تاريخيًا يُعد إقليم القرن الإفريقي مسرحًا جيوستراتيجيًا للتنافس والصراع الدولي والإقليمي، في ضوء ما يحظي به من أهمية استراتيجية في معادلة الأمن والاقتصاد الدوليين، فما بين المقومات الاقتصادية والثروات الطبيعية التي تمتلكه دول الإقليم سواء المعادن النفيثة ومصادر الطاقة (النفط والغاز) أو الموارد المائية والزراعية الهائلة وكذلك رأس المال البشري، أو المقومات الجيوبوليتكية في ضوء موقع الإقليم الجغرافي الذي يمتد من المحيط الهندي حتى المدخل الجنوبي للبحر الأحمر متمثلاً في مضيق باب المندب. وما يكسبه ذلك من أهمية بالغة في الإشراف على المنافذ الاستراتيجية وهي المحيط الهندي وخليج عدن والبحر الأحمر الذي يمُرّ بالأخير قرابة 30% من التجارة العالمية.
وتتسم دول إقليم القرن الأفريقي بتعددية أنماط التحديات التي تتضمن بطبيعة الحال صراعات الحدود الهشه التي يتم استدعائها في ظل توتر العلاقات السياسية بين الدول، وكذلك صراعات الموارد والثروات داخل الدولة الواحدة أو تلك العابرة للحدود الوطنية مثلما هو الحال بالنسبة للثروات الطاقوية أو الزراعية وموارد المياه، أيضًا الصراعات الاثنية والقبلية التي لا تزال السمة الرئيسية لغالبية دول القرن الأفريقي. لتخلق مساحة اضطراب أمني واسع يساعد في تفشي ظاهرة الإرهاب ونشاط أكبر للحركات والنزاعات الانفصالية، وتُرتب بطبيعة الحال نقطة تصدع في العلاقات البينية لتلك الدول ومجالاً للتجاذب والتدافع الإقليمي والدولي.
وما فاقم حدة تلك التحديات ما مثّله التصعيد العنيف في البحر الأحمر على السفن الإسرائيلية وغيرها ممن ترتبط بإسرائيل من جانب جماعة “أنصار الله” الحوثية كرد فعل على حرب الإبادة التي يشنها الجيش الإسرائيلي على الشعب الفلسطيني الممتد من السابع من أكتوبر 2023 حتى اللحظة الراهنة، ليُضيف تهديدًا لا يقل خطورة عن التهديدات النمطية التي تتسم به دول إقليم القرن الأفريقي.
كل تلك المفردات كانت سببًا رئيسيًا في تذكية الصراعات الإقليمية وتراجع قدرات مؤسسات الدول الوطنية وخاصةً المؤسسات العسكرية في إعمال شؤونها للتصدي مما أوجد مساحة كبيرة للتدخلات العسكرية الإقليمية والدولية، التي كان لها تأثيرًا سلبيًا في معالجة تلك الصراعات، وكانت سببًا في تراجع مفهوم سيادة الدولة الوطنية.
وفي هذا الإطار جاء مؤتمر القرن الأفريقي “صراعات القرن الأفريقي وتداعياتها على الأمن الإقليمي والمصري” الذي انعقد في السابع والعشرين من يونيو الجاري، ليُجسد حلقة تحليلية متكاملة حيال مظاهر التحديات والتهديات التي تواجه دول ذلك الإقليم وأبعادها المختلفة على مستوي الأمن الإقليمي والمصري.

تحديات متباينة
إن إقليم القرن الإفريقي بات مسرحًا للكثير من القضايا والتحديات المتشابكة والمركبة والتي تنوعت أنماطها وفقًا للآتي:
- صراعات الموارد: أحد الأنماط المترسخة للصراعات داخل القرن الأفريقي؛ وترتبط بالصراعات الأخرى منها الاثنية والسياسية وصراعات الحدود، ولعل النزاع على الموارد الطبيعية مجالاً يتم تغذيته بين الدول وبعضها البعض أو من جانب القوى الخارجية في سبيل تحويل الدول إلى وضع “الدولة الهشه” وخلق زريعة للتواجد بكافة صوره؛ ولعل من بين تلك الصراعات هو ما يتعلق بمصادر المياه نظرًا لندرة الموارد المائية التي تترجم إلى صراعات داخلية في ضوء مسار تسيس واضح لقضايا المياه، ويتصل بهذا الشأن صراعات الحصول على الأراضي من جانب عدة دول إقليمية ودولية لإقامة مشروعات مختلفة وهو ما يكون له تأثيراته الداخلية وبصورة أقرب للواقع تلك النزاعات الخاصة بالحصول على الثروات المعدنية.
ويرتبط بصراع الموارد كذلك صراع النفوذ والسيطرة على السلطة والمرتبط بطبيعة الحال بظهور الجماعات المسلحة اللادولتيه، مثلما يشهده السودان في الآونة الأخيرة وهو ينتج عنه انهيار مؤسسات الدولة ومن ثُم يتطلب حتمية دعم الهياكل المحلية.
- الصراعات الأثنية: تُعد واحدة من القضايا المهمة في القرن الأفريقي، فهي صراعات تشمل كل دول الإقليم؛ حيث أنها صراعات حاضرة داخل تلك الدول ولها أنماط متعددة منها النزاعات والصراعات الإثنية الانفصالية وأخرى صراعات إثنية وجودية، وصراعات إثنية يحضر فيها البعد القومي وكذلك تلك القائمة على أسس عرقية، تلك التعددية أدت إلى تفاقم الصراعات وتعثر تسويتها لوجود أسباب متجذرة يصعب حلها وشديدة التعقيد.
- صراعات الحدود: إن التقسيم الردئ المتعمد وغير المتعمد لحدود الدول الأفريقية أدي إلى كونها مجرد تقسيمات على الأرض ولا تعبر عن الأمة وهو ما فاقم من حدة الصراعات والمطامع في القرن الأفريقي، وارتباطًا بصراعات الموارد والحدود هناك تزاحمًا خارجيًا ومطامع داخلية من جانب دول القرن الإفريقي للسيطرة على الممرات البحرية الاستراتيجية الهامة، في إطار الارتباط الوثيق للمنطقة بطرق الملاحة البحرية والدولية، وبرّزت سياسات داخلية تبرز المطامع للسيطرة على تلك المنافذ مثلما حدث من جانب إثيوبيا ومذكرة التفاهم الأخيرة مع إقليم “أرض الصومال” في إشارة واضحة لتطلع إثيوبيا للوجود على البحر الأحمر عسكريًا وتجاريًا، وهو ما يمثل خرقًا لمبدأ سيادة الدول وسلامتها الإقليمية وبما يؤجج من الصراعات السياسية وأزمات الدول الدبلوماسية، علاوة على ذلك فإن التواجد الدولي لخلق موطأ قدم في القرن الإفريقي سواء العسكري داخل “جيبوتي” والقواعد العسكرية التي تشهدها هذه الدولة وكذلك خطط نقل المعادن الثمينة من تلك المنطقة والموانئ الخاصة بها إلى أقرب الموانئ الآمنة تمهيدًا لدخولها الأسواق الدولية واحدة من بين مواطن تأجج الصراعات المختلفة ويفاقم من التحديات المركبة التي تعاني منها دول هذا الإقليم.
- صراعات الجماعات المسلحة: أحد التهديدات التي تواجهها دول إقليم القرن الإفريقي يكمن في النشاط المتزامن للجماعات المسلحة والمتطرفة التي تسعى لإحداث تأثيرات عابرة للحدود الوطنية لها تأثير على الأمن الإقليمي، وفي مقدمتها جماعة الحوثين في اليمن ونشاط “حركة شباب المجاهدين” الصومالية، إلى جانب تنظيم “داعش” الإرهابي، هذه التعددية واحتمالية التقارب والتلاقي بينهما كما هو الحال بالنسبة للتقارب (الحوثي وحركة الشباب الصومالية) من شأنها أن يكون عاملاً مضاعفًا من الاضطرابات وغياب الاستقرار في كافة دول الإقليم وكذلك في منطقة البحر الأحمر، ويساعد إلى تحويل تلك الحركات لمشروع إقليمي.
جنبًا إلى جنب؛ فإن من بين معضلات القرن الأفريقي هو ظهور الدولة الميليشاوية أو الجماعات المسلحة دون الدولة، والتي كان لها دورها في تأزم المشهد الأمني والسياسي الإقليمي.

الأمن القومي المصري ومعادلات الصراع
يرتبط الأمن القومي المصري بصورة مباشرة بما يدور من صراعات وتهديدات داخل إقليم القرن الإفريقي؛ إذ أنه يُعد ذلك الإقليم من بين دوائر التأثير والتأثر المباشرة لمصر، ومصر ليست فقط دولة فاعلة فيه بل تتأثر بكل ما يشهده من اضطرابات أمنية وأزمات اثنية وحروب أهلية وكذلك تعقيدات سياسية واقتصادية، ولعل أولى تلك التحديات الضاغطة على الأمن القومي المصري هي ظاهرة الإرهاب التي لا تُمثل فقط تكلفة على دول المنشأ ولكنها تلقي بظلالها على معادلة الأمن القومي المصري.
كذلك الحال بالنسبة لهشاشه الدول وعجز مؤسساتها على التصدي للجرائم العابرة للحدود بما يجلعها ذو تكلفه إقليمية؛ فعلى سبيل المثال تؤدي الحروب الأهلية المستندة في الأساس على (صراع السلطة والموارد) في تدفق موجات لجوء وهجرة لدول الجوار؛ حيث تُشير التقارير إلى أن هناك ما يزيد عن 20 مليون مشرد بين (نازح ولاجئ) من دول القرن الأفريقي وشرق أفريقيا؛ ولعل أبرز نموذج وأحدثها هو ما حدث جراء الحرب الطاحنة في السودان وما أنتجته من تدفقات لموجات لجوء غير مسبوقة إلى مصر.
علاوة على أن الاعتداءات التي تشهدها خطوط الملاحية البحرية في البحر الأحمر منذ مطلع العام الجاري (2024) أدت بشكل كبير لعسكرة متزايدة للترتيبات الأمنية في البحر الأحمر وهو ما أدى لمزيد من التدخلات الخارجية وأدي بصورة كبيرة إلى عرقلة خطوط الملاحة التجارية في الممرات ذات المصداقية والثقة العالمية وفي مقدمتها قناة السويس.
ضروريات وآليات عاجلة
تفرض التهديدات المركبّة في إقليم القرن الأفريقي حتمة وضع سياسات وآليات لمعالجتها قائمة بالأساس على اقتراب “Win -Win” لكافة الأطراف وأصحاب المصلحة بما يضمن تصديًا جماعيًا للصراعات والأزمات ويحول دون الانزلاق للهاوية، وفي هذا الشأن يمكن توضيح تلك الآليات في الآتي:
- ضروريات التكامل والتعاون: من الضروري إنشاء منتدي دائم للحوار والتنسيق بين كافة دول القرن الإفريقي لمناقشة التهديدات القائمة والمحتملة ووضع الحلول المناسبة للتصدي لها، وذلك باعتماد آلية للحوار الشامل بين دول الإقليم وكذلك بمشاركة القوى الفاعلة دوليًا في هذا الإقليم.
- تفعيل سياسات الإنذار المبكر: فضلاً عن النقطة السابقة؛ ثم هناك حاجة مُلحة لتفعيل الإنذار المبكر فيما يتعلق بالصراعات المتوقعة حول الموارد وإيلاء قدر من الاهتمام لقواعد البيانات التي توضح العلاقة بين اندلاع الصراعات وقلة الموارد، إضافة لأهمية وضع سياسات من شأنها معالجة الفوارق الاقتصادية عبر تعزيز المشاريع التنموية المختلفة ذات الطابع الإقليمي.
وارتباطًا بذلك فمن الأهمية بمكان تعزيز الاستفادة من منطقة التجارة الحرة القارية وتطوير سياسات
- تفعيل الآليات المؤسساتية: واحدة من بين المتطلبات العاجلة نحو معالجة الأزمات والصراعات التي تعج بإقليم القرن الأفريقي يكمن في تفعيل المؤسسات الإقليمية وفي مقدمتها الاتحاد الإفريقيوتطوير سياساتها الخاصة بإعادة الإعمار والتنمية في مرحلة ما بعد النزاعات وكذلك منظمة الــ “إيجاد” في سبيل التصدي للصراعات بمختلف صورها وأشكالها. وأهمية تفعيل دور تلك المؤسسات بالتعاون مع الأطراف المنخرطة في الصراعات الإقليمية (سواء قوي دولية أو إقليمية) لإعادة التأكيد على حق الدول في سيادتها ورفض نهج الحلول القائمة على سياسة فرض أمر الواقع؛ كما هو الحال بالنسبة لتعاطي إثيوبيا مع قضية أرض الصومال وكذلك في نهجها حيال ملف سد النهضة.
وفي هذا الشأن فإنه من الضروري إيجاد حلول إفريقية للقضايا والنزاعات الخاصة بدول القارة، وفي هذا الشأن فإنه من الأهمية بمكان تفعيل وتعزيز دور مركز الاتحاد الأفريقي لإعادة الإعمار والتنمية ما بعد النزاعات الذي تم تدشينه في القاهرة في سبيل التنسيق لدعم الدول الأفريقية وتحقيق مسارات دعم السلام والتطوير، عبر استراتيجية “التنمية والسلام” للصراعات الإقليمية.
- تدخل دولي نشط وإيجابي: لا يبتعد العامل الخارجي عما يدور داخل القرن الأفريقي من صراعات؛ فربما يكون سببًا لتلك الصراعات أو عاملاً مشاركًا فيها أو أن تلك الصراعات مترتبة عن طبيعة وأدوار العامل الخارجي في ذلك الإقليم، أي أنه قد يكون سببًا ونتيجة للصراعات. وانطلاقًا من أن القرن الإفريقي ليس قضية إقليمية ولكن دولية لارتباطه بقضايا كبرى تهم العالم وعلى رأسها حرية الملاحة والقرصنة والإرهاب وظاهرة اللجوء والهجرة، لذا فمن الأهمية بمكان تدخل القوى الدولية بمشروعات لإحلال السلام والمساهمة في تفكيك الصراعات، سواء المسلحة أو تلك المتعلقة بالموارد الطبيعية كما هو الحال بالنسبة لتوظيف إثيوبيا لورقة المياه “كورقة ضغط” إقليمية وما يؤديه ذلك من زعزعة للاستقرار والأمن الإقليميين ويُنذر باشتعال محتمل لصراع إقليمي، لذا فقد بات من الضروري أهمية عودة الاهتمام الغربي وخاصة الولايات المتحدة والدول الأوروبية بقضايا المياه في القرن الإقليمي، وكذلك قضايا السلام والاستقرار بصفة عامة وتبديل سياسات البحث عن “وكيل أفريقي” إلى سياسات أكثر شمولية تكرس مسارات الاستقرار والتنمية.