بعد احتواء التوتر العسكرى الذى ساد لمدة أسبوعين بين طهران وواشنطن، نتيجة حسابات عقلانية وتدخلات من أطراف إقليمية وعربية تدرك جسامة نتائج أى مواجهة عسكرية، يصبح السؤال المركزى مُعلقاً بالخطوة التالية لوضع أسس علاقة جديدة بين الطرفين. تعبير المفاوضات المستخدم حالياً فى تصريحات المسئولين فى الدولتين يقدم الإجابة، ولكنه أيضاً يطرح إشكاليات مهمة حول الأسلوب الذى ستتم به هذه المفاوضات، هل ستكون مباشرة أم عبر وسطاء، وهل سيشارك فيها الأوروبيون أم لا، وهل ستكون بهدف اتفاق جديد تماماً أم تعديل لاتفاق 2015، وهل تتطلب إجراءات مسبقة لبناء الثقة من الطرفين معاً أو من أحدهما، وما هى أجندة تلك المفاوضات إن اتُفق عليها؟ كل هذه الأسئلة ضرورية وبحاجة إلى إجابات واضحة قبل أن يواجه المفاوضون بعضهم بعضاً.
نلاحظ فى تطورات الأحداث خليطاً بين طرح مبدأ المفاوضات فى حد ذاته، وبين وضع شروط مسبقة أو التشكيك فى جدواها ومن ثم لا ضرورة لها، وبين إعادة طرح الموقف بطريقة مرنة تتحمل تفسيرات وتأويلات عديدة. ومع كل هذا الخلط يظل التفاوض خياراً مهماً من الصعب تجاهله. فى الأخبار المقبلة من اليابان، وعلى عهدة صحيفة «ماينيشى شيمبون» اليابانية واسعة الصيت يوم الأحد الماضى، تقرير يؤكد أن رئيس الوزراء شينزو آبى سيقوم قريباً بزيارة دولة إلى إيران ويلتقى المرشد الأعلى خامنئى وسيطرح معه وساطة يابانية مع الولايات المتحدة. مثل هذه التقارير فى الصحافة اليابانية لا تتحدث عن افتراضات أو أمنيات، بل عن أمور يتم بحثها بكل جدية وبكل عمق. الأمر لم يأتِ صدفة أو وليد فكرة عابرة، فقبل عشرة أيام كان الرئيس ترامب فى زيارة دولة لليابان، وفى أحد مؤتمراته الصحفية أكد أن نية بلاده تجاه طهران لا تتضمن إسقاط النظام، وأن إيران يمكنها أن تكون بلداً رائعاً إن سلكت سلوكاً طبيعياً كأى أمة أخرى، وأن ما تفعله إدارته تجاه إيران هدفه الوحيد ألا تنتج قنبلة نووية. وهى مواقف قيلت فى تغريدات وتصريحات متناثرة من قبل، ولكن فى الحالة اليابانية كان الشرح متعدد الأبعاد مع تأكيد الاستعداد للتفاوض فوراً.
الرد الإيرانى على هذا الموقف جاء متعدد الأبعاد والزوايا، ونتيجة لتعدد مراكز القوى فى الداخل الإيرانى، ولكل منها موقف وسياسة تجاه الولايات المتحدة، اختلطت المواقف الرافضة لمبدأ المفاوضات مع تهديدات، وإن بدرجة أقل كثيراً عن ذى قبل، بالقدرة على استهداف القطع العسكرية الأمريكية فى الخليج، فضلاً عن طرح المفاوضات كبديل ولكن بشروط. وتبدو هنا تصريحات المرشد الأعلى بعد أقل من أسبوع من تصريحات ترامب فى طوكيو هى الأكثر وضوحاً للسياسة الإيرانية لإنهاء التوتر مع الولايات المتحدة. وفيها وضع المرشد حدوداً واضحة بين أمرين مهمين؛ أولهما صنع قنبلة نووية، وهو أمر مرفوض شرعاً، ولا يتم التفكير فيه لأن إنتاج قنابل نووية وعدم استعمالها يعنى تكلفة بدون عائد، والأفضل هو الامتناع التام عن صنعها. بعبارة أخرى أن هذا قرار إيرانى وليس وليد الضغوط الخارجية، والتباحث حوله لن يضر إيران. الأمر المهم الثانى ما يتعلق بالقدرات العسكرية الإيرانية، التى تطالب الولايات المتحدة بالحد منها، وأن تكون مجالاً لأى مفاوضات مقبلة، وما أكد عليه المرشد أن هذه القدرات دفاعية وتتعلق بشرف الأمة وبالتالى فهى ليست قابلة للتفاوض مع أحد.
التفرقة بين هذين الأمرين توحى منطقياً بأن من الممكن أن تكون هناك مباحثات ثم مفاوضات تتعلق بعدم صنع إيران أسلحة نووية، وهو ما يتوافق مع السياسة الإيرانية المُعلنة من قبل، أما القدرات العسكرية، بما فيها الصواريخ الباليستية، فهى ليست محل نقاش. ويمكن القول هنا أن المرشد الإيرانى وضع بصورة غير مباشرة أجندة مفاوضات مع الولايات المتحدة، تضم قضايا وتستبعد أخرى. ولكن تظل عملية المفاوضات نفسها بحاجة إلى توضيحات أكبر، وهو ما تكفل به الرئيس روحانى ورئيس لجنة الأمن القومى بالبرلمان الإيرانى، حشمة الله فلاحت، وكلاهما تحدّث عن رفض المفاوضات فى ظل العقوبات وفى ظل خروج الولايات المتحدة من الاتفاق النووى الموقع فى 2015. وعملاً بنظرية المسكوت عنه، فمثل هذه التصريحات تقول إن إيران مستعدة للمفاوضات، بشرطين، أن تلتزم واشنطن بالاتفاق النووى فى وضعه الراهن، وأن ترفع عقوباتها. وكلا الشرطين متعذر عملياً، وساسة إيران، سواء الإصلاحيون أو المتشددون، يدركون ذلك جيداً، وفى ظنى أن طرح هذه الشروط قبل زيارة رئيس الوزراء اليابانى تستهدف تحديد سقف معين للوساطة اليابانية حال حدوثها، فالمفاوضات مقبولة مبدئياً ومشروطة فى الآن ذاته.
هذه الشروط الإيرانية وصلت بالفعل للولايات المتحدة، وهنا تبرز مناورة وزير الخارجية الأمريكية بومبيو بعد مباحثات مع نظيره السويسرى قبل يومين، حيث أشار إلى استعداد بلاده للتفاوض مع إيران بدون شروط مسبقة، مستطرداً أن بلاده ستظل تواجه التهديدات الإيرانية فى المنطقة. وللوهلة الأولى يبدو هذا الموقف جديداً تماماً، فالمعروف أن واشنطن لديها 12 مطلباً يجب على إيران الوفاء بها قبل رفع العقوبات الأمريكية، وليس واضحاً تماماً هل تخلت واشنطن عن هذه المطالب أم أنها ستظل محاور رئيسية فى أى مفاوضات مقبلة. وما ترجحه تصريحات بومبيو حول عرض المفاوضات بدون شروط هو ممارسة ضغوط سياسية ومعنوية على إيران وبيان أنها ليست مستعدة للمفاوضات لإنهاء أزمتها، وبالتالى تتحمل حكومتها مسئولية تردى الأوضاع المعيشية، وإخلاء مسئولية العقوبات الأمريكية عن الأوضاع الإيرانية المتدهورة.
وفى سياق المسكوت عنه أيضاً ما أشار إليه الرئيس روحانى بأنه فى حال عدم تغيير الولايات المتحدة سلوكها تجاه بلاده، فليس أمام الإيرانيين سوى الصمود، أى تحمل تأثير العقوبات والعمل على التخفيف منها بأى شكل كان، كتهريب النفط مثلاً، والضغط على الدول الأوروبية لكى تستمر فى التعامل التجارى مع بلاده رغماً عن العقوبات الأمريكية المحتملة على الكيانات الأوروبية التى ستقبل ذلك، وكلا الأمرين له حدود معينة يصعب تجاوزها وبما يجعل الصمود الإيرانى بهذا الشكل غير فعال. وكان المرشد خامنئى قد أشار إلى استراتيجية مواجهة قوامها ممارسة ضغوط غير عسكرية على الولايات المتحدة، من خلال تحركات سياسية ودبلوماسية، وهو أمر تقوم به الحكومة الإيرانية بالفعل ولم يؤد إلى تغييرات كبرى فى الوضع الإيرانى، ما يجعل مخرج المفاوضات وقبول الوساطات الدولية بديلاً عملياً يتطلب تهيئة الرأى العام الداخلى لقبوله حال حدوثه.
*نقلا عن صحيفة “الوطن”، نشر بتاريخ ٥ يونيو ٢٠١٩.