بالتزامن مع دخول مبادرة “تركيا من الإرهاب” التي أطلقها رئيس حزب الحركة القومية دولت بهتشلي في أوائل أكتوبر 2024، عامها الثاني، أعلن حزب العمال الكردستاني في 26 أكتوبر 2025 سحب جميع قواته من تركيا إلى معاقلة اللوجستية والعسكرية في المناطق الجبلية العراقية وبالأخص قنديل وزاب ومتينا وهاكورك وغارا وآفاشين-باسيان، داعيًا أنقرة إلى المضي قدمًا في الإجراءات القانونية اللازمة لحماية عملية السلام؛ الأمر الذي اعتبره حزب العدالة والتنمية خطوة إيجابية نحو تحقيق هدف “تركيا خالية من الإرهاب” الذي سيفتح أبواب عصر جديد بالقضاء التام على الإرهاب، فيما أكد بهتشلي أنه سيكون له تداعيات إيجابية ومهمة على المنطقة. وفي هذا السياق، تقيم هذه الورقة منجزات عام على إطلاق عملية الحل الأخيرة، وتقف على أبرز نقاط قوتها وضعفها.
تقدم بطيء
كان التقدم البطيء السمة الرئيسية التي ميزت عملية المصالحة التركية الكردية طوال العام الماضي، غير أن هذا لا ينفي تحقيق أي منجزات، فهناك تقدم محرز لكن بقيت وتيرته أقل من المأمول، وفيما يلي استعراض أبرز ملامح العام الأول للعملية:
• إنجاز عدة خطوات ملموسة: بعدما أطلق بهتشلي دعوته الشهيرة في أكتوبر 2024، اتخذ حزب العمال الكردستاني خطوات جدية؛ حيث أطلق عبد الله أوجلان في 27 فبراير 2025 نداءً تاريخيًا داعيًا الحزب إلى إنهاء الكفاح المسلح وحل نفسه، وبعد أقل من ثلاثة أشهر، أعلن الحزب انتهاء الكفاح المسلح وحل نفسه في مؤتمر عُقد في كردستان العراق، وأعقب ذلك مراسم إحراق حوالي 30 مسلحًا من الحزب أسلحتهم في مدينة السليمانية العراقية يوم 11 يوليو 2025، لتتوج تلك الخطوات بإعلان الحزب خلال مؤتمر صحفي حضره 25 مقاتلًا في قرية قنديل بإقليم كردستان العراق، سحب جميع قواته من تركيا إلى العراق، بما يُظهر أن الحزب وأوجلان يتعاملون مع عملية السلام الجديدة بمنظور وموقف مختلفين تمامًا عن مواقفهم السابقة، ويعتزمان إنجاحها، فهي المرة الأولى التي تتخذ فيها خطوة فعلية بالانسحاب، مقارنة بالعمليات الفاشلة السابقة.
وبينما يُنظر إلى انسحاب الحزب كخطوة متقدمة، فإنها تُثير مخاوف بشأن تداعياتها المحتملة على السيادة العراقية إذا ينطوي نقل جميع مقاتلي حزب العمال الكردستاني إلى الأراضي العراقية على مخاطر واضحة، خاصةً إذا تعثرت عملية السلام أو انهارت؛ حيث يُشكل وجود عناصر الحزب في جبال قنديل تهديدًا أمنيًا وفقًا لتقييمات أنقرة التي تصر على تفكيك البنية العسكرية للحزب بالكامل في تركيا وسوريا والعراق، ومن ثم قد تلجأ إلى تنفيذ عمليات عسكرية ضد عناصر الحزب في شمال العراق، لا سيَّما في ظل احتفاظها بمواقعها العسكرية في شمال العراق، وموافقة البرلمان التركي على تمديد بقاء مهمة القوات التركية في سوريا والعراق لمدة ثلاثة أعوام إضافية اعتبارًا من 30 أكتوبر 2025.
• إنهاء لجنة التضامن الوطني والأخوة والديمقراطية مرحلة الاستماع: أنهت اللجنة البرلمانية المُشكلة للنظر في الجوانب السياسية والقانونية لعملية الحل الجديدة، المعنية بنزع سلاح حزب العمال الكردستاني وتحقيق المصالحة الكردية التركية، جلسات الاستماع المخصصة لكافة فئات المجتمع والمسئولين، بعدما عقدت ست عشرة جلسة كان آخرها في 30 أكتوبر 2025، قدم خلالها ذوو الشهداء والمحاربين القدامى، ورؤساء نقابات المحامين، وخبراء الأمن، ورؤساء البرلمانات السابقون، ومجتمع الأعمال، والنقابات، والأكاديميون، ومنظمات المجتمع المدني النسائية والشبابية، والمنظمات القريبة من حزب العدالة والتنمية، وعدد من كبار المسئولين اقتراحاتهم بشأن هذه العملية إلى اللجنة، وستشرع الأخيرة حاليًا في مرحلة إعداد التقرير النهائي الذي يتضمن توصيات قانونية محتملة لتعزيز السلم الاجتماعي، وهي مرحة فاصلة في مسار العملية كونها ستحدد الخطوات السياسية والقانونية التي سوف تتحرك على أساسها السلطتين التنفيذية والتشريعية خلال المرحلة المقبلة.
• تعثر مسار دمج قوات سوريا الديمقراطية: لا تزال سوريا المعضلة الرئيسية في عملية المصالحة من وجهة النظر التركية؛ حيث يعتقد حزبا العدالة والتنمية والحركة القومية أن قرار إلقاء حزب العمال السلاح ينطبق على قوات سوريا الديمقراطية، مع التأكيد على ضرورة تنفيذ اتفاق 10 مارس 2025 الموقع بين الحكومة السورية وقسد، بينما تجادل الأخيرة بأنها ليست طرفًا في العملية. ومع ذلك، تحت وطأة الضغوط التركية والأمريكية –بإيعاز أنقرة– أعلنت قسد في أكتوبر 2025 عن التوصل إلى اتفاق أولي مع دمشق، غير أنه من الصعب تصور تغيير الوضع الميداني.
فعلى سبيل المثال، أُعلن أن قوات سوريا الديمقراطية ستنضم إلى الجيش السوري بثلاث فرق عسكرية، ستعمل في مناطق انتشارها الحالية؛ الرقة والحسكة وحلب، على أن تُحدد التفاصيل بما في ذلك تعيين قادة الفرق والوحدات ومهامها، وتوزيع القوات وانتشارها وجرد الأعداد، وتحديد أماكن التمركز والتمويل والتسليح في مناقشات فنية. ومع ذلك، وبعيدًا عن التعقيدات التقنية المرتبطة بتلك المفاوضات والتي تدعم فرص تعثرها، فإن هذا لا يعني عمليًا اندماج قسد في جيش سوري موحد يعمل ضمن سلسلة القيادة، فتلك الصيغة لا تعني حل الهيكل العسكري لقوات سوريا الديمقراطية، وإنما انضمامه كفرق متمايزة داخل الجيش السوري؛ مما يعني أنه في حال حدوث أي خلاف بين الطرفين، فإن تلك الفرق ستخضع لأوامر قادتها وليس الضباط الأعلى رتبة في الحكومة المركزية؛ أي أن جيشًا موحدًا موجود نظريًا، إلا أنه عمليًا، تعمل وحدات عسكرية تابعة لمراكز قوة مختلفة باستقلالية تامة، وهذا نمط شائع في البلدان التي تكون فيها السلطة المركزية ضعيفة أو الخارجة من حرب أهلية.
علاوة على ذلك، لا يوجد توافق بين الأطراف حول كيفية تقاسم النفط المستخرج من الحقول الخاضعة حاليًا لسيطرة قوات سوريا الديمقراطية، أو حول نظام الحكم الذي ستتبعه البلاد؛ حيث صرّح مظلوم عبدي بأنهم يريدون نظامًا لا مركزيًا، وأن لديهم اختلافًا في الرأي مع حكومة دمشق حول هذه المسألة.
ومن جهة أخرى، يُشدد أوجلان وقيادة حزب العمال باستمرار على أن الوضع في سوريا خارج نطاق المفاوضات في تركيا، وأن الديناميكيات هناك مختلفة، وأن قرارات الحزب غير مُلزمة لقوات سوريا الديمقراطية. وعلى مدى السنوات الخمس عشرة الماضية، سعى قادة قسد إلى إنشاء مراكز قوة مستقلة وشبكات تنظيمية خاصة بهم. ومن ثم، حتى لو أصدر أوجلان دعوة لإلقاء السلاح، فمن الممكن ألا تُلبي الصفوف العليا والمتوسطة في قوات سوريا الديمقراطية هذه الدعوة. كما أن هناك مشكلة أخرى تتمثل في مطلب تركيا الأساسي بمغادرة كوادر الحزب غير السوريين سوريا، ويُعد تنفيذه صعبًا، إذ قد لا يرغب بعض أعضاء الحزب بمغادرة سوريا.
للمزيد أنظر: الحسابات المعطلة: حدود الفاعلية السياسية لعملية تركيا خالية من الإرهاب
ديناميكيات القوة والضعف
تواجه عمليات المفاوضات بين الحكومات والمجموعات الحاملة للسلاح عدة تحديات تتعلق ببناء الثقة وموقف الأطراف المعوقة للسلام وغيرها، ولا تمثل عملية المصالحة التركية الكردية استثناءً من هذا، وعقب مرور عام على إطلاقها باتت عوامل القوة والضعف أكثر وضوحًا، وهو ما يُمكن توضحيه كالتالي:
عوامل القوة:
• ضعف المعارضة الحزبية والمجتمعية: تدعم غالبية الأحزاب التركية بما فيها المعارضة عملية المصالحة، ولم تُترجم اعتراضات حزبي الجيد والنصر إلى تعبئة حزبية وشعبية واسعة ضد العملية، كما تغيب المعارضات الداخلية في حزبي العدالة والتنمية والحركة القومية؛ إذ أن لأردوغان وبهتشلي سيطرة مطلقة على حزبيهما، ولهما نفوذ على البيروقراطية المدنية والأمنية والقضائية. ومن ثم تتقدم العملية على أرضية مستقرة نسبيًا من حيث النخب السياسية والدعم الشعبي وعدم معارضة البيروقراطية، وهو عامل ضروري بالنظر إلى أن الحسابات السياسية للحكومة في حالة وجود معارضة قوية أو انقسامات شديدة داخل الأحزاب الحاكمة ربما تعيق إحراز تقدم في مسار العملية.
• الانضباط الشديد داخل هيكل حزب العمال الكردستاني: يتسم حزب العمال بانضباطه العالي وهيكله المركزي، كما يحتل موقعًا مهيمنًا بالنسبة للحركة الكردية، ويمتلك عبد الله أوجلان نفوذًا كبيرًا على الحزب؛ الأمر الذي يتيح تطبيق القرارات بمجرد توافق القيادة بشأنها، بينما يؤدي وجود انقسامات فرعية متعددة وفصائل متنافسة داخل المجموعات المسلحة إلى إعاقة عمليات السلام، التي تغذي التنافس الداخلي والصراع بدلًا من معالجته.
عوامل الضعف:
• معضلة الثقة: تنظر الحركة الكردية بريبة إلى مدى التزام حكومة لأنقرة بتعهداتها إزاء منح الأكراد حقوقهم الثقافية والسياسية، وتحديد الموقف من المسلحين الذين سيلقون بأسلحتهم، ومصير السجناء السياسيين الأكراد مثل صلاح الدين دميرطاش، وإمكانية تفعيل “الحق في الأمل” لصالح أوجلان الذي ألمح به بهتشلي عند إطلاق عملية الحل الجديدة عام 2024، فحتى الآن تظل الجوانب السياسية والقانونية غامضة ولم تُتخذ خطوات ملموسة لبناء الثقة.
فعلى سبيل المثال لم تُنفذ أحكام المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان بشأن السياسيين الأكراد مثل صلاح الدين دميرطاش وفيجن يوكسيكداغ وعثمان كافالا وجان أتالاي وطيفون كهرمان وسلجوق مزراكلي وبكير كايا، ولم يعد رؤساء البلديات الذين استبدلوا بأمناء إلى مناصبهم، كما لم يعد الحديث عن “الحق في الأمل” قائمًا، بينما يرى حزب العمال أن حرية أوجلان أحد الشروط الأساسية، بل ربما الشرط الأساسي، للحل، وقد تدخلت الشرطة ضد احتجاج في ولاية ديار بكر للمطالبة بحرية أوجلان، وتضعف تلك المواقف الحكومية عامل الثقة رغم محوريته للمضي قدمًا في عمليات السلام.
• صعوبات بناء احتضان مجتمعي واسع للعملية: رغم غياب المعارضة الاحتجاجية للمصالحة التركية الكردية ووجود اهتمام عام بها، فإنها لا تحظى بإجماع واحتضان مجتمعي، وتبرز فجوة كبيرة بين الدعم والثقة، فبينما يُظهر قطاع واسع تأييدًا لها، فإن نسبة أقل تعتقد أنها ستنتهي بنجاح، فهناك شريحة تركية كبيرة لا تثق في إلقاء حزب العمال للسلاح، وشريحة كردية كبيرة لا تثق في اتخاذ الحكومة خطوات فعلية للاندماج ورد الحقوق، بل إن هناك انطباعًا شعبيًا سائدًا بأنها استثمار انتخابي ولن تقود إلى تحول ديمقراطي.
وفي هذا السياق، تغيب آليات تحقيق التضامن الاجتماعي الواسع مع العملية؛ نظرًا لانحصارها بين صفوف النخبة والاكتفاء –حتى الآن– بجلسات الاستماع الموسعة داخل لجنة التضامن الوطني والأخوة والديمقراطية، بينما يتطلب بناء توافق مجتمعي توظيف آليات للانتقال بالعملية من النخب إلى الشرائح المجتمعية المختلفة، ويشمل ذلك تولي الأحزاب شرح القضية إلى قواعدها الجماهيرية، وهنا تبرز إحدى نقاط الضعف، فأردوغان لا يُطلع الحكومة ولا القيادة المركزية لحزب العدالة والتنمية على سير العملية وتفاصيلها وخلفيتها، كما لا يُجري بهتشلي مناقشات جوهرية بشأنها داخل صفوف حزبه. كذلك، يظل الخطاب السياسي القائم على تعزيز قيم التضامن والأخوة والمساواة والحقوق ويُبرز فوائد السلام لجميع شرائح المجتمع ويشرح التكاليف السياسية والأمنية لفشل العملية ضعيفًا، كما لم تجر تحولات هيكلية تعزز الثقة المتبادلة وتشمل جميع الهويات.
ختامًا، مع انتهاء جلسات الاستماع التي عقدتها لجنة “التضامن الوطني والأخوة والديمقراطية” والإعداد للتقرير النهائي، فإن عملية “تركيا خالية من الإرهاب” مقبلة على مرحلة جديدة تتطلب انتقالًا من الإطار الحواري إلى الإطار التنفيذي والتشريعي، وسيعتمد نجاح هذه المرحلة على قدرة الحكومة التركية على تبني آليات مؤسسية لترسيخ السلام، من خلال توسيع الحقوق السياسية والثقافية للأكراد، وتعزيز اندماجهم المجتمعي، وإصدار تشريعات تنظم أوضاع المقاتلين السابقين ممن تخلوا عن الكفاح المسلح، ومنح العفو للسجناء السياسيين الأكراد، والنظر في توسيع نطاق الحريات الممنوحة لعبد الله أوجلان، بما يسهم في إرساء ثقافة سلام مستدامة وتحقيق احتضان مجتمعي واسع للعملية.






