمز، وترمب قد يواجه مشاكل اقتصادية حادة أقلها زيادة أسعار الوقود مع توقف تصدير النفط من الخليج والذي يمثل 20% من الإنتاج العالمي.
“ترمب” أيضًا سيواجه مشكلة في استنزاف مخزون الأسلحة والذخيرة وستؤثر على دعمه وتواجده وحمايته ونفوذه في بقية إسرائيلياته: تايوان – كوريا الجنوبية – أوكرانيا. “ترمب” في حاجة إلى موافقة الكونجرس الذي يتوجب أن يوافق على قرار الحرب، خاصة أن مداها الزمني قد يتجاوز التسعين يومًا ويحتاج إلى تمويل مالي كبير وتحريك قوات وتغيير خطط عمليات وتوزيع وانتشار الأساطيل والنتائج غير مضمونة.
من المؤكد أن ترمب قد استمع لتقديرات القيادة المركزية الأمريكية التي تدرك الفرق بين حرب مع جماعة أو ذراع مسلح والحرب مع دولة مترامية الأطراف وذات تعدد سكاني يقارب 100 مليون نسمة، وأن إسرائيل التي لم تحسم معركتها مع حماس على رقعة أرض صغيرة، والولايات المتحدة مع تحالف أكثر من 30 دولة لم تحقق انتصارًا على جماعة الحوثي لن تكون مهمتها سهلة في تركيع نظام الملالي ومن خلفه شعب لديه هوية وقومية متجذرة بسهولة ودون تكلفة عالية.
أخيرًا، ترمب الذي يبدو أنه يعاني من خلل هرموني ومعضلة في الثبات الانفعالي، يواجه أزمة شخصية، وهي صورته التي حاول أن يصنعها كرجل سلام يتدخل بقوة لوقف الحروب ويحقن الدماء وينزع فتيل الأزمات تمهيدًا لحصوله -حتى ولو عنوة- على جائزة نوبل للسلام، فهو لا يرى أنه أقل شأنًا من باراك أوباما الذي حصل عليها قبل أن يتم 100 يوم في البيت الأبيض، خاصة أنه يرى أن أوباما كان اللاعب الأساسي والمنافس له وليس جو بايدن رغم أنه عادةً ما كان يوجه إهاناته لبايدن ونائبته وإدارته.
الخلاصة على أرض الواقع، وبعيدًا عن العواطف، الانتصار في الحروب لا يوصف بشكل علمي وأكاديمي وموضوعي بأنه انتصار إلا في حالة كسر الإرادة والتسليم والسيطرة على الأرض، ولا توجد في التاريخ معارك حسمت أو أنظمة تم تغييرها عن طريق الضربات الجوية والصاروخية فقط، ولا بد من عمل على الأرض بالتزامن مثلما حدث في غزو العراق وإسقاط نظام صدام حسين في 2003، وما حدث في اليابان جريمة لم تتكرر ارتكبتها الولايات المتحدة عندما ألقت بالقنابل النووية على هيروشيما وناجازاكي فكان الرضوخ والاستسلام. وفي سوريا كان العمل على الأرض من خلال قوات داعش (جبهة النصرة) مدعومة عسكريًا ومخابراتيًا من رعاة المشهد (تركيا، وإسرائيل، والولايات المتحدة، وبعض دول الخليج) لكنه كان عملًا على الأرض، وقد حدث تطور مهم قبل يومين عندما قام المرشد الأعلى ورمز نظام الملالي “علي خامنئي” بتفويض قيادة الحرس الثوري العسكرية المتشددة في كل قرارات الحرب والتفاوض دون الرجوع له وجعلها فوق الرئيس الإيراني المنتخب بزيشيكيان ووزير خارجيته عراقجي، فضلًا عن عدم المساس الإسرائيلي والأمريكي بقيادات الباسيج الذي يتحكم في المشهد الداخلي ويقمع أي احتجاج أو تظاهر رغم عدم خروجها بسبب المشاعر القومية التي ترفض الاستسلام تحت أي زعم أو راية.
وقد تكون السيطرة على موانئ تصدير النفط الإيرانية المطلة على الخليج العربي من خلال عمليات خاصة وقوات كوماندوز بالتوازي مع إثارة النعرة العرقية في المناطق البعيدة عن سيطرة الحرس الثوري والباسيج عاملًا مؤثرًا في الضغط والحصار، وجعل النظام حبيسًا إلى أن يسقط بالتداعي بالتوازي مع استهداف البنية النووية في جريمة حرب منصوص عليها في القانون، لأن التسبب في إشعاع نووي لا يقل جرمًا عن إلقاء قنبلة، وهي حسابات معقدة تستوجب تحمل ردود أفعال انتقامية وربما انتحارية وفوضى ستطال الجميع في منطقة الخليج وربما المنطقة بكاملها. ويظلّ السيناريو الذي قد يفرض نفسه هو تحول إيران إلى كوريا شمالية جديدة لو استطاعت الصمود وتجنبت سيناريو انهيار النظام، واستطاعت أن تصنع قنبلة أو قنبلة نووية تحت الضغط أو يصلها رأس نووي من دولة ما فيكون هناك أمر واقع جديد على الجميع أن يتعامل معه.
ختامًا، صحيح أن الهدف الإسرائيلي والأمريكي والغربي المعلن وغير المعلن في المنطقة هو القضاء على الدول المركزية والتاريخية في الإقليم، وهو ما كشف عنه نتنياهو في كل المحافل الدولية وأمام الكاميرات وتفوه به المستشار الألماني الجديد منذ أيام وبصورة علنية عندما قال إن نتنياهو هو اليد التي تنفذ “مخططًا قذرًا” يعبر عنهم ويخدم مصالحهم لأن مخطط تغيير وجه الشرق الأوسط بالطريقة التي أعلنها نتنياهو لن يتحقق في ظل وجود تلك الدول المركزية “الأوتاد”، ولن تفلح الدول الحديثة في الإقليم رغم الثروة التي تمتلكها في تقديم البديل وإحداث أي توازن إقليمي، وستلعب دورًا مؤيدًا للمشروع الإسرائيلي الغربي طلبًا للحماية والدعم.
وهنا نخلُص إلى أن حالة الانكشاف التي عليها إسرائيل كدولة أمام صواريخ دولة تبعد عنها 1585 كم يجعل من سيناريو أي مواجهة محتملة مع دولة قوية تمتلك جيشًا قويًا قريبًا من حدودها كابوس لا تقوى على تحمله، ويجعل ورقة السلام هدفًا استراتيجيًا لإسرائيل وحلفائها تحافظ عليها طالما استمر الانكشاف ويجعل من ورقة السلام أداة ضغط مهمة يمكن الاستثمار فيها واللعب بها سياسيًا واستراتيجيًا، ولكنه لا يلغي المطامع الإسرائيلية وستعمل دائمًا على محاولة إضعاف كل الدول المركزية في الإقليم تمهيدًا للانقضاض عليها أو هكذا تعتقد استثمارًا في دورها الوظيفي الذي يشكل قاعدة عسكرية متقدمة تخدم مصالح ومخططات الرعاة الغربيين، إضافةً إلى ما تمثله إسرائيل كمشروع وتحدٍّ حضاري وثقافي واقتصادي وأمني لكل دول الجوار الجغرافي في المنطقة العربية وإقليم الشرق الأوسط.