في خضم تطورات لافتة، أعلنت الحكومة الانتقالية في مالي، في 14 أغسطس 2025، وبعد أيام من الشائعات المتداولة، عن إحباط محاولة انقلابية كانت تهدف إلى الإطاحة بالجنرال “آسيمي جويتا”، رئيس المرحلة الانتقالية، وزعزعة استقرار المؤسسات المالية بدعم من جهات أجنبية. وجاء هذا الإعلان عقب سلسلة من الاعتقالات التي طالت عددًا من الجنرالات وكبار الضباط؛ حيث تم اعتقال ما لا يقل عن 55 عسكريًا، من بينهم الجنرال “عباس ديمبيلي”، الحاكم السابق لمنطقة موبتي في وسط مالي، والعميدة “نيما ساجارا”، في هيئة الأركان العامة للقوات الجوية.
كما شملت الاعتقالات مواطنًا فرنسيًا يُدعى “يان فيزيلييه”، بعد اتهامه بالعمل نيابة عن وكالة الاستخبارات الخارجية الفرنسية (DGSE)، بهدف تجنيد قيادات سياسية وعسكرية ومدنية لتقويض جهود “إعادة بناء مالي”. في المقابل، رفضت فرنسا سردية باماكو للأحداث، مؤكدة أن “فيزيلييه” موظف بالسفارة الفرنسية في مالي ويتمتع بالحصانة الدبلوماسية، معتبرة اعتقاله خارج إطار القانون وفقًا لاتفاقيات فيينا، وطالبت بالإفراج الفوري عنه.
ارتباطًا بما سبق، تأتي المحاولة الانقلابية في سياق سياسي مضطرب وأمني بالغ التعقيد، في ظل تمديد الفترة الانتقالية لمدة خمس سنوات، قابلة للتجديد، وتراجع مسار الانتقال السياسي، بينما تتصاعد التحديات الأمنية مع زيادة الهجمات الإرهابية وتنامي نشاط الجماعات المسلحة والانفصالية. إلى جانب ذلك، تلعب التداعيات الناتجة عن فك الارتباط مع فرنسا والتقارب المتنامي مع روسيا، وتحولات موازين القوى الإقليمية، دورًا في تعقيدات المشهد، مع صعود اتجاه نحو العودة إلى ترتيبات حكم طبيعية ومستقرة، وتحديدًا بعد انتهاء المراحل الانتقالية في دول مثل تشاد والجابون، ويمكن تفكيك دوافع وخلفيات هذه المحاولة الانقلابية على النحو التالي:
أولاً: تنامي مشاعر السخط داخل صفوف المؤسسة العسكرية
يشهد الجيش المالي تصاعدًا في التوترات الداخلية نتيجة تصاعد فجوات الثقة بين القيادة العليا والعناصر الميدانية؛ حيث تتناقض الولاءات بين المناصرين للنظام والمعارضين للشراكات السابقة مع القوى الغربية، خصوصًا فرنسا. يعكس هذا الانقسام إحباط الجنود من مركزية السلطة وسوء توزيع الموارد، ويزيد من شعورهم بالتهميش أمام صفقات سياسية وعسكرية تقررها القيادة بعيدًا عن ساحات القتال. وفي ظل هذا السياق، تتفاقم المخاوف من فقدان الانسجام داخل المؤسسة العسكرية، وهو ما ينعكس مباشرة على قدرتها على إدارة العمليات الأمنية بكفاءة.
فيما يُنظر إلى الاعتماد المتزايد على المقاتلين الروس كعامل مضاعف للانقسامات الداخلية؛ إذ يشعر الجنود الماليون بأن دورهم يقل أمام قوات مجهزة أكثر وتحظى بتعويضات أعلى، ما يولّد شعورًا بالاستياء والإحباط ويحد من فاعلية التنسيق العسكري. كما يعكس هذا الاعتماد الخارجي تحولًا في استراتيجية الجيش المالي من الاعتماد على قدراته الذاتية إلى تقليص دوره لصالح شركاء خارجيين، مما يثير تساؤلات حول سيادة الجيش واستقلاليته في مواجهة التهديدات المسلحة، ويزيد من مخاطر تآكل الانضباط العسكري وتعميق الانقسامات بين الفصائل المختلفة.
وتتفاعل الانقسامات الداخلية مع الأوضاع الاقتصادية المتردية وأعمال العنف المستمرة، ما يزيد السخط الشعبي. كما تأتي التوترات المستمرة مع فرنسا لتشكل مصدر ضغط خارجيًا إضافيًا. وتشكل هذه الديناميكية المزدوجة بين الانقسامات الداخلية والضغوط الخارجية بيئة هشة تهدد استقرار مالي وقدرتها على مواجهة التهديدات الأمنية بالغة الخطورة.
ثانيًا: استهداف ضباط الحرس الوطني وصراع الأجنحة داخل المجلس العسكري
أصدر الجنرال “آسيمي جويتا”، في يوليو 2025، قانونًا يمنحه ولاية رئاسية مدتها خمس سنوات قابلة للتجديد دون انتخابات، ما واكب خطوات أخرى لتأكيد سيطرته على المؤسسة العسكرية، خاصة بعدما برز الانقسام بين مؤيدي “جويتا” ووزير الدفاع الجنرال “ساديو كامارا”، الذي تراجع نفوذه رغم كونه العقل المدبر للمرحلة الانتقالية. واستهدفت الاعتقالات الأخيرة الحرس الوطني، الفيلق الأصلي لكامارا، في خطوة تُشير إلى صراع نفوذ داخل الجيش، في ظل هشاشة التوازنات العسكرية وتهديدات الجماعات المسلحة المستمرة.
وتكشف الاعتقالات عن انقسامات داخل المؤسسة العسكرية خاصة في ظل الغياب الطويل “لكامارا” عن الظهور العام، وهو ما يعد سبباً لتوقع تحركات إضافية لتقليص نفوذ “كامارا” داخل المؤسسة العسكرية، حيث تبرز محاولات “جويتا” لبسط سيطرته وتعزيز ولاء الجيش الكامل له مباشرة، وإضعاف أي فصائل أو تيارات منافسة قد تؤثر على استقراره أو خياراته الاستراتيجية.

وشكلت حملة الاعتقالات الأخيرة أيضًا مؤشرًا لبداية صراع غير معلن بين جويتا وكامارا داخل المجلس العسكري، ويكشف عن تباين الرؤى بشأن التوجهات الاستراتيجية للبلاد، من تعزيز التحالفات مع روسيا ودول خارج دائرة النفوذ الغربي، إلى العودة للشراكات التقليدية مع فرنسا والقوى الإقليمية من دول الجوار. وتؤدي هذه التفاعلات إلى تحديات مُركبة تهدد استقرار مالي الداخلي وقدرتها على مواجهة الجماعات المسلحة في ظل استمرار الهجمات الإرهابية والتحديات الاقتصادية.
ثالثًا: تدهور العلاقة مع الشركاء الغربيين التقليديين وفك الارتباط مع فرنسا
تعكس المحاولة الانقلابية هشاشة الوضع الداخلي في مالي، خاصة بعد الانقلابين عامي 2020 و2021 اللذين أنهيا التعاون العسكري مع فرنسا وعززا الارتباط بروسيا، دون أن ينجحا في كبح هجمات الجماعات المسلحة المرتبطة بتنظيمي القاعدة وداعش. حيث يأتي الكشف عن المخطط الانقلابي الأخير بعد تحذيرات “جويتا” مطلع عام 2025 من محاولات لزعزعة استقرار مالي واتحاد دول الساحل. وتكشف الأحداث عن بعد أعمق في تفاعلات منطقة الساحل الأفريقي؛ مع التوسع في توظيف اتهامات التجسس الموجهة إلى عملاء فرنسيين كورقة ضغط تستخدمها السلطات المالية تعزيز موقفها التفاوضي مع باريس والقوى الغربية، مستفيدة من تنامي المشاعر المناهضة للنفوذ الفرنسي. وبهذه الطريقة، تحولت حوادث “التجسس الفرنسي” من وقائع أمنية فردية إلى أداة سياسية ممنهجة في خطاب الأنظمة العسكرية الجديدة في المنطقة.
وتأتي هذه الواقعة بعدما شهده ابريل من عام 2022 من اتهام السلطات في باماكو القوات الفرنسية بزرع أدوات تجسس في قاعدة غوسي بعد انسحابها، ما شكل بداية تأطير فرنسا “كقوة مهددة للسيادة” بعد الانسحاب العسكري. وقد شكلت هذه الممارسات نمطاً متكرراً، ففي يوليو 2023 اتهمت السلطات في النيجر باريس بتشغيل خلايا استخباراتية تهدف إلى التآمر على النظام الجديد بعد الإطاحة بالرئيس محمد بازوم، وفي ديسمبر من العام نفسه أعلنت السلطات في بوركينا فاسو تم تفكيك شبكة أعلن عن ارتباطها بالاستخبارات الفرنسية، ما استتبع طرد عدد من الدبلوماسيين المتهمين بممارسة أنشطة غير مشروعة داخل البلاد.
وبدورها تظل فرنسا، رغم انسحاب قواتها العسكرية، حريصة على الحفاظ على حضورها الاستراتيجي كما أقر رئيس أركانها السابق الجنرال “فرانسوا لوكوانتر” بضرورة “عودتها الحتمية” إلى المنطقة. وتُعيد حادثة اعتقال الفرنسي” يان فيزيلييه” الجدل حول اتهامات التجسس المتكررة في دول الجوار، في وقت ترتبط فيه مصالح باريس بشكل أساسي بموارد اليورانيوم في النيجر، التي شكّلت لعقود ركيزة لبرنامجها النووي.
حاصل ما تقدم، تكشف المحاولة الانقلابية في مالي عن عمق التحديات الداخلية والخارجية التي تواجهها البلاد، بدءًا من الانقسامات داخل الجيش والمنافسة بين قادة المجلس العسكري، مرورًا بالتوترات مع الشركاء الغربيين، وصولاً إلى الصراع على النفوذ الإقليمي والدولي في منطقة الساحل. وتضع هذه الديناميكيات المتشابكة مالي أمام مُعضلة مزدوجة؛ بين الرغبة في الحفاظ على استقرار الدولة وقدرتها على مواجهة الجماعات المسلحة، وفي الوقت نفسه إدارة علاقاتها المعقدة مع القوى الإقليمية والدولية. وفي ظل استمرار هذه الضغوط، يظل مستقبل المرحلة الانتقالية والهشاشة السياسية في مالي مرهونًا بقدرة القيادة على إعادة التوازن الداخلي وتعزيز سيادة الجيش، والحفاظ على تماسك المؤسسة العسكرية، بما يضمن حماية الأمن الوطني وتجنب الانزلاق إلى أزمات أوسع في المنطقة.
باحث أول بوحدة الدراسات الأفريقية







