فى الخطاب الذى ألقاه حسن نصر الله، أمين عام حزب الله اللبنانى، بعد يوم واحد من قيام إسرائيل بانتهاك سيادة لبنان بواسطة طائرتين مُسيرتيْن؛ إحداهما للاستطلاع والثانية حملت متفجرات واستهدفت، حسب المعلومات المتداولة، أحد العناصر القيادية لحزب الله فى ضاحية بيروت الجنوبية، المعقل الرئيسى للحزب، أشار نصر الله إلى معلومتين جديرتين بالتأمل؛ الأولى أنه فى حالة تكرار إسرائيل لمثل هذا الانتهاك لسيادة لبنان فإن رد الحزب سيكون فى داخل لبنان وليس فى مزارع شبعا، وفى سياق الحديث يُفهم أن الحزب كان يتغاضى فى السابق عن طلعات الاستطلاع بطائرات إسرائيلية مُسيرة، ولكنه لن يفعل ذلك لاحقاً وسيقوم بإسقاط هذه الطائرات وفقاً لما لديه من إمكانيات، المعلومة الثانية هى تأكيده على أن الطائرة التى تم إسقاطها والمخصصة للاستطلاع أسُقطت بواسطة الشباب الذين ألقوا عليها حجارة، فتم أسرها، وهى الآن لدى أجهزة الحزب لتحليل ما فيها من معلومات. وأهمية هذه المعلومة أنها تؤكد عدم مسئولية الحزب مباشرة عن إسقاط الطائرة الإسرائيلية المسيرة، وأن الأمر جاء مصادفة حسب قول نصر الله ذاته، والمعلومتان معاً تعنيان أن إسقاط أى طائرة إسرائيلية تنتهك سيادة لبنان لاحقاً سيكون بيد الحزب وقواته وما لديه من إمكانيات أياً كانت الاعتراضات الداخلية، وهو موقف جديد يسعى من خلاله نصر الله إلى تأكيد أن الصيغة التى اعتمدتها إسرائيل فى ضرب مواقع للحشد الشعبى العراقى، بطائرات مسيرة كانت مجهولة لفترة قريبة إلى أن أعلن نتنياهو مسئولية إسرائيل عنها، لن تمر فى لبنان.
استخدام الطائرات بدون طيار، التى تعرف بالدرون، أو الطائرات المُسيرة عن بعد، ليس جديداً فى الحروب، وفى حقيقتها فهى طائرات مبرمجة مسبقاً للقيام بجولة معينة فى نطاق محدد سلفاً، ويقوم بتوجيهها لاسلكياً أحد الطيارين فى قاعدة أو مقر مجهز، وحين تزداد المسافة للطائرة المسيرة تتم عملية توجيهها عبر الأقمار الصناعية فى الفضاء، وهو ما لا يقدر عليه سوى القوى الكبرى التى تملك منظومة أقمار صناعية ذات استخدامات عسكرية. وقد استخدمها الأمريكيون فى حربهم ضد القاعدة فى أفغانستان وتحديداً بداية من منتصف العام 2002 للبحث عن مكان اختباء بن لادن زعيم القاعدة، وقيل وقتها إنها أقل كلفة من البحث بواسطة طائرات الاستطلاع العادية التى يقودها طيارون، والتى يصل سعرها إلى أكثر من 120 مليون دولار، فى حين أن أغلى الطائرات المسيرة فى حدود 10 ملايين دولار فقط، وفى حال سقوطها فلن يصاحبها سقوط طيارين بشريين، فضلاً عن قدرتها على الوصول إلى أماكن خطرة وارتفاعات عالية.
وطوال العقد والنصف المنصرم تطورت أجيال تلك الطائرات، وصار هناك العديد من أحجامها وقدراتها الفنية، وتتسابق العديد من الدول على صناعتها بقدراتها الذاتية كالصين والهند وإيران وإسرائيل وتركيا، ودول غربية عديدة، وتنقسم إجمالاً إلى نوعيْن رئيسييْن؛ الأول يقوم بمهام الاستطلاع ويعتمد على كاميرات رقمية ذات كفاءة عالية، والثانى نوع هجومى يحمل متفجرات أو صواريخ موجهة إلى أهداف معينة، على مسافات بعيدة أو قريبة حسب قدرة الطائرة على الطيران، وأحياناً تعمل الطائرة كصاروخ موجه إلى موقع محددة إحداثياته، حيث تنفجر محدثة الدمار المطلوب.
فى نشرات الأخبار الراهنة هناك خبر شبه يومى حول طائرة مُسيرة أحدثت خراباً فى موقع عسكرى أو مدنى، أو أن الجهات المُستهدفة استطاعت إسقاط تلك الطائرة فى الجو قبل أن تصل إلى أهدافها المحددة من قبل المهاجمين. يجرى الأمر بصورة متكررة فى اليمن، حيث يطلق الحوثيون طائرات مسيرة أو صواريخ باليستية إيرانية الصنع على أهداف فى الداخل السعودى، وعلى أهداف فى المناطق الواقعة تحت سيطرة الحكومة اليمنية الشرعية، كما حدث فى استهداف قاعدة العند بالقرب من العاصمة المؤقتة عدن، وترتب على ذلك سقوط عدد كبير من القادة العسكريين والجنود، وفى الخليج يتكرر بين الحين والآخر خبر يتعلق بسقوط طائرة استطلاع مُسيرة حديثة أمريكية بواسطة إيران، فى حين تنفيه القيادة الأمريكية، كما نشرت إيران فيلماً قامت إحدى طائراتها المسيرة بالتقاطه لقطع البحرية الأمريكية التى تجوب الخليج بالقرب من المياه الإقليمية الإيرانية، فى رسالة ذات مغزى، وكذلك يفعل الأمريكيون حين ينشرون ما يفيد بأن طائراتهم المسيرة تجمع المعلومات فى طول الخليج وعرضه لحماية حرية الملاحة فيه ولمتابعة أنشطة البحرية الإيرانية والحرس الثورى الإيرانى. وفى ليبيا تمكن الجيش الوطنى الليبى من استهداف العديد من الطائرات المُسيرة تركية الصنع التى يوجهها خبراء أتراك لصالح القوى والجماعات المسلحة التابعة لحكومة الوفاق، من مقار مجهزة فى مطار معيتيقة القريب من طرابلس.
وفى الأماكن الحدودية التى تشهد توتراً بين الجيران تقوم تلك النوعية من الطائرات بمراقبة حركة الطرف الآخر العسكرية منعاً لحدوث مفاجآت غير مرغوبة، وحالة الحدود الباكستانية الأفغانية وأيضاً الحدود الباكستانية الهندية، تشير التقارير إلى حركة كثيفة لمثل هذه النوعية من عمليات الاستطلاع والمراقبة بالطائرات المُسيرة. وحزب الله اللبنانى نفسه استطاع تسيير طائرتين فى مناسبتين مختلفتين داخل الأراضى الفلسطينية المحتلة، وتمكن من استعادتهما سالمتين، ما كشف عن ضعف أنظمة الرصد وأنظمة الصواريخ المضادة للصواريخ عن منع حركة هذه النوعية من الأجسام الطائرة، لا سيما إن كانت صغيرة الحجم وتطير على ارتفاعات منخفضة. وفى عدة مرات استهدفت طائرات مُسيرة صغيرة أطلقتها جماعات إرهابية مسلحة قاعدة حميميم الروسية فى سوريا، وأحدثت بعض الإصابات المادية. وهناك العديد من الأمثلة التى تجسد تغيراً كيفياً فى إدارة الأزمات الدولية والإقليمية لا سيما حين تقترب من نقطة الانفجار والمواجهات العسكرية.
ما تجسده حالة الطائرات المُسيرة فى الاستخدامات العسكرية أو شبه العسكرية يؤدى إلى طرح إشكاليات عديدة على كل الدول، خاصة أن بعض نماذج الطائرات المُسيرة بسيط للغاية ولكنه يُحدث أثراً ويؤدى وظيفة بدون أن يمكن رصدها أو السيطرة عليها أو إسقاطها، وفى الشبكة الدولية للمعلومات تنتشر مواقع عديدة تشرح تصميم طائرة مسيرة وتسييرها بأقل الإمكانيات، ما يفتح الباب أمام الجماعات الخارجة على الدولة والقانون لاكتساب مهارات تُحدث الكثير من الأذى والخراب بتكلفة زهيدة، ما يعنى أن التطور التكنولوجى فى الحروب يسير فى اتجاهين متضادين، أحدهما يصب لصالح القوى القانونية، والآخر يفيد القوى المتمردة على القانون، ولذا اتجهت كثير من الدول، من بينها مصر، إلى حظر كافة أشكال الطائرات المسيرة، وحصر استخداماتها بيد المؤسسات الشرعية فقط.
*نقلا عن صحيفة “الوطن”، نشر بتاريخ ٢٨ أغسطس ٢٠١٩.