تتأثر القارة الأفريقية بشكل غير متناسب بالتغيرات المناخية، حيث تواجه تفاقمًا حادًا في موجات الجفاف والتصحر والفيضانات وانعدام الأمن الغذائي والنزوح، وغيرها من الآثار المدمرة لتغير المناخ، على الرغم من أنها تساهم بأقل من 4% فقط من الانبعاثات العالمية. ما دفع القادة الأفارقة للاجتماع في أديس أبابا وعقد القمة الأفريقية الثانية للمناخ خلال الفترة من 8 إلى 10 سبتمبر 2025، بمشاركة حوالي 45 رئيس دولة أو حكومة من قادة الدول الأفريقية، وأكثر من 20 ألف مشارك من مختلف القطاعات، وممثلين عن المنظمات الإقليمية والدولية. وذلك تحت عنوان: “تسريع حلول المناخ العالمية: تمويل التنمية المرنة والخضراء في أفريقيا”، في محاولة لصياغة مسار أفريقي أخضر موحد مدفوعًا بحلول أفريقية وأولويات أفريقية، يتماشى مع أجندة الاتحاد الأفريقي 2063. وبقدر ما كشفت القمة عن وجود التزام سياسي من الدول الأفريقية بالعمل المناخي، إلا أنه أكدت كذلك استمرار التحدي الرئيسي المتمثل في تأمين التمويل الكافي لدعم العمل المناخي الأفريقي. على هذا، تتناول هذه الورقة قمة المناخ الأفريقية الثانية من حيث؛ سياق انعقادها، والموضوعات التي ناقشتها، وأهم المخرجات التي تمخضت عنها.
أولًا: سياقات مُعقدة
جاءت القمة في سياق عالمي وإقليمي بالغ التعقيد، يتسم بتسارع تداعيات التغيرات المناخية وتفاقم آثارها على الاقتصادات والمجتمعات، لاسيما في القارة الأفريقية التي تُعد الأكثر تأثرًا بالتغيرات المناخية والأكثر هشاشة رغم محدودية إسهامها في الانبعاثات الكربونية. وكذلك انعقدت القمة في ظل تراجع التمويل العالمي للمناخ، وانسحاب الولايات المتحدة من اتفاقية باريس، وتزايد الاحتياجات المالية للعمل المناخي في أفريقيا، مع اتساع فجوة التمويل المناخي في أفريقيا – تحصل أفريقيا على 10% فقط من احتياجات التمويل المناخي السنوية وفقًا لمبادرة سياسة المناخ (CPI)- في ظل تراجع الدول الكُبرى عن الوفاء بتعهداتها السابقة نحو الدول الأقل نموا والأكثر تأثرًا بتغيرات المناخ.
بجانب ذلك، تأتي القمة الأفريقية الثانية للمناخ امتداداً للقمة الأولى التي استضافتها العاصمة الكينية نيروبي عام 2023، والتي أرست للمرة الأولى إطاراً جامعاً لتوحيد أصوات الأفارقة للتعبير عن الموقف الأفريقي المشترك تجاه قضية المناخ. اتصالًا بذلك، يمثل انعقاد القمة الثانية قبل نحو شهرين فقط من انعقاد مؤتمر الأمم المتحدة الثلاثين للمناخ (COP30)، المقرر عقده في البرازيل نهاية عام 2025، فرصة ثانية لأفريقيا لتثبيت حضورها كقوة تفاوضية جماعية في قضايا التمويل والعدالة المناخية، وتعزز موقعها كوجهة استثمارية واعدة في مجالات الاقتصاد الأخضر والطاقة المتجددة، بالشكل الذي يمنع تهميشها ويجعلها “صانعة أجندة” وليست مجرد متلقية لقرارات الدول الكبرى.
ثانيًا: قضايا جوهرية
توزعت محاور القمة الأفريقية الثانية للمناخ حول عدد من القضايا الجوهرية التي تمثل أولويات القارة في مواجهة التغيرات المناخية، بما في ذلك:
- تمويل المناخ والحلول التي تقودها أفريقيا
احتلت قضية تمويل المناخ جزء مهم من مناقشات القمة، في ظل فجوة التمويل المناخي الكبيرة التي تعاني منها القارة الأفريقية، خاصة بعد أن أخلت الدول الغنية – المساهم الأكبر في الانبعاثات المسببة للتغيرات المناخية- بوعودها المتعلقة بتمويل المناخ تجاه الدول الأفريقية -الأقل مساهمة في الانبعاثات والأكثر تأثرًا بالآثار السلبية للتغيرات المناخية-. ولعل المثال الأبرز هنا هو مبلغ 100 مليار دولار سنويًا، الذي تم التعهد به في مؤتمر الأطراف الحادي والعشرين (COP21)، لمساعدة الدول الضعيفة على خفض الانبعاثات والتكيف مع تغير المناخ. ولم تتلقَّ أفريقيا، القارة الأكثر تأثرًا بآثار الاحتباس الحراري سوى عُشر احتياجها السنوي وفقًا لمبادرة سياسة المناخ (CPI)، وعلى أفضل تقدير تلقت القارة خُمس احتياجاتها التمويلية السنوية وفقًا للمركز العالمي للتكيف (GCA). وقد أعاق فشل الدول المتقدمة في الوفاء بوعودها التمويلية، قدرة أفريقيا على بناء القدرة على التكيف وتنفيذ التدابير اللازمة لتعزيز المرونة الاقتصادية في مواجهة العواقب الوشيكة لتغير المناخ.
من جهة أخرى، تطرقت المناقشات إلى آليات التمويل، حيث كان معظم التمويل الذي حصلت عليه الدول الأفريقية في شكل قروض، وأدت هذه القروض غير الميسرة، ذات أسعار الفائدة السوقية، إلى تفاقم عبء ديون الدول الأفريقية الضعيفة. ونتيجةً لذلك، تواجه هذه الدول الآن خيارًا صعبًا بين تخصيص الموارد للعمل المناخي أو سداد الديون، حيث تستهلك خدمة الديون جزء كبير من إيراداتها. ومن هذا المنطلق، ركزت المناقشات على توفير رأس المال وتعزيز الابتكار المحلي، وتعزيز آليات التمويل التي تُمكّن الدول الأفريقية من مواجهة تحديات المناخ بفعالية من خلال المبادرات المجتمعية، بعيدًا عن القروض.
- إبراز مخاطر تغير المناخ على أفريقيا
ناقشت القمة المخاطر المترتبة على التغيرات المناخية التي تواجه القارة، وتتجلى هذه المخاطر في تفاقم ظواهر الجفاف الممتد، وتكرار الفيضانات المدمرة، وتدهور الأراضي الزراعية، وما يصاحبها من تهديد مباشر للأمن الغذائي والمائي، فضلاً عن إضعاف قدرات المجتمعات المحلية على الصمود، والصراعات، والنزوح والهجرة المناخية. وجرى التأكيد على أن القارة الأفريقية تُعد من أكثر الأقاليم عرضة لتأثيرات التغير المناخي، خاصة منطقة شرق أفريقيا.
- العمل على شمولية العمل المناخي
أولت القمة أولوية لأصوات المهمشين والحلول المجتمعية في حوكمة المناخ لضمان شمولية العمل المناخي، من خلال مشاركة الجهات الفاعلة الشعبية، بما في ذلك؛ النساء والشباب والسكان الأصليين والمجتمعات المحلية، في وضع استراتيجيات مناخية مشتركة وأجندة أكثر تمثيلاً، متجذرة في الواقع الأفريقي. وذلك انطلاقًا من الإيمان بأن القيادة لا تقتصر على الحكومات فحسب، بل إن للمجتمع المحلي والشباب والنساء والقطاع الخاص أدوارًا في بناء مستقبلٍ يتسم بالصمود في وجه تغير المناخ والمحافظة على الطبيعة.
- الترويج للحلول القائمة على الطبيعة والتحول العادل للطاقة
تتمتع أفريقيا بموراد طبيعية هائلة، تمنحها فرصة حقيقية لتكون جزء من الحل لمشاكل المناخ، حيث تحتوي أفريقيا على 60% من أفضل موارد الطاقة الشمسية في العالم، بالإضافة إلى إمكانات الطاقة الحرارية الأرضية وطاقة الرياح. وتهدف القمة إلى التركيز على تسخير هذه الموارد الطبيعية والابتكارات التكنولوجية في أفريقيا لدفع عجلة النمو الأخضر وتحقيق التنمية المستدامة، من خلال التحول العادل في مجال الطاقة.
ثالثًا: مخرجات محدودة
أفضت القمة الأفريقية الثانية للمناخ إلى جملة من المخرجات، التي حملت مؤشرات واضحة على توافر إجماع سياسي أفريقي بشأن قضايا المناخ، إلا أنها كشفت كذلك عن الصعوبات الجوهرية التي تواجه تجسيد هذا الإجماع على أرض الواقع بسبب التحديات التمويلية الجسيمة، وذلك على النحو التالي:
- اعتماد إعلان أديس أبابا للمطالبة بتسريع حلول المناخ والتمويل
خرجت القمة بإعلان سياسي واقتصادي جامع هو “إعلان القادة الأفارقة بأديس أبابا لتسريع حلول المناخ العالمية والتمويل من أجل تنمية أفريقية خضراء ومقاومة” (Addis Ababa Declaration on Accelerating Climate Action and Finance for Africa’s Green Future) – ما يُعرف اختصارًا بإسم “إعلان أديس أبابا” – يمثل خريطة طريق للقارة، سيوجّه مواقف أفريقيا في المحافل الدولية المقبلة، لاسيما مؤتمر الأطراف (COP30) والجمعية العامة للأمم المتحدة، بما يعزز موقعها في النظام العالمي ويؤكد حقها في التمويل العادل والتنمية المستدامة. وجاء الإعلان مصحوبًا بـ “نداء للعمل”، وتم دعوة الدول الأفريقية إلى دمج مقتضيات إعلان أديس أبابا في الخطط الوطنية للتنمية والمناخ، مع ضرورة تعزيز التنسيق بين الاتحاد الأفريقي والمجموعات الاقتصادية الإقليمية لتسريع التحول الأخضر. مع التأكيد على أهمية وضع آليات متابعة وتقييم واضحة لمخرجات القمة، بما يضمن قياس التقدم المحرز وتفعيل الشفافية والمساءلة على المستويين الوطني والإقليمي.
- تعهدات مالية جديدة ودعوة الدول المتقدمة لزيادة تمويل المناخ
شهدت القمة الإعلان عن عدد من التعهدات المالية في محاولة لسد الفجوة التمويلية التي تعانيها القارة في مجال العمل المناخي. بما في ذلك؛ مبادرة قارية تهدف إلى تعبئة 50 مليار دولار سنويًا لدعم الحلول المناخية المبتكرة، وذلك عبر آليات قارية مثل “الميثاق الأفريقي للابتكار المناخي” و”مرفق المناخ الأفريقي”، بما يعزز القدرة على تطوير ألف حل مناخي محلي بحلول عام 2030. في الوقت ذاته، أعلنت بنوك التنمية الأفريقية وعدد من المؤسسات المالية الإقليمية والدولية التزامًا بتعبئة حوالي 100 مليار دولار لدعم انتقال القارة نحو التصنيع الأخضر، عبر الاستثمار في مشروعات النمو الأخضر والطاقة المتجددة والبنية التحتية المستدامة، وتحديث سلاسل القيمة الزراعية والتصنيعية، وتسريع خلق فرص العمل. وقد تعدى هذا الالتزام كونه مجرد تعهد شفهي إلى إضفاء الطابع الرسمي عليه، لكن مع ذلك يواجه تحديات مرتبطة بآليات التنفيذ وضمان التدفقات الفعلية للأموال.
ولا يمثل تعهد الـ 50 مليار دولار “السنوي” سوى ربع الاحتياجات المالية السنوية المطلوبة لتمويل المناخ في أفريقيا، وفقًا لـمبادرة السياسة المناخية (CPI)، ما يعني أنها، إذا تم الوفاء بها، تمثل نقطة انطلاق معقولة لكنها ليست كافية بمفردها، ما يتطلب تضامن دولي متعدد الأطراف، خاصة وأن الالتزام الدولي بمبلغ 100 مليار دولار سيُدفع كاستثمارات لمرة واحدة خلال فترة زمنية معينة وليس التزامًا سنويًا. وهو ما دفع القادة الأفارقة إلى دعوة الدول المتقدّمة لزيادة التمويل المناخي المُعطى كمنح، وتسهيل الوصول إلى التمويل منخفض التكلفة، بعيدًا عن القروض المثقلة بالديون، مع التأكّد من أن يكون هذا التمويل قابلاً للتنبّؤ به، ويتوافر بشروط أكثر عدالة، وسهل الوصول إليه من الدول والمجتمعات الأكثر ضعفًا.
- دعوة لتفعيل صندوق الخسائر والأضرار، وتعزيز للاستثمارات المناخية
رغم مساهمتها المحدودة في الانبعاثات العالمية، تعد أفريقيا من أكثر المناطق عرضة لآثار التغير المناخي. ومن هذا المنطلق، طالب القادة الأفارقة بالتشغيل الكامل لـ “صندوق الخسائر والأضرار” (Loss and Damage Fund)، وهو آلية مالية أنشئت في مؤتمر الأطراف السابع والعشرين (COP27) الذي استضافته مدينة شرم الشيخ المصرية عام 2022، لتقديم المساعدة المالية للدول النامية الأكثر عرضة للتأثيرات المدمرة لتغير المناخ، ويُموّل الصندوق مبادراتٍ لمساعدة هذه الدول على التعافي من الأضرار الاقتصادية وغير الاقتصادية، بما في ذلك إعادة التوطين في حالات الطوارئ، وإعادة بناء البنية التحتية، ودعم جهود التعافي. كما أكدت القمة على أن الموارد اللازمة لتمويل المناخ يجب أن تتجاوز منطق المساعدات التقليدية لتتحول إلى استثمارات استراتيجية تعزز النمو الاقتصادي، وتدعم الابتكار، وتُسهم في تحقيق التنمية الخضراء الشاملة، مع تجنُّب الحلول التي تفاقم من الدين الخارجي، وتثقل ميزانيات الدول الأفريقية.
- إطلاق مبادراتين ممولتين أوروبياً للانتقال الأخضر في أفريقيا
على هامش القمة، أطلق الاتحاد الأفريقي مبادرتين رائدتين لتسريع وصول أفريقيا إلى الطاقة والانتقال الأخضر العادل. حيث تم إطلاق برنامج الطاقة القاري في أفريقيا (CEPA) بتمويل من الاتحاد الأوروبي، وبرنامج المشاركة من أجل انتقال أفريقيا إلى الطاقة الخضراء(ENGAGE)، الممول من وزارة التعاون الاقتصادي والتنمية الفيدرالية الألمانية. وتسعى المبادرتان إلى تسريع تنفيذ السوق الأفريقية الموحدة للكهرباء (AfSEM) والخطة الرئيسية لأنظمة الطاقة القارية (CMP)، وهما عنصران أساسيان في أجندة الاتحاد الأفريقي 2063 لتحقيق التكامل القاري في مجال الطاقة. كما تشكل المبادرتان جزءًا من مبادرة الطاقة الخضراء بين أفريقيا والاتحاد الأوروبي (AEGEI)، وهي مبادرة رائدة ضمن حزمة الاستثمار العالمية بين أفريقيا وأوروبا التابعة للاتحاد الأوروبي، والتي تهدف إلى حشد 150 مليار يورو لبناء أفريقيا قوية وشاملة وخضراء ورقمية.
ختامًا، كشفت القمة الأفريقية الثانية للمناخ التي استضافتها العاصمة الإثيوبية أديس أبابا عن التناقض الجوهري الذي يعاني منه العمل المناخي في القارة، بين سعي دول القارة لترسيخ موقعها كفاعل رئيسي في منظومة العمل المناخي العالمي، وتجاوز وضعها التقليدي كمتلقي للدعم الخارجي في هذا المجال، ومحاولة إمساك زمام المبادرة، وبين الاعتماد شبه الكامل على المانحين الخارجيين في تمويل العمل المناخي الأفريقي. ومع ذلك، يظل استمرار الالتزام السياسي الأفريقي بالعمل المناخي يشكل قاعدة أساسية لتجنب الدخول في مرحلة من التراجع خاصة على إثر التغيرات الدولية منذ عودة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب للسلطة مطلع العام الجاري.