ارتبطت التحولات الهيكلية الكبرى في أوروبا بمدى التوافق أو التباين مع السياسات الأمريكية إزاء ديناميكيات التعاون والشراكة عبر الأطلسي لمجابهة التهديدات والأخطار، سواء القائمة أو الناشئة أو المحتملة؛ حيث دفعت –إلى حد كبير- الضغوط الأمريكية على الدول الأوروبية للتوجه نحو امتلاك قدرات عسكرية ذات مصداقية تمكنهم من تحمل أعباء الدفاع عن أمنهم وتحديدًا منذ انتهاء حروب البلقان، وهو ما ترجم مع قمة “سان-مالو” بين فرنسا برئاسة “جاك شيراك”، وبريطانيا بقيادة رئيس الوزراء “توني بلير” في ديسمبر 1998، التي أُسس بموجبها مبادئ السياسة الدفاعية والأمنية الأوروبية، كجزء من جهد أوروبي بقيادة فرنسية وبريطانية لمواجهة ارتدادات التحول الأمريكي عن ضمان المصالح الأوروبية.
وقد جاءت هذه الخطوة في سياق التقارب الفرنسي-البريطاني على المستوى الثنائي لتحسين مستويات التعاون المشترك في العديد من المجالات لا سيما الأمن والدفاع والذي تُوج بإبرام معاهدة “لانكستر هاوس” عام 2010 لتعزيز التعاون الدفاعي، فيما وُسع نطاق الشراكة تحت مظلتها لتشمل البعد النووي بالتزامن مع مرور عقد على إبرامها.
وبالرغم من الجهود الأوروبية للبناء على هذه الخطوات، فإن التباينات بين أعضاء التكتل قوضت من فاعلية الدور الأوروبي وخاصة مع خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي، وتنامي التوترات عبر الأطلسي خلال ولاية الرئيس “دونالد ترامب” الثانية؛ الأمر الذي أسهم في عودة التفاهمات الفرنسية-البريطانية لصدارة المشهد الأوروبي لتعزيز الأمن الأوروبي والتأكيد على أهمية دعم أوكرانيا بدون التخلي عن الحماية الأمريكية. وعليه، فقد أثار التنسيق الفرنسي-البريطاني جملة من التساؤلات من بينها؛ هل أوروبا بصدد التوجه نحو الاستقلال الاستراتيجي بدون “فك الارتباط” مع واشنطن، بما يمكن أن نُطلق عليه لحظة “سان مالو” جديدة في سياق جيواستراتيجي مغاير؟
توجهات عدّة
كشف المخطط الأمريكي لإنهاء الحرب عن رؤية براجماتية إزاء روسيا مفادها تحقيق السلام من خلال القوة، وقد ترجم ذلك في استئناف الحوار مع موسكو تمهيدًا لعودة العلاقات وتخفيف حدة العقوبات المفروضة عليها، وإبرام اتفاق سلام بدون تقديم ضمانات أمنية أو قانونية لأوكرانيا تحول دون توسع موسكو مجددًا. فضلًا عن ممارسة المزيد من الضغوط على الرئيس الأوكراني لقبول بـ “سياسة الأمر الواقع”، والموافقة على صفقة المعادن مع واشنطن، بالتوازي مع تهميش أوروبا. لذا، فقد حفزت هذه التحولات كلًا من فرنسا والمملكة المتحدة إلى جانب رئيسة المفوضية الأوروبية نحو إعادة التفكير في إيجاد ضمانات أمنية لتعزيز الأمن والدفاع الأوروبي تدعم أوكرانيا في مرحلة ما بعد الحرب على النحو التالي:
أولًا- عقد قمم طارئة: في محاولة لتنسيق استجابة متوافقة بشأن آليات التعاطي مع إدارة “ترامب” وتجاهلها للمصالح الأوروبية والأوكرانية بعد اجتماع الدرعية الذي استضافته السعودية، عُقدت مجموعة من الاجتماعات والقمم، إلى جانب مواصلة سياسة العقوبات الاقتصادية على روسيا؛ حيث تم الموافقة على تطبيق الحزمة السادسة عشر عليها في التاسع عشر من فبراير 2025. وردًا على المشادة الكلامية بين الرئيس الأمريكي مع نظيره الأوكراني، استضافت المملكة المتحدة قمة سلام “طارئة” في لانكستر هاوس، في الثاني من مارس 2025، استهدفت إيجاد آليات لضمان حماية أوكرانيا والأمن الأوروبي، والتي أوضح في سياقها “ستارمر” بأن القارة “عند مفترق طرق في التاريخ”. مُعلنًا عن مواصلة دعم كييف عسكريًا، وممارسة الضغوط الاقتصادية على روسيا، والعمل على إنشاء تحالف من الدول التي ترغب في المشاركة في وضع خطة لاستعادة السلام في أوكرانيا بالتعاون مع فرنسا، وتحظى بدعم واشنطن التي ستبقى “شريكًا موثوقًا لبريطانيا وأوروبا”. أعقب ذلك قمة استثنائية أخرى أُجريت في بروكسل في السادس من الشهر نفسه، حول تعزيز الدفاع والأمن الأوروبي.
ثانيًا- إعادة تسليح أوروبا: كشفت المفوضية الأوروبية عن خطوة لدفع الدول الأوروبية لزيادة الإنفاق الدفاعي مقابل الحصول على تسهيلات من الاتحاد الأوروبي، في الرابع من مارس 2025، تُقدر قيمتها بنحو 800 مليار يورو. وبموجب الخطة خصص حوالي 150 مليار يورو منها لتقديم قروض للاستثمار في الدفاع، فيما أتاحت ما يقرب من 650 مليار يورو لتمويل الدول الراغبة في زيادة إنفاقها الدفاعي بنسبة 1.5%، على مدار أربع سنوات، مع السماح لها بتجاوز نسبة العجز العام المحددة بأقل من 3% من الناتج المحلي الإجمالي. كما حددت المجالات الدفاعية المستهدفة بالتمويل منها أنظمة المدفعية، والدفاع الجوي والصاروخي، والمسيرات، الأمن السيبراني، والتنقل العسكري، والذكاء الاصطناعي، والحرب الإلكترونية.
وتجنبًا للاعتراضات المُحتملة من بعض دول التكتل مثل المجر، قامت بتفعيل المادة رقم (122) من معاهدة الاتحاد الأوروبي بتجاوز البرلمان لتمرير الخطة، على غرار ما حدث خلال مجابهة جائحة “كوفيد-19”. وتأتي هذه الخطوة في إعلان بعض الدول الأوروبية عن نيتهم لزيادة الإنفاق الدفاعي وعلى رأسهم المملكة المتحدة التي تتطلع زيادة نسبة الإنفاق من 2.3% إلى 2.5% بحلول عام 2027، عبر تغطية هذا التمويل بتخفيض مساعدات التنمية الخارجية إلى 0.3% بعد أن كانت 0.5% من الناتج المحلي الإجمالي، فيما تعهدت فرنسا بمضاعفة إنفاقها الحالي البالغ نسبته حوالي 2.1% بحلول عام 2030. بينما ستسعى بولندا نحو الوصول إلى نسبة 5% من الناتج المحلي الإجمالي.
ثالثًا- ردع نووي مُوسع: دفعت التفاهمات الأمريكية-الروسية في سياق الشراكة المشروطة مع واشنطن وتحت مظلة حلف “الناتو”، الدول الأوروبية للبحث عن آليات دفاعية لتعزيز قدراتهم على الردع، وهو ما تجلى في مبادرة الرئيس “ماكرون” بشأن الاستعداد لمناقشة توسيع المظلة النووية الفرنسية لتشمل الشركاء الأوروبيين، بالتزامن مع دعوة “فريدريش ميرز” زعيم حزب الاتحاد -والمرشح الأوفر حظًا لتولي منصب المستشار- إلى إمكانية التعاون مع المملكة المتحدة وفرنسا لتوسيع نطاق حمايتهما النووية لتشمل ألمانيا كمسار مُكمل للردع النووي الأمريكي. منوهًا في خطابه للأمة في الخامس من مارس 2025 بأنه “استجابة للدعوة التاريخية للمستشار الألماني المُحتمل، قد قرر بدء مباحثات استراتيجية بشأن حماية الحلفاء في أوروبا من خلال الردع النووي الفرنسي.. أيًا كان ما سيحدث، فإن القرار كان دائمًا، وسيظل في يد الرئيس الفرنسي”.
على الجانب الآخر، اقترح الرئيس البولندي “أندريه دودا” أن تنقل الولايات المتحدة الأسلحة النووية إلى بلاده، موضحًا خلال مقابلته مع صحيفة “فاينانشال تايمز” في الثالث عشر من مارس 2025: “لقد انتقلت حدود حلف “الناتو” شرقًا في عام 1999، لذا بعد 26 عامًا، ينبغي أن يكون هناك أيضًا تحول في البنية التحتية للحلف شرقًا. بالنسبة لي، هذا واضح”. وقد سبق ذلك تصريح رئيس الوزراء البولندي “دونالد توسك” أمام البرلمان في السابع من الشهر نفسه بأن بلاده تجري محادثات وصفها بـ “الجادة” مع باريس حول توسيع نطاق المظلة النووية الفرنسية لحماية وارسو، واستكمل: “يجب أن تسعى بولندا للحصول على أحدث القدرات، بما في ذلك الأسلحة النووية والأسلحة الحديثة غير التقليدية.. هذا سباق نحو الأمن، وليس نحو الحرب”.
رابعًا- تشكيل “تحالف الراغبين”: أصبحت مسألة نشر قوات أوروبية على الأراضي الأوكرانية ليست مجرد مقترح، بل باتت توجهًا تسعى بعض القوى الأوروبية وعلى رأسهم المملكة المتحدة وفرنسا لإعادة النظر فيه، ولكنه لا يزال مرهونًا بنتائج التفاهمات الأوروبية-الأوروبية التي ترتكز الآن على أهمية وقف الحرب أولًا قبل أي عملية محتملة لنشر القوات في أوكرانيا. واتصالًا بذلك؛ استقبلت فرنسا قيادات عسكرية من 34 دولة أوروبية وحلف “الناتو” بالإضافة إلى ممثلين عن اليابان وأستراليا ونيوزيلندا في إطار أعمال منتدى باريس للدفاع الذي عُقد في المدرسة العسكرية بباريس على مدار ثلاثة أيام من 11 إلى 13 مارس 2025، لمناقشة مدى جاهزية الدول الأوروبية لنشر قوات في أوكرانيا في حالة إبرام اتفاق للسلام يُنهي بموجبه الحرب الراهنة، والتوصل إلى محاور رئيسية لتعزيز الدفاع الأوروبي.
وفي هذا السياق، كشفت تصريحات وزراء دفاع القوى الخمس الكبرى في أوروبا -فرنسا، بريطانيا، ألمانيا، بولندا، وإيطاليا- بعد اجتماعهم بباريس -على هامش أعمال المنتدى- عن أبعاد التفاهمات الأوروبية بشأن الضمانات الأوروبية التي يمكن تقديمها لأوكرانيا أبرزها: تعمل فرنسا وبريطانيا من أجل تأسيس تحالف من الدول الأوروبية وغير الأوروبية الراغبة في تعزيز الاستجابة والجاهزية لدعم جهود السلام المرتبطة بتسوية الحرب الروسية-الأوكرانية. وفقًا لوزير الدفاع البريطاني “جون هيلي” عقب الاجتماع. فيما تُمثل القوات المسلحة الأوكرانية الركيزة الأساسية لضمان أمن البلاد؛ لذا يستوجب العمل على تحسينها وتعزيز قدراتها على المدى الطويل، بحسب وزير الدفاع الفرنسي “سيباستيان لوكورنو”. كما أشار إلى أن أولوية التفكير حول مسألة نشر قوات أوروبية قد تكون لحماية الحدود البولندية-الأوكرانية. وهو ما قد سبق وألمح إليه أيضًا “توسك” بأن: “مهمة بولندا هي حماية حدودها الشرقية، التي هي أيضًا حدود حلف “الناتو” والاتحاد الأوروبي”.
تحديات ضاغطة
رحبت القوى الأوروبية بموافقة أوكرانيا على المقترح الأمريكي لوقف إطلاق النار لمدة شهر، وعودة التوافق الأمريكي-الأوكراني بشأن صفقة المعادن، وتراجع واشنطن عن قرار وقف المساعدات العسكرية، وتبادل المعلومات الاستخباراتية مع كييف. وبالرغم من ذلك لا تزال هذه التحولات تحمل المزيد من الضغوط على القوى الأوروبية، كما تفرض عليهم سرعة التحرك والجاهزية لترتيبات مرحلة ما بعد الحرب، وارتباطًا بذلك يمكن توضيح بعض هذه التحديات فيما يلي:
- صعوبة الاستقلال الاستراتيجي: بالرغم من التوجه الفرنسي-البريطاني بشأن البحث عن آليات لضمان الأمن الأوروبي، وطمأنة أوكرانيا ودول الجناح الشرقي والشمالي للحلف، فإنه لا يعني التخلي عن الردع الأمريكي أو “فك الارتباط” عن واشنطن بل قد يكون مناورة سياسية مع إدارة “ترامب” لضمان عدم تخليها عن الحلفاء، ومنحهم فرصة لإعادة تشكيل معادلة الردع وتوازن القوة في أوروبا. ويرجع ذلك لأن واشنطن لا تزال حليفًا استراتيجيًا لأوروبا قد يكون من الصعب استبدالها، أو ضمان حماية المصالح الأوروبية بدون دعم أمريكي، وهو ما برهن عليه ما يلي:
- تزامن النقاش حول آليات للردع النووي المُوسع في أوروبا مع التهميش الأمريكي لأوروبا في إطار تسوية الحرب في أوكرانيا، وليس مع إعلان روسيا إدخال تعديلات على استراتيجيتها النووية، في نوفمبر 2024، وقيامها بتوسيع بنك أهدافها في إطارها؛ إذ ستستخدم روسيا ترسانتها النووية في حالة ما “إذا تعرضت لهجوم من دولة غير نووية، مدعومة بقوة نووية، وهو ما ستتعامل معه روسيا باعتباره هجومًا مشتركًا عليها يستوجب الرد النووي”. وأيضًا في حالة الرد “على استخدام الأسلحة النووية وغيرها من أنواع أسلحة الدمار الشامل ضد روسيا أو حلفائها، وكذلك في حالة العدوان ضد روسيا وبيلاروسيا بأسلحة تقليدية تهدد “سيادتهما و/أو سلامة أراضيهما”. وهو ما كان يُنذر –في حينها- باحتمالية اتساع فرص المواجهة مع الغرب، رغم ذلك لم تتحرك الدول الأوروبية لمقاومة هذه الخطوة التي جاءت كرد فعل على السماح لإدارة “جو بايدن” باستهداف العمق الروسي عبر مد أوكرانيا بالأسلحة طويلة المدى.
- يُضاف إلى ذلك الاعتماد على السلاح الأمريكي؛ إذ كانت أوكرانيا والمملكة المتحدة وهولندا والنرويج من بين أكبر 10 وجهات لصادرات الأسلحة الأمريكية في عامي 2020-2024، فيما شكّلت كييف حوالي 9.3% من إجمالي صادرات الأسلحة الأمريكية، ونحو 26% من حجم الصادرات إلى أوروبا. كما ارتفع حجم صادرات السلاح إلى أوروبا من 13% في عامي 2015-2019 إلى 35%، لأول مرة منذ عقدين، في عامي 2020-2024. وذلك بحسب تقرير صادر عن معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام (SIPRI) في مارس 2025، تحت عنوان: “اتجاهات عمليات نقل الأسلحة الدولية لعام 2024”.
- بجانب ذلك، إشكالية زيادة الإنفاق الدفاعي التي لا تزال الدول الأوروبية غير قادرة بالوفاء بالتزاماتها لتحقيق هدف الحلف المُتمثل في تخصيص 2% من الناتج المحلي الإجمالي للإنفاق على الدفاع، وذلك رغم الضغوط الأمريكية المتزايدة، وجهود المفوضية الأوروبية لضمان الأمن الأوروبي، ودعم أوكرانيا عسكريًا.
- واتصالًا بذلك، يُثير مقترح إرسال قوات أوروبية إلى أوكرانيا العديد من التساؤلات حول ملامح هذه القوة، بمعنى هل ستحظى بدعم أمريكي أو ستشارك فيها قوات تابعة لحلف “الناتو”، أو ستكون بموجب قرار من مجلس الأمن الدولي لكي يضفي عليه شرعية أم ستقتصر على المشاركة الطواعية من قبل الدول الأوروبية؟ وخاصة أن انسحاب أمريكا من أفغانستان في عام 2021، يُشير إلى مدى أهمية المظلة الأمريكية لضمان المصالح الأوروبية.
- انقسامات الداخل الفرنسي: قد يتطلب قرار توسيع المظلة النووية لتشمل بعض الدول الأوروبية إجماعًا داخليًا من الصعب التوصل إليه في ظل ما تمر به البلاد من حالة من عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي، والتي تزايدت مع قرار الرئيس الفرنسي بحل البرلمان في يونيو 2024 في عقب انتخابات البرلمان الأوروبي والتي عززت من فرص تنامي صعود اليمين المتطرف واليسار المتشدد في الداخل الفرنسي، كما أسفرت هذه الخطوة عن تراجع شعبية الرئيس، وفقدان ائتلافه الأغلبية داخل البرلمان الحالي، والمهدد بالحلّ أيضًا.
وقد يهدد هذا الطرح أيضًا إذا أصر الرئيس “ماكرون” على تنفيذه في محاولة لاستعادة شعبيته الداخلية، مستقبله السياسي خاصة إذا سعت القوى السياسية المتطرفة في تعبئة الفرنسين ضده عبر الترويج لأهمية وقف كافة محفزات الصدام مع روسيا سواء كان عبر إرسال قوات فرنسية لأوكرانيا أو توسيع الردع النووي الفرنسي، لأنها قد تنطوي على أخطار أوروبية-أوروبية من ناحية، وأوروبية-روسية من ناحية أخرى. يضاف إلى ذلك أن امتلاك فرنسا لقوة نووية أو كما يُطلق عليها الفرنسيون بـ “القوة الضاربة” مرتبط بثقافة الاستقلال الاستراتيجي للبلاد التي سيصعب التخلي عنها. وعليه، قد تعرقل التحديات السياسية الداخلية طموح الرئيس “ماكرون” في تأمين الشركاء الأوروبيين، فضلًا عن صعوبة توفير ردع نووي فرنسي بديل عن الولايات المتحدة من حيث القدرات، وحجم ونطاق انتشارها المرهون بضمان “المصالح الحيوية الفرنسية” وحتى وإن تضمن “المصالح الأوروبية”.
- براجماتية اليسار البريطاني: تعمل حكومة “ستارمر” على إعادة ضبط العلاقات مع أوروبا بعد خمس سنوات من الخروج من الاتحاد الأوروبي، وبالتزامن مع ذلك تسعى لتعزيز التعاون والشراكة الاقتصادية وتحديدًا في مجال التكنولوجيا مع إدارة “ترامب” تجنبًا للصدام معها والحفاظ على شراكة “أوكوس”، والتحالف القائم تحت مظلة “الناتو”؛ مما يجعل بريطانيا شريكًا براجماتيًا للأمن الأوروبي، ويُفسر ذلك توجه “ستارمر” لزيادة الإنفاق الدفاعي للبلاد قبل زيارته لواشنطن التي بحث خلالها عدد من الملفات من بينها الإعفاء من الرسوم الجمركية الأمريكية والتوصل إلى اتفاق تجاري. توازى معه العمل على تهدئة العلاقات بين واشنطن وكييف عقب الخلافات حول مقترح التسوية الأمريكي، بجانب تنسيق الجاهزية وآليات التحرك مع فرنسا بشأن ضمان أمن القارة، وإبداء استعداده لنشر قوات في أوكرانيا التي من المتوقع أن تطالب بريطانيا أن تكون بقيادتها أو تحت قيادة فرنسية-بريطانية مشتركة، كما قد تشترط أن تكون عملية صنع واتخاذ القرار المتعلق بحجم ونطاق انتشارها مرهون بموافقة بريطانية على غرار قيادتها للقوة الاستكشافية المشتركة (JEF).
بالإضافة إلى ذلك، لم تنساق المملكة المتحدة وراء الاتحاد الأوروبي للرد على التعريفات الجمركية التي فرضتها واشنطن على واردات الصلب والألومنيوم الأوروبية ودخلت حيز التنفيذ؛ الأمر الذي يكشف أن المملكة المتحدة لا تزال تتبنى سياسة “الارتباط الانتقائي” بما يُعلي مصلحة “بريطانيا أولًا”، ويشير إلى توضيح تعاطي المملكة المتحدة مع قضايا الأمن الأوروبي، بما يعكس ترجمة عملية لمبدأ “الواقعية التقديمية” الذي أعلن عنه وزير الخارجية “ديفيد لامي”.
أخيرًا، تُنذر المخططات الأمريكية الرامية لتسوية الصراعات والأزمات في أوروبا والشرق الأوسط في سياق تحولها لمنطقة المحيطين الهندي والهادئ بدخول العلاقات عبر الأطلسي فصل جديد من اللا-يقين ستتوقف ملامحه على مدى استعداد أوروبا بقيادة فرنسا والمملكة المتحدة إلى جانب المفوضية الأوروبية بالقيام بدور غير تقليدي يُسهم في تعزيز التكامل الأوروبي في مجال الأمن والدفاع، ويُحد من مآلات الانقسامات الداخلية على فاعلية الدور الأوروبي، دون الدخول في صدام مع إدارة “ترامب” بالتزامن مع التقارب المتنامي بين الولايات المتحدة وروسيا.
باحث أول بوحدة الدراسات الأوروبية