هناك حالة من الزخم حيال الموقف الأمريكي الداعم للمغرب في ملف الصحراء الغربية والإقرار بواقعية ومنطقية “الحكم الذاتي” لحل ذلك الصراع؛ برز ذلك بشكل جلي عبر التأكيدات التي أطلقها “مسعد بولس” مستشار الرئيس الأمريكي للشئون العربية والشرق أوسطية والشئون الأفريقية خلال اللقاءات التي جمعته مع “ستيفان دي ميستورا” المبعوث الشخصي للأمين العام للأمم المتحدة إلى الصحراء الغربية (مرتين خلال شهر سبتمبر) آخرها 25 سبتمبر 2025 والذي جدد خلالها التأكيد على دعم “واشنطن” لمبادرة الحكم الذاتي المطروحة من جانب “الرباط” لكونها أساسًا وحيدًا عادًلا ودائمًا ومقبولًا لحل ذلك الصراع وتحقيق السلام والاستقرار.
مضافًا لذلك، فقد جاء اللقاء الذي جمع “ناصر بوريطة” وزير خارجية المغرب و”كريتسوفر لانداو” نائب وزير الخارجية الأمريكي في “نيويورك” (24 سبتمبر 2025) -على هامش أشغال الجمعية العامة للأمم المتحدة- ليتضمن تأكيدات للموقف الأمريكي الداعم لسيادة المغرب على الصحراء مع تقديم الدعم للشركات الأمريكية لاستكشاف فرص الاستثمار داخل المغرب وبصورة خاصة في الصحراء الغربية، وبما يوفر غطاءً ودعمًا استراتيجيًا للتحرك المغربي في دمج تلك الأقاليم لسيادته عبر مقاربة “تنموية”، بعدما حقق مكاسب دبلوماسية بجملة الاعترافات بسيادته على الصحراء خلال الأعوام الأربعة الماضية وخصوصًا على خلفية اعتراف واشنطن بذلك في ديسمبر 2020.
يتقاطع ذلك مع ما تضمنته برقية “ترامب” للملك “محمد السادس” في أغسطس 2025 بمناسبة عيد العرش، والتي جاء فيها تأكيد اعتراف أمريكا بالسيادة المغربية على الصحراء ودعمها أيضًا لمبادرة الحكم الذاتي، ولعل هذا التحرك في مجمله يأتي قبيل إحاطة “دي ميستورا” المقبلة في مجلس الأمن الدولي (أكتوبر 2025) بشأن الصحراء الغربية، أخذًا في الاعتبار التبدّلات التي شهدها ذلك الملف من موجة الاعتراف الإقليمي والدولي بالسيادة المغربية على الصحراء وبصورة خاصة اعترافات ثلاثة أعضاء دائمين للطرح المغربي وهما (الولايات المتحدة الأمريكية – فرنسا – بريطانيا).
براغماتية التحرك وتكتيكات حاسمة
يستند نهج “ترامب” بصورة رئيسية على منطق الصفقات سواء تلك التي تُحقق لواشنطن مكاسب مباشرة أو تلك التي تُحقق تموضعًا استراتيجيًا عبر الحلفاء على المستوى الطويل الأمد وبما يحقق مكسبًا لهم، وبصورة خاصة في مناطق الصراع والتوتر، وهنا كانت “إسرائيل” مفتاح التعاطي الأمريكي المنفتح/ المنحاز بصورة رئيسية للتوجه المغربي حيال قضية الصحراء الغربية بما دفع إدارة “ترامب” لاتخاذ إجراءات مؤثرة في هذا الملف على النحو التالي:
- التكامل التنموي ومظلة “أبراهام”: إن أساس التفاعل الأمريكي المتقارب مع “الرباط” في ملف الصحراء الغربية يعود إلى نهاية عام 2020 وسياسة المقايضة التي أُبرمت حينها، والقائمة على فكرة الاعتراف بالسيادة المغربية على الصحراء في مقابل استئناف المغرب علاقاته مع إسرائيل، هذا الأساس أوجد تنسيقًا عسكريًا وسياسيًا واقتصاديًا مغربيًا إسرائيليًا، جنبًا إلى جنب، وآلت تلك المقايضة إلى تدشين صندوق استثماري ثلاثي -تواترت التقارير بشأنه في مايو 2025- بين المغرب وإسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية كمبادرة استراتيجية تهدف إلى تعزيز التعاون الاقتصادي والأمني بين الدول الثلاث، ويهدف أيضًا إلى إنشاء منصة استثمارية مشتركة تركز على قطاعات مثل الأمن، الطاقة، الصناعة، والتكنولوجيا، بهدف تعزيز التكامل الإقليمي ومواجهة نفوذ القوى المنافسة مثل الصين، روسيا، وإيران.
ولعل هذا الصندوق يُجسد رغبة أمريكية لتدشين آلية للتعاون الإقليمي القائم على فكرة التنافسية الموجهة للتغلغل الصيني والروسي في هذه المنطقة، ويعكس تحولًا في السياسة الأمريكية نحو إنشاء آليات تعاون إقليمية دائمة تتجاوز التحالفات الثنائية التقليدية، لدعم مصالح أمريكا في هذا النطاق الاستراتيجي وإعادة تموضعها بشكل مغاير للاستعمار التقليدي، خاصةً في ضوء صعود نخبة عسكرية شابة في دول الساحل التي شهدت تغيرات منذ عام 2020 رافضة للغرب بصورة عامة.
على مستوى متكامل مع ذلك، أعطت “واشنطن” الضوء الأخضر مؤسسة تمويل التنمية الدولية الأمريكية (DFC) (U.S. Development Finance Corporation) لاستكشاف الفرص الممكنة داخل الأقاليم الجنوبية في المغرب (مناطق الصحراء الغربية) ورصد خطة استثمارية بقيمة من 5 مليارات دولار في مشاريع تتضمن قطاع الطاقة والبنية التحتية والزراعة وتطوير الموانئ، ويُعد هذا الأمر بمثابة أداة استراتيجية لدمغ الاعتراف الدبلوماسي بالجانب التنموي والاقتصادي ويُمرر معه مبادرة “الحكم الذاتي”، وقد أشار لهذا المسار “كريستوفر لانداو” نائب وزير الخارجية الأمريكية خلال لقائه بوزير الخارجية المغربي في الخامس والعشرين من سبتمبر 2025 حين أكد على (تشجيع الحكومة الأمريكية للاستثمار في الأقاليم الجنوبية للمغرب).
ولعل هذا الانفتاح التنموي (عبر الصندوق الثلاثي أو من خلال مؤسسة تمويل التنمية) مضافًا إليه تسارع وتيرة التبدّل الدبلوماسي (إقليميًا ودوليًا) للاعتراف بالسيادة المغربية مع افتتاح ممثليات دبلوماسية للدول في مدينة العيون والداخلة يُمهد بشكل واسع إقرار السيادة المغربية ويعتبر انتصارًا دبلوماسيًا للرباط ويعزز من نفوذها إقليميًا مع الطموحات الخاصة بمشاريع استراتيجية تربط الشمال بدائرة الساحل بالدائرة الأطلسية مبادرة “الولوج للأطلسي”، ويحقق تفوقًا استراتيجيًا مغربيًا ويجعلها مركزًا للطاقة والتجارة في المغرب العربي، وفي مجمله يئول إلى تسوية الملف.
- فك الارتباط وغياب المفاوض: واحدة من بين تكتيكات التحرك الأمريكي حيال قضية الصحراء الغربية يكمن طمس الوجود لأطراف التفاوض، وبصورة خاصة “جبهة البوليساريو” المفاوض المعترف به أمميًا في ملف الصحراء الغربية، وقد برز ذلك في مساعي الحزبين “الديمقراطي” و”الجمهوري” الأمريكيين تقديم مشروع قانون يُهدف إلى إدراج جبهة البوليساريو ضمن التنظيمات الإرهابية؛ حيث إنه في السادس والعشرين من يونيو 2025 تقدّم النائب الجمهوري “جو ويلسون” والنائب الديمقراطي “جيمي بانيتا” بهذا المشروع إلى الكونجرس، مستندين فيه إلى الارتباط الجامع بين “البوليساريو” وبين إيران سواء عبر دعم لوجستي أو تقديم تدريبات في مخيمات “تندوف” أيضًا إلى فكرة الربط التي تجمع بين “البوليساريو” وبعض التنظيمات الإرهابية في الساحل الأفريقي ((القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي) وتلك الموجودة في الشرق الأوسط كما هو الحال بالنسبة (حزب الله –حزب العمل الكردستاني) هذه المبادرة، التي وصفت بأنها “ثنائية الحزبية”، تعكس توافقًا نادرًا بين الجمهوريين والديمقراطيين؛ مما يعزز احتمال تمريرها، وهذا الأمر أكده “ويلسون” خلال مؤتمر صحفي على هامش مؤتمر الأمم المتحدة في 23 سبتمبر 2025 حين قال “إن البوليساريو منظمة إرهابية تسهم في زعزعة استقرار العالم“.
ولعل هذا التصنيف -حال تمريره- يؤدي إلى أمرين؛ الأول: تراجع (شرعية الدّور) الخاص بجبهة البوليساريو كممثل مفاوض رئيسي في ملف الصحراء الغربية، والثاني: تراجع التأثير الميداني والتحسب لأي عمليات ميدانية قد يُسّوق لها على أنها عمل (إرهابي). ولعل هذا التحرك الأمريكي قد يدفع أطراف أخرى، مثل الاتحاد الأوروبي، لإعادة تقييم موقفها من الجبهة؛ مما يعزز العزلة الدولية لها، وفي المجمل سيتم تقويض مشاركة وتحرك قيادات الجبهة إقليميًا ودوليًا ويحول دون مشاركتها الرسمية في المنظمات المختلفة والمؤتمرات.
عوامل وسيطة مُحفزة
إن التحرك الأمريكي تجاه التعاطي مع قضية الصحراء الغربية جاء تزامنًا مع بعض العوامل الوسطية ذات التأثير في ملف الصحراء يمكن تبيانها في التالي:
- الضغط الأممي والترويج للطرح المغربي: واحدة من بين العوامل الوسيطة التي قد تُحفز من تحريك الجمود الراهن في ملف الصحراء والدفع لمناقشة مبادرة الحكم الذاتي بصورة جدية والبناء عليها كأساس واقعي لحل قضية الصحراء الغربية، يتجلى في تحركات المبعوث الأممي “دي ميستورا” النشطة على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة (سبتمبر 2025) سواء تلك التي تمت مع “مسعد بولس” أو مع “أحمد عطاف” وزير الخارجية الجزائري ولقاءات أخرى تشاورية مع وزراء خارجية (موريتانيا، فرنسا، إسبانيا، روسيا).
- الانتقال من استراتيجية التدبير إلى استراتيجية التغيير: واحدة من بين المتغيرات التي شهدتها أقاليم الصحراء الغربية وزادت من حدة الضغط على جبهة البوليساريو، هو ما تبنته الرباط من استراتيجية التغيير في الأقاليم الجنوبية بها عبر استراتيجيات التنمية المختلفة ومشاريع البنية التحتية، وتجلت معالم ذلك في المبادرة التي أطلقها المغرب (جنوب – جنوب) أو المبادرة الأطلسية الرامية لولوج دول الساحل والصحراء إلى جنوب الأطلسي، وما تبعها من تغيرات في مواقف دول الساحل تجاه وضعية المغرب على الصحراء. جنبًا إلى جنب ما أطلقه المغرب من مبادرات تنموية مختلفة تستهدف ربط الأقاليم الجنوبية بالتنمية، كما هو الحال بالنسبة لمبادرة التنمية المختلفة للأقاليم الجنوبية التي برزت بشكل واضح في خطة الملك محمد السادس من خلال برنامج التنمية للأقاليم الجنوبية التي وضعه في عام 2015 بميزانية تقدر بنحو 77 مليار درهم (نحو 8 مليارات دولار أمريكي) والتي تستهدف من خلالها المملكة تسريع وتيرة التنمية داخل تلك الأقاليم وربطها بريًا وبحريًا بين الدار البيضاء والداخلة، عبر مشاريع استثمارية ضخمة منها ميناء الداخلة الأطلسي والطرق البرية، وذلك ضمن رؤية المملكة لخلق واقع تنموي يعزز من تمرير الحل السياسي المستدام للصراع، وتأتي خطط التنمية في سبيل جذب القوى الغربية لدعم مبادرة الحكم الذاتي في ضوء ما تمثله الأقاليم الجنوبية من مداخل استراتيجية لعديد من تلك القوى (فرنسا والولايات المتحدة) لبناء استراتيجياتها في غرب أفريقيا ومنطقة الساحل والصحراء.
- تفكك داخلي وظهور “البديل”: واحدة من بين العوامل المؤثرة في قدرة “البوليساريو” على التفاوض واستمرار نهج الاستناد لفكرة “المقاومة والاستقلال” هو التفكك داخل بنية الجبهة ذاتها، الذي تجلى في تدشين “حركة صحراويون من أجل السلام” والتي أُسست مطلع فبراير 2020 على يد “أحمد باريكلي” القيادي السابق في البوليساريو. هذه الجبهة تدعم بشكل رئيس رؤية مغايرة لفكرة الاستقلال عبر المقاومة، بل تطرح نهجًا أكثر انفتاحًا قائمًا على الحوار والتفاوض السياسي مع انحيازها لمبادرة الحكم الذاتي كحل واقعي، خاصةً وأن تلك الجبهة ترى عدم فاعلية في النهج الراديكالي للبوليساريو وعدم فاعلية الخيار العسكري.
ولعل ما تضمنته رسالة تلك الحركة إلى المبعوث الأممي “ستيفان دي ميستور” مطلع يونيو 2025 والمتضمنة أهمية تحريك مسار التسوية السياسية تحت رعاية الأمم المتحدة عبر تفعيل المبادرة – الطرح المغربي الخاص بالحكم الذاتي كحل واقعي، مدمجًا معها ما كتبه “باريكلي” من مقال بعنوان “الصحراء بين سلام ممكن ولعنة التعنت” (تداولته عدة مواقع بتاريخ 23 سبتمبر 2025) ومفاداه أهمية الحوار للخروج من دائرة ذلك الصراع ورفض التصعيد لكونه لا يغذي إلا دائرة العنف التي يدفع تكلفتها الشعب الصحراوي، وتبني نهج السلام وإن كان منقوصًا لكنه يظل أفضل من استمرار الحرب.
هذا الصوت المغاير للنهج التقليدي في ملف الصحراء الغربية، قد يكون عاملًا تبني عليه بعثة الأمم المتحدة تحركاتها في المستقبل المنظور لإعادة طرح خيارات أخرى غير الاستفتاء الذي عجزت عن تحقيقه بعثة “المينورسو” منذ إصدار مجلس الأمن قراره رقم 690 في عام 1991.
- تزايد وتيرة الدعم الدولي: لقد حظيت المبادرة بدعم نحو من 118 دولة (وفقًا لما صرّحت به “ماجدة موتشو” نائبة الممثل الدائم للمغرب لدى الأمم المتحدة خلال الدورة العادية أمام لجنة الــ 24 التابعة للأمم المتحدة (10 يونيو 2025) وكان أبرزها دوليًا؛ الولايات المتحدة، التي اعترفت بسيادة المغرب عام 2020، إسبانيا (2022)، فرنسا (2024)، والمملكة المتحدة (يونيو 2025)، وتزايد هذا العدد على ضوء اعتراف كل من (فنلندا في أغسطس 2025 – والباراغواي في سبتمبر 2025) بالسيادة المغربية. هذا الدعم يعكس إدراك المجتمع الدولي لمنطقية وواقعية المبادرة المغربية وقد يدفع مجلس الأمن للنظر إليها بأنها الأكثر واقعية وجدية وأساس للحل السياسي.
اتجاه محتمل
إن جملة ما تم استعراضه قد يتيح هامشًا نحو تحريك ملف الصحراء الغربية للتسوية سواء بتفاعل مغاير من جانب مجلس الأمن لإعادة النظر في استمرارية بعثة المينورسو بعدما تقاربت غالبية الدول الأعضاء الدائمين في المجلس مع الطرح المغربي، أو عبر ممارسة ضغط لمزيد من المشاركة الفاعلة لكل من (الجزائر وموريتانيا) وكذلك (جبهة البوليساريو) للانخراط في مفاوضات جدية للتوصل لتسوية سياسية عادلة ومقبولة ومستدامة للطرفين، خاصةً وأن قرار مجلس الأمن 2756 رقم الصادر في 31 أكتوبر 2024، قد تضمن “التشديد على ضرورة التوصل إلى حل سياسي واقعي وعملي ودائم ومقبول للطرفين لمسألة الصحراء الغربية على أساس من التوافق“.
فضلًا عن أن مشروع القانون المقدم للكونجرس بشأن إدراج “البوليساريو” كتنظيم إرهابي (المُشار إليه أعلاه) قد يكون ورقة ضغط على “البوليساريو” لتقديم تنازلات والجلوس لطاولة المفاوضات لإنهاء هذا الصراع، ووضع إطار مشترك للتفاوض يُخفف كل طرف من خلاله الرؤية الجامدة سواء (تحقيق الاستقلال أو الحكم الذاتي وفرض السيادة المغربية)، مع انخراط مُكثف لكل من (الجزائر) و (موريتانيا).