كشف الموقف الأوروبي وتحديدًا المجموعة الأوروبية المُكونة من المملكة المتحدة وفرنسا وألمانيا التي يُطلق عليها “الترويكا الأوروبية- (E-3)” من التصعيد الإسرائيلي-الإيراني “غير المسبوق” عن توجه متعدد الأبعاد يحمل في طياته نوعًا من ادّعاء التوازن في العلاقات مع إسرائيل عبر الفصل ما بين ملف غزة وملف إيران، بالتوازي مع تحميل طهران مسئولية استهدافها من قبل إسرائيل على خلفية برنامجها النووي الذي يُشكّل تهديدًا وجوديًا لإسرائيل وأمن أوروبا، وذلك في ضوء تعاطيهم مع السياسة الإيرانية وتحركاتها في منطقة الشرق الأوسط باعتبارها مُزعزعة للاستقرار والأمن الإقليمي.
لذا، فقد دعت القوى الأوروبية الجانبين إلى خفض التصعيد وضبط النفس والرجوع إلى المسار الدبلوماسي، بجانب التعبير عن رفضهم امتلاك إيران للسلاح النووي، وحق إسرائيل في الدفاع عن النفس ضد أي هجمات. فيما أكدت تصريحات الخارجية الفرنسية على أن البرنامج النووي الإيراني ليس “تهديدًا وجوديًا لإسرائيل فحسب، بل لأمن أوروبا”. وهو ما يتماهى مع الرواية الإسرائيلية التي روجت لها تل أبيب لتبرير هجومها على إيران باعتباره “ضربة استباقية وقائية لكبح الطموح النووي الإيراني”، كما اتسق مع التصريحات السابقة التي أدلى بها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في بداية العام الجاري التي أوضح فيها أن “إيران هي التحدي الاستراتيجي والأمني الرئيسي لفرنسا والأوروبيين والمنطقة بكاملها وأبعد من ذلك بكثير”، محذرًا بأن “تسارع برنامجها النووي يقودنا على حافة القطيعة”.
ومع بدء التصعيد المتبادل بين تل أبيب وطهران، أعلنت القوى الثلاث عن استعدادها لإجراء محادثات على الفور مع إيران بشأن برنامجها النووي للحيلولة دون اتساع نطاق التصعيد وجر المنطقة إلى حرب إقليمية مفتوحة خاصة مع التطورات الميدانية السريعة المتبادلة بين الجانبين. كما أوضحت كلٌ من المملكة المتحدة وفرنسا عن عدم دعمهم لإسرائيل خلال هجومها على إيران، ففي حين قال الرئيس الفرنسي إن بلاده ستشارك في عمليات الحماية والدفاع عن إسرائيل في حال تعرضها لهجمات إيرانية، نفي في الوقت نفسه، وجود أي مشاركة أي مشاركة فرنسية، وبأي شكل، في عمليات هجومية تقوم بها إسرائيل ضد إيران. أشار وزير الخارجية البريطاني بأن المملكة المتحدة “لم تكن متورطة” في التصعيد، مؤكدًا على أن إسرائيل اتخذت “إجراءً أحادي الجانب.
ارتباطًا بذلك، أوضحت المملكة المتحدة أيضًا أنها لم تشارك في الهجوم الأمريكي على المواقع النووية الإيرانية في الثاني والعشرين من يونيو 2025؛ إذ أشار وزير التجارة البريطاني إلى أن “لندن لم تتلقَّ طلبًا أمريكيًا لاستخدام قاعدة “دييجو غارسيا”، خلال الهجوم رغم إخطارها قبل الهجوم”. فيما صرح وزير الخارجية الفرنسي أن “فرنسا التي أجرت محادثات مع إيران في جنيف ومع شركائها الأوروبيين في العشرين من يونيو، لم تشارك في هذه الضربات ولا في التخطيط لها”. الأمر الذي يُوحي بتحوّل نسبي في العلاقات الأوروبية-الإسرائيلية -بشكل أو بآخر- مُقارنة بالجولة الأولى للتصعيد الإسرائيلي-الإيراني في عام 2024؛ حيث كانت باريس ولندن من ضمن الدول التي شاركت في صدّ الهجمات الإيرانية على إسرائيل.
محددات حاكمة وتداعيات متصاعدة
يمكن فهم الموقف الأوروبي في إطار مجموعة من المحددات التي باتت تؤطر نمط التفاعل الأوروبي مع التصعيد الحالي في الشرق الأوسطـ، والذي يأتي في سياق جملة من التحولات التي تشهدها أوروبا على خلفية استمرار الحرب الروسية-الأوكرانية لأكثر من ثلاث سنوات بدون حسم، نتيجة للعديد من العوامل؛ منها تذبذب الدعم العسكري الأمريكي وتحديدًا منذ اندلاع الحرب في غزة وتجاهل إدارة ترامب للدور الأوروبي وتهميش مصالحهم وأمنهم في الحسابات الأمريكية، ومواصلة سياسة الضغط الأقصى عليهم لزيادة مخصصاتهم الدفاعية، وتحمل أعباء ضمان أمنهم بموجب تسويتها للحرب مع روسيا. وعليه، ترجع الحسابات الأوروبية مع التصعيد الإسرائيلي-الإيراني إلى عدّة اعتبارات تتمثل أبرز مظاهرها كالآتي:
أولًا- تجنب اتساع نطاق التصعيد:
بالرغم من “التزام القوى الأوروبية بأمن إسرائيل وحقها في الدفاع عن نفسها” فإنها تخشى من تبعات استمرار التصعيد الراهن بعد تغيَّر قواعد الاشتباك في المنطقة بداية من عام 2024 على خلفية تحول عمليات الاستهداف بين إسرائيل وإيران من نطاق المنطقة الرمادية عبر الوكلاء وجبهات الإسناد إلى المواجهة العسكرية المباشرة، والتي قد يصعب حسمها في ضوء إصرار إسرائيل على إظهار القوة ضد إيران، ورغبة طهران في استعادة القدرة على المبادرة بالهجوم المضاد في إطار الرد المتبادل وهو ما يمثل تهديدًا للأمن والسلام الإقليميين، ويعرقل أي مسار محتمل للمفاوضات النووية الأوروبية أو الأمريكية، وقد يدفع المنطقة للدخول في حرب مفتوحة متعددة الجبهات؛ الأمر الذي ستكون له تداعيات خطيرة على المصالح الأوروبية في المنطقة وشركائها الإقليمين، بل قد تمتد تبعاته -أيضًا- لتورطهم في الصراع بجانب إسرائيل في حالة إذا طلبت منهم التدخل.
وهو ما قد يُفسر التحذيرات المتتالية من قبل القوى الأوروبية لطهران بعدم التصعيد أو الرد -في إشارة غير مباشرة بأن يكون هجومها المضاد محسومًا وبتكلفة بشرية أقل- للحد من استمرار التصعيد العسكري لأن تبعاته قد تحمل في طياتها أبعادًا أكبر من مجرد تحرك إسرائيل للدفاع عن نفسها قد تكون من بينها “الإطاحة” بالنظام الحالي خاصة مع اعتماد إسرائيل خلال عملياتها التي أطلقت عليها “الأسد الصاعد” استراتيجية “قطع الرؤوس”، استكمالًا لنهجها القائم على تصفية قادة محاور المقاومة، بما يمهد لإعادة صياغة معادلة النفوذ والسيطرة في الشرق الأوسط وفقًا لتوجهات السياسة الإسرائيلية التوسعية المرتكزة على إعادة ترسيم فضائها الاستراتيجي بدعم من الولايات المتحدة الأمريكية، وهو ما سيفرض مزيدًا من التحديات الإقليمية على القوى الأوروبية ويجعلها في مرمى الاستهداف إذا حاولت دعم إسرائيل مباشرة، أو فشلت في احتواء التصعيد الحالي عبر التنسيق مع الولايات المتحدة.
ثانيًا- التخوف من استهداف بريطانيا وفرنسا وألمانيا داخليًا وخارجيًا:
تتخوف الدول الأوروبية الفاعلة في الشرق الأوسط من استهداف مصالحها والمؤسسات التابعة لها في المنطقة أو في الداخل الأوروبي بعمليات إرهابية أو خبيثة وخاصة بعد تحذير إيران من توسيع نطاق عملياتها ليشمل الدول الداعمة لإسرائيل في سياق تصعيدها المتبادل مع تل أبيب. الأمر الذي يحمل تحذيرًا مُبطنًا لكلٍ من فرنسا والمملكة المتحدة على وجه التحديد؛ نظرًا لدعمهما العسكري السابق لإسرائيل ردًا على الهجوم الإيراني المُضاد في أبريل 2024، وهو ما قد يُفسر توضيح باريس ولندن عدم انخراطها في الهجوم الإسرائيلي على إيرا، بل والهجوم الأمريكي على المفاعلات الإيرانية.
وفي هذا السياق؛ توجهت فرنسا -على سبيل المثال- إلى اتخاذ مزيد من التدابير الأمنية في محيط المناطق التي توجد بها كثافة سكانية وبالقرب من أماكن العبادة والمدارس والمباني والمؤسسات الحكومية، ومؤسسات الجالية اليهودية والمصالح الأمريكية في البلاد، وفقًا لتوجيهات وزير الداخلية “برونو روتايو” في الرابع عشر من يونيو 2025 مدفوعة باحتمالية أن تشهد موجة جديدة من الهجمات الإرهابية على خلفية ما حدث خلال عام 2015، أو عملية دهس للمارة أو حدوث اعتداءات بالسكين.
وهو ما انتهجته ألمانيا أيضًا؛ إذ قامت بتأمين المناطق التي توجد بها مؤسسات تابعة لإسرائيل أو جالية اليهودية في ألمانيا تحسبًا من أي هجوم إيراني. أما المملكة المتحدة فقد تعاملت على الفور مع هذا التصعيد عبر إعلانها عن إرسال أصول حربية منها طائرات مقاتلة “لأغراض الدعم الطارئ” بحسب ما أفاد رئيس الوزراء البريطاني. وقد تأتي هذه الخطوة في إطار الاستعداد الاستباقي في حالة خروج الوضع عن السيطرة.
ثالثًا- توتر العلاقات الإسرائيلية-الأوروبية:
يتزامن هذا التصعيد مع التحديات المتتالية التي تواجهها القوى الأوروبية في علاقاتها بإسرائيل، وتحديدًا منذ استئنافها لعملياتها العسكرية الموسعة على قطاع غزة في والضفة الغربية، بجانب مواصلة هجومها على لبنان وسوريا؛ مما دفع الدول الأوروبية لاتخاذ مواقف حازمة إزاء إسرائيل تجلت أبرزها في: دعوة الخارجية السويدية في الثاني عشر من يونيو 2025 لفرض عقوبات على المسئولين الإسرائيليين المتهمين بالتحريض على العنف ورفض مسار حل الدولتين، على غرار التوجه البريطاني؛ حيث قامت المملكة المتحدة بفرض عقوبات على وزير المالية “بتسلئيل سموتريتش” ووزير الأمن القومي الإسرائيلي “إيتمار بن غفير”.
فيما اتجه الاتحاد الأوروبي بناءً على طلب هولندا نحو إجراء مراجعة لاتفاقية الشراكة مع إسرائيل لمعرفة مدى التزامها بتعهداتها الإنسانية وهو ما دعمته عديد من الدول الأوروبية في مقدمتهم فرنسا. فيما قامت المملكة المتحدة في مايو 2025 بتعليق محادثات التجارة مع إسرائيل. بينما انتقد المستشار الألماني “فريدريش ميرتس” العملية العسكرية الإسرائيلية في القطاع، خلال مقابلة تليفزيونية في السادس والعشرين من مايو 2025، مُوضحًا أن “إلحاق الأذى بالمدنيين إلى هذا الحد، كما هو الحال بشكل متزايد في الأيام الماضية، ليس من الممكن تبريره باعتباره حربًا على إرهاب حماس”. مُضيفًا أنه “يتعين على الحكومة الإسرائيلية عدم القيام بأي فعل لم يعد أصدقاؤها المقربون مستعدين لقبوله”.
كما أدانت فرنسا الانتهاكات الإسرائيلية المتواصلة في القطاع على خلفية الحصار المفروض عليه ومنع تل أبيب وصول المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة؛ إذ حذر الرئيس “إيمانويل ماكرون” من احتمالية فرض عقوبات عن المستوطنين الإسرائيليين، موضحًا أن فرنسا لا تزال ملتزمة بالحل السياسي ودعم حل الدولتين، وذلك خلال زيارته لسنغافورة في مايو الماضي. فضلًا عن تحرك “ماكرون” باتجاه الاعتراف بدولة فلسطين كنوع من أنواع الضغط السياسي على إسرائيل، والدعوة إلى وقف تصدير السلاح المستخدم في الصراع العسكري بالمنطقة. وذلك عقب زيارته للقاهرة التي أتاحت له الفرصة للوقوف على حقيقة المشهد في غزة، ومدى تفاقم الوضع الإنساني خلال زيارته للعريش بصحبة السيد الرئيس عبد الفتاح السيسي، والتي كشفت عن مدى التعنت الإسرائيلي فيما يخص نفاذ المساعدات الإنسانية عبر معبر رفح.
واتصالًا بمسألة وقف تصدير السلاح فقد أعلنت الخارجية البريطانية، في الثاني من سبتمبر 2024، تعليق ما يقرب من 30 ترخيصًا لتصدير السلاح إلى إسرائيل من إجمالي 350 ترخيصًا، أي أقل من 10% من التراخيص التي منحتها المملكة المتحدة لمصنعي الأسلحة لتصدير الأسلحة إلى إسرائيل، وقد شملت: مكونات للطائرات العسكرية، والمروحيات، والطائرات بدون طيار، وعناصر تسهل استهداف المواقع الأرضية، في إطار قيام حكومة ستارمر بمراجعة تقييم مدى امتثال إسرائيل للقانون الإنساني الدولي خلال عملياتها العسكرية في غزة.
الأمر الذي قد يُرجح احتمالية عدم إخطار إسرائيل الدول الأوروبية، ولا سيما المملكة المتحدة، بعملياتها الأخيرة ضد إيران، على عكس الجولة الأولى من التصعيد؛ حيث نشرت المملكة طائرات من طراز “تايفون” لصد المسيرات الإيرانية، فضلًا عن مشاركتها المحدودة ضد الهجوم الصاروخي الإيراني على إسرائيل. وذلك في ضوء توتر العلاقات نتيجة الإجراءات التي اتخذتها الدول الأوروبية للضغط على إسرائيل. بالرغم من رمزية فاعليتها فإن تل أبيب منذ السابع من أكتوبر تتعامل مع أي إجراء ضدها باعتباره يصب في مصلحة حركة حماس.
رابعًا- محاولة لإثبات الدور:
شهدت العلاقات الأوروبية-الإيرانية جُملةً من التغيّرات على مدار العقد الماضي، كانت التحركات الإيرانية -نسبيًا- هي العنصر الحاسم في تحديد ملامح السياسة الأوروبية نحو طهران وهو ما تجلى في مشاركة القوى الأوروبية أو ما يعرف بـمجموعة (E-3) المُكونة من المملكة المتحدة وألمانيا فرنسا في توقيع الاتفاق النووي الإيراني في عام 2015 المُسمى بـ “خطة العمل المشتركة”، والذي بموجبه تم تخفيف العقوبات المفروضة على قطاع الطاقة الإيراني. كما استمر التزام الاتحاد الأوروبي تجاه إيران في كبح طموحها النووي عقب الانسحاب الأمريكي في عام 2018 وفرض إدارة ترامب الأولى لسياسة “الضغط الأقصى”.
فضلًا عن محاولتهم إقناع كل من واشنطن وطهران خلال إدارة الرئيس “جو بايدن” العودة للاتفاق، وهو الأمر الذي لم يتحقق على خلفية توجه طهران المُسبق نحو الصين لتوقيع اتفاق الشراكة الاستراتيجية الشاملة في عام 2021 لمدة 25 عامًا، والدعم الإيراني المتزايد لروسيا وفي إطار حربها على أوكرانيا؛ مما دفع القوى الأوروبية نحو تبني نهج رادع للتحركات الإيرانية تمثل أبرزها في إدانة الدول الثلاث تصدير الصواريخ البالستية الإيرانية لروسيا، باعتباره تصعيدًا يُشكل تهديدًا مباشرًا للأمن الأوروبي، وذلك في بيان صادر في العاشر من سبتمبر 2024.
وفيما يتعلق بالتصعيد الراهن، جاء الموقف الأوروبي كجزء لا يتجزأ من محاولة القادة الأوروبيين استعادة مكانة أوروبا كفاعل دولي محوري في القضايا الإقليمية، ولا سيما البرنامج النووي الإيراني خلال الولاية الثانية لترامب، وتكوين جبهة متوافقة تؤكد أن أوروبا لا تزال قادرة على احتواء إيران وهو ما تجلى في التحذيرات المتكررة من قبل الدول الثلاث لإيران بتفعيل آلية “الرد السريع” وتحديدًا بعد نحو شهر من إعادة انتخاب ترامب في السادس من ديسمبر 2024؛ إذ أوضحت المجموعة الأوروبية في مذكرة لمجلس الأمن الدولي أنه “يتعين على إيران خفض وتيرة برنامجها النووي من أجل خلق البيئة السياسية المواتية لتحقيق تقدم ملموس، والتوصل إلى حل عبر التفاوض”. كما أكدوا على “تمسكهم بكافة السبل الدبلوماسية لمنع إيران من الحصول على سلاح نووي، بما في ذلك استخدام آلية الرد السريع إذا تتطلب الأمر”.
وقد جاءت هذه الرسالة في أعقاب مذكرة سابقة تم إرسالها للمجلس في السابع والعشرين من نوفمبر من العام نفسه. وقد حملت هذه الخطوة دلالات عدّة منها رغبة القوى الأوروبية في توظيف كافة الآليات التي يمكن من خلالها كبح القدرات النووية الإيرانية قبل انتهاء سريانها بحلول الثامن عشر من أكتوبر 2025؛ الأمر الذي سينعكس على تراجع قدرة المجموعة الأوروبية على المناورة السياسية مع إيران، وموازنة سياسة “الضغط الأقصى” الأمريكية.
وقد تم ترجمة ذلك في إجراء مباحثات مع طهران في إسطنبول تضمنت بحث مسار لتفاوض مع واشنطن بشأن البرنامج النووي وسياسة العقوبات. وفي محاولة لكسر حالة الجمود حذرت الخارجية الفرنسية من إمكانية عودة فرض العقوبات على طهران، إذا تعرض الأمن الأوروبي للتهديد، بسبب برنامجها النووي؛ الأمر الذي رفضته إيران وحذرت في حينها من تبعات الإقدام على هذه الخطوة.
علاوة على ذلك حاولت الدول الأوروبية الثلاث في إثبات قدرتها على التنسيق مع الولايات المتحدة بشأن إيران؛ إذ شاركت مع واشنطن -قبل يوم من الهجوم الإسرائيلي على إيران وثلاثة أيام من انطلاق جولة المفاوضات النووية بعمان التي رحبت القوى الأوروبية باستئنافها في أبريل 2025- في إصدار قرار من الوكالة الدولية للطاقة الذرية لأول مرة منذ عقدين مفاده: “عدم امتثال إيران لالتزاماتها النووية” بتأييد 19 صوتًا ومعارضة 3 أصوات وامتناع 11 عضوًا.
خامسًا- تقليل الإضرار بالمصالح الأوروبية:
رغم محاولة المجموعة الأوروبية التأكيد على حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها، يوجد لديها إدراك واضح من التبعات المحتملة للتصعيد على كافة المستويات، ولا سيما الأمني والاقتصادي وتحديدًا ارتداداته على أسواق الطاقة العالمية وحركة التجارة الدولية والتي لا تزال متأثرة بالحرب على غزة؛ الأمر الذي ستنعكس تبعاته على الداخل الأوروبي، وأيضًا سيفرض عليهم القيام بدور فاعل في المنطقة لتأمين حركة التجارة يتجاوز عملية “أسبيدس” التي أطلقها الاتحاد الأوروبي، وتحالف “حارس الازدهار” بقيادة واشنطن، من حيث حجم ونطاق المهام والقدرات المشاركة.
لذا؛ فقد دعا الرئيس “ماكرون” إلى العودة إلى الدبلوماسية وإنهاء ما وصفه بـ “دوامة الفوضى” عقب هجوم إيران على قاعدة الأمريكية بقطر، محذرًا من تنامي تداعيات التصعيد على الاقتصاد العالمي لا سيما في حالة إذا اتجهت طهران إلى إغلاق مضيق هرمز، الذي يعتبر من أهم الممرات الدولية لتجارة الطاقة.
ويرجع ذلك لأن الوضع قد تكون له مآلات إيجابية للكرملين كونه قد يؤدي إلى زيادة عائداته من تجارة النفط والغاز -بالرغم من العقوبات الغربية- والتي تُشكّل حوالي 30% من إجمالي إيراداته في عام 2024؛ مما سيعزز قدرته على مواصلة التقدم البطيء -نسبيًا-على الجبهة الأوكرانية تمهيدًا لإقامة منطقة عازلة، وفقًا لمخططاته ولإحكام سيطرته على إقليم “دونباس”، والتوسع باتجاه الشمال الشرقي، والجنوبي الشرق بما يخلق لموسكو مزيدًا من الخيارات السياسية في أي مسار تفاوضي، ويقوي موقفها في فرض سياسة الأمر الواقع على أوكرانيا بناءً على الوضع الميداني، مستغلة الانشغال الأمريكي والأوروبي بالأوضاع في الشرق الأوسط.
يُضاف إلى ذلك، أن التصعيد الراهن يمنح روسيا فرصة مُوازية لإعادة تعزيز علاقاتها بالإدارة الأمريكية من خلال تقديم نفسها كوسيط قادر على التعامل مع إيران لاحتواء التصعيد، وخاصة بعد طرحها إمكانية نقل اليورانيوم الذي تتخطى نسبة تخصيبه العتبة المتفق عليه في الاتفاق النووي لعام 2015، وتحويله إلى وقود لتقليل مساحة التجاذبات بين طهران وواشنطن، وهو ما سيمثل مكسبًا جديدًا لروسيا ذا انعكاسات على تسوية الحرب في أوكرانيا لصالحها. مما يعني أنه حال تمكنت روسيا من التفاهم مع ترامب بشأن التصعيد الراهن، فسيمثل تحديًا آخر للعلاقات عبر الأطلسي وللدور الأوروبي في أي مسار تفاوضي بشأن البرنامج النووي الإيراني. وما قد يبرهن من ذلك، محاولة الرئيس الفرنسي التقليل من الدعوة روسيا لتبني جهود الوساطة، بالرغم من انفتاح ترامب على المقترح الروسي.
وعليه، ستكون الدول الأوروبية أمام عديد من العثرات على جبهات متعددة في آن واحد، في إطار ما تمر به من أزمات مرتبطة بتخليها عن إمدادات الطاقة الروسية، منها ارتفاع تكاليف المعيشة، التي وظفها اليمين المتطرف بجانب ملف الهجرة لزيادة قاعدته الانتخابية، والتشكيك في السياسات الأوروبية، وهو ما برهنت عليه نتائج الانتخابات الفيدرالية في ألمانيا والانتخابات البرلمانية في فرنسا، وسبقها نتائج انتخابات البرلمان الأوروبية. الأمر الذي قد يحمل انعكاسات على التحركات الخارجية سواء على مستوى الدول أو على مستوى المؤسسية الأوروبية.
لذا، فإن استمرار التصعيد القائم على استهداف البنية التحتية الحيوية للطاقة، أو التهديد بعرقلة حركة التجارة في الممرات والمضايق الدولية ستكون له تداعيات تضر بالمصالح الأوروبية، وهو ما قد يفسر دعوة المستشار الألماني قبيل انعقاد قمة مجموعة السبع في كندا لأهمية التوافق بشأن وقف التصعيد في الشرق الأوسط عبر طرح خطة مكونة من أربع نقاط تتمثل في: عدم السماح لإيران بتطوير أو امتلاك أسلحة نووية، وحقّ إسرائيل في الدّفاع عن نفسها ضد التهديدات التي تستهدف وجودها في إشارة للبرنامج النووي الإيراني، والحيلولة دون تصاعد الصراع، وضرورة تهيئة المجال للسبل الدبلوماسية.
والجدير بالذكر، أن القمة كانت فرصة لعودة الزخم في العلاقات عبر الأطلسي في حالة إذا تمكنت فرنسا وبريطانيا ألمانيا بإقناع الرئيس “ترامب” بأهمية خفض التصعيد كونه الوحيد القادر على ممارسة التأثير في تل أبيب. إلا أن التطورات المتصاعدة في الشرق الأوسط قد أحالت دون التوصل لاتفاق بشأن وقف إطلاق النار؛ إذ دار مضمون البيان المشترك “الموجز” حول حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها، والتأكيد على الالتزام بدعم أمن إسرائيل، في حين اتهم إيران بكونها المصدر الرئيسي لعدم الاستقرار والإرهاب بالمنطقة، والتأكيد على ضرورة عدم امتلاكها سلاحًا نوويًا. في حين تجنب البيان الدعوة إلى وقف إطلاق النار، مع الاكتفاء بالإشارة إلى أهمية حل الأزمة دون تحديد أي مسار أو آلية لذلك.
الأمر الذي يحمل في طياته دعمًا -بشكل أو بآخر- لمواصلة إسرائيل استخدام القوة العسكرية ضد إيران بما يؤشر على وجود توافق مبدئي حذر حول التصعيد الراهن، مدفوعًا بضغوط أمريكية. ما يمكن أن يقيد التحركات الأوروبية ويحبط محاولاتها في دفع مسار التهدئة قدمًا لاستئناف المفاوضات النووية.
سادسًا- التغيُّر في سياسات تسوية الصراعات:
يتزامن التصعيد مع جُملة من التحولات في توازنات القوى وعلاقات المصالح، وتحديدًا منذ بداية الولاية الثانية للرئيس “ترامب” في يناير 2025، التي تُعيد تشكيل نمط جديد من العلاقات الدولية القائمة على توظيف القوة العسكرية بخسائر رمزية أو التهديد باستخدامها لتحقيق أهداف ومصالح الوحدات الدولية دون الأخذ في الاعتبار التداعيات القائمة والمرجحة لها والتي فرضت بالفعل على القوى الدولية ولا سيما الأوروبية مزيدًا من التحديات غير التقليدية، وأسهمت كذلك في إعادة صياغة أبعاد الشراكة والتعاون مع الولايات المتحدة.
كانت أبرز مظاهرها في المقترحات الأمريكية بشأن تسوية الحرب الروسية-الأوكرانية والتي افتقرت إلى معالجة الأسباب الحقيقة التي دفعت الأطراف المتحاربة للتصعيد العسكري المتبادل، وتجدد جولات العنف المرتبطة بها، علاوة على تجاهلها لحقوق الشعب الأوكراني وتحديدًا فيما يتعلق بضمان وحدة وسلامة أراضيهم.
بجانب عدم الاهتمام بالمخاوف الأمنية لدى الحلفاء والشركاء في أوروبا بشأن تبعات التسوية، وذلك في سياق تنامي التقارب الأمريكي-الروسي من ناحية، وتماهي إدارة ترامب مع الرواية الإسرائيلية من ناحية أخرى. الأمر الذي انطوى على عديد من المهددات الأمنية، وفرض على الدول الأوروبية تحديدًا أهمية تنسيق التعاون المشترك، وتبني رؤية محددة تجاه هذه التحولات التي تحمل في طياتها تهميش الدور والمصالح الأوروبية، وترسخ لمبدأ استخدام القوة في العلاقات الدولية كنهج استباقي، وليس كخيار أخير.
ختامًا، يُثير هذا المشهد الإقليمي شديد التعقيد -رغم محاولة التهدئة الهشة- قلق القوى الأوروبية وخاصة إذا بات مبدأ اللجوء إلى القوة العسكرية مرسخًا لدى إسرائيل -بدعم من واشنطن- كركيزة أساسية لدفع طهران نحو طاولة التفاوض، دون النظر إلى العواقب الوخيمة لهذا التصور، خاصة أن بدء الحرب قد يتخذ بقرار ولكن نهايته من الصعب تحديدها، لارتباطه بعوامل تتعلق برؤية الأطراف المتحاربة لمصالحهم الوطنية، وكيفية تحقيقها بأي تكلفة.
وهنا يمكن توضيح أن التفاوض مع طهران بعد هذا التصعيد سيستوجب من الأوروبيين مُقاربة جديدة قد لا تقتصر على البرنامج النووي الإيراني، بل قد تتوسع لتشمل مستقبل نظامها السياسي ووكلائها في المنطقة، وهو ما قد يضع الأوروبيين خارج دائرة هذه التفاهمات على خلفية توتر علاقاتهم بإسرائيل والولايات المتحدة، وانحسار تأثيرهم في إيران مقابل تنامي التأثير الروسي وقدرة موسكو على التفاهم مع واشنطن.
باحث أول بوحدة الدراسات الأوروبية