اجتمع رئيس الوزراء خلال ديسمبر الماضي بعدد من اللاعبين الرئيسيين في مناخ الاستثمار المحلي في مصر وذلك لمناقشة التحديات التي واجهت ولا تزال تواجه الاقتصاد المصري استجابة للتوترات الجيوسياسية الإقليمية والعالمية، مع استكشاف سبل التعامل مع هذه الأزمات بحلول عملية تراعي وضع الاقتصاد المصري الراهن من جهة، وتوفر حلولًا لمشكلات قد تدفع الاقتصاد المصري إلى مراحل منتظرة من النمو.
ضمن الملفات التي تناولها اللقاء، أسعار الفائدة الرئيسية المرتفعة التي تشكل تحديًا كبيرًا أمام المستثمرين وأصحاب الأعمال الذين قد يحجمون عن الاقتراض تفاديًا للأعباء المالية الإضافية؛ مما يؤثر سلبًا في التشغيل وإتاحة فرص عمل جديدة؛ مما ينعكس في النهاية في صورة نمو اقتصادي ضعيف.
سياسة التشديد النقدي.. رحلة الأعوام الثلاثة
بدأ البنك المركزي سياسة التشديد النقدي منذ مارس 2022 (أي ما يقارب ثلاثة أعوام) وذلك في محاولة لكبح التضخم المحلي الذي تأثر كثيرًا بالموجة التضخمية العالمية كاستجابة لاضطراب سلاسل الإمداد عالميًا، وتعرض العديد من السلع، خاصة الأساسية، للنقص، فضلًا عن نقص المعروض من الدولار في السوق المحلي نتيجة تطبيق سياسة التشديد النقدي من قبل الفيدرالي الأمريكي وجميع البنوك المركزية العالمية، التي جعلت من الاستثمار في السندات الأمريكية وغيرها جاذبًا للأموال الساخنة في مصر (الاستثمار في أدوات الدين قصيرة الأجل). ونتج عن ذلك هروب حوالي 22 مليار دولار من هذه الأموال في 2022، فضلًا عن تأثر الاحتياطي النقدي بذلك بشدة.
منذ بدء رحلة التشديد النقدي، التي بدأها البنك المركزي المصري بالأساس قبل حسم اتفاق التسهيل الائتماني الممتد بقيمة أولية 3 مليارات دولار، والذي أقره الصندوق في ديسمبر 2022، حرك المركزي أسعار الفائدة الأساسية بإجمالي 19٪ (1900 نقطة أساس)، ليرتفع سعر العائد على الإيداع والإقراض لليلة واحدة من مستوى 9.25٪ و10.25٪ على الترتيب إلى مستوى 27.25٪ و28.25٪ على الترتيب. ووفقًا لهذه السياسة، وضع المركزي مستهدفًا للتضخم تم تعديله مرتين منذ مارس 2022 في ظل استمرار الموجة التضخمية مع احتدام تبعات التوترات الجيوسياسية الإقليمية والعالمية وتأثيرها في الاقتصادات النامية والناشئة ومنها مصر.
في آخر اجتماعات لجنة السياسة النقدية بالبنك المركزي تم تثبيت أسعار الفائدة عند المستويات المذكورة سلفًا، وذلك للمرة السادسة خلال العام 2024 بعد تحريك أسعار الفائدة بإجمالي 8٪ (800 نقطة أساس). وفي بيانه، أشار المركزي إلى تراجع معدلات التضخم في مصر في نوفمبر 2024 -وفقًا لآخر القراءات المعلنة من قبل الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء- إلى 25.5٪، بينما ارتفعت الأسعار المحددة إداريًا للسلع غير الغذائية، بما في ذلك منتجات الوقود والنقل البري ومنتجات التبغ، بما يتسق مع استراتيجية زيادة الإيرادات للحد من العجز المالي. وعليه، انخفض المعدل السنوي للتضخم الأساسي إلى 23.7٪ في نوفمبر 2024 مقابل 24.4٪ في أكتوبر 2024. وهنا، أكد المركزي أن هذه المستويات، مع تحسن توقعات التضخم وعودة معدلات التضخم الشهرية إلى نمطها المعتاد، تشير إلى أن التضخم سوف يواصل مساره النزولي.
تجدر الإشارة هنا إلى أن آخر تقديرات صندوق النقد الدولي لمعدلات التضخم في مصر تشير إلى انحسار التضخم في مصر لمستوى 16٪ بنهاية السنة المالية الحالية 2024/2025 التي تنتهي بنهاية يونيو 2024. وقد عزا كل من صندوق النقد الدولي والبنك الدولي تراجع التضخم في مصر إلى الإجراءات التصحيحية التي اتخذها البنك المركزي في مارس 2024، والتي تضمنت رفع أسعار الفائدة الأساسية بنسبة 6٪ (600 نقطة أساس) مع تطبيق الموجة الرابعة من التسعير العادل للعملة المحلية أمام سلة العملات الرئيسية.
ظلت مستويات التضخم مرتفعة وبعيدة عن مستهدفات البنك المركزي التي كانت مقدرة عند 7٪ (±2٪) في الربع الرابع من العام الماضي و5٪ (±2٪) في الربع الرابع من 2026. وعليه، اتخذ البنك المركزي خطوة إضافية في إطار سياسة التشديد النقدي بتعديل سياسة قبول العطاءات المفتوحة؛ حيث عدل المركزي أسلوب قبول العطاءات الخاصة بالعملية الرئيسية من أسلوب التخصيص إلى أسلوب قبول جميع العطاءات المقدمة، وهو ما أسهم في تحجيم السيولة المحلية لاحتواء التضخم.
ومع استمرار معدلات التضخم المرتفعة، عدل المركزي في اجتماعه الأخير الأمد الزمني للوصول لمستهدفات التضخم لتصبح عند المستويات ذاتها ولكن في الربع الرابع من 2026، والربع الرابع من 2028 على التوالي، وذلك لإتاحة مجال لاستيعاب صدمات الأسعار دون الحاجة للمزيد من التشديد النقدي، وبالتالي تجنب حدوث تباطؤ حاد في النشاط الاقتصادي.
وأرجع المركزي عدم الوصول لمستهدفات التضخم في الأجل المحدد لعدد من الأسباب التي تتضمن تراكم الاختلالات الخارجية نتيجة ارتفاع الأسعار العالمية للمواد الغذائية خلال عام 2021، والتضخم المستورد، وتخارج استثمارات حافظة الأوراق المالية عقب اندلاع الصراع الروسي الأوكراني، فضلًا عن صدمات العرض المحلية وعدم ترسيخ توقعات التضخم، بالإضافة إلى إجراءات ضبط أوضاع المالية العامة بهدف التشديد المالي ووضع الدين على مسار نزولي. وفقًا للمركزي، فقد أدت هذه التطورات مع تحركات سعر الصرف إلى تخطي التضخم معدله المستهدف، إذ بلغ المعدل السنوي للتضخم العام ذروته عند 38٪ في سبتمبر 2023 قبل انخفاضه إلى 25.5٪ في نوفمبر 2024.
ما تم اقتراحه في الاجتماع
كان المطلب الأساسي الذي طرحه مجموعة من رجال الأعمال خلال الاجتماع هو إعادة النظر في معدلات الفائدة المرتفعة، خاصة مع استمرار المركزي في سياسة التشديد النقدي، مع توفير تمويل منخفض التكاليف للقطاع الخاص، خاصة مع انعكاس هذه الأسعار على سعر المنتج النهائي للمستهلك، والذي لا يتماشى مع انخفاض قدرته الشرائية بشكل ملحوظ خلال العامين الماضيين على وجه التحديد.
مقترحات
من المطلوب في الوقت الراهن تبني سياسات تستهدف استدامة تدفق الموارد الدولارية للبلاد، سواء من خلال التخارج من بعض الأصول لصالح القطاع الخاص وفقًا للإطار الموضوع بسياسة ملكية الدولة، أو من خلال إبرام صفقات استثمار أجنبي مباشر على غرار اتفاق تنمية منطقة رأس الحكمة، والتي تشكل صفقة رابحة للدولة والمستثمر وتعود على موارد الدولة، خاصة الدولارية، وتدعم توجه الدولة نحو مسار دين نزولي؛ مما يخفف الضغط على العملة وبالتالي يعزز سيولتها في السوق المحلية.
من الضروري أيضًا زيادة الاحتياطي الإلزامي للبنوك كإحدى وسائل ضبط أداء السيولة في السوق المحلية. يمثل الاحتياطي الإلزامي نسبة من الودائع بالعملة المحلية تلتزم البنوك بإيداعها لدى البنك المركزي بدون مقابل كإجراء احترازي لاستخدامها في حال واجهت سحبًا مفاجئًا لودائع العملاء، وهو ما قد يعرضها لخطر الإفلاس. رفع البنك المركزي في سبتمبر 2022 نسبة الاحتياطي الإلزامي من الودائع على البنوك إلى 18٪، وذلك للمرة الأولى منذ أكتوبر 2017 حينما رفع المركزي نسبته من 10٪ إلى 14٪. قد يؤثر ذلك سلبًا في مناخ الاستثمار لأنه يقيّد النشاط الائتماني للبنوك، لكنه سيسرع من جهود وضع التضخم على مسار نزولي مستدام على المدى القصير.
يمكن أيضًا انتهاج سياسة توجيه التوقعات، وهي سياسة متبعة في العديد من البنوك المركزية ومنها الفيدرالي الأمريكي. تقوم هذه السياسة على قيام المركزي بتحديد نواياه المستقبلية بشأن أسعار الفائدة بمعنى الإعلان مثلًا عن عدم زيادة أسعار الفائدة لمدة معينة؛ مما يشجع على الإنفاق والاستثمار في آن واحد؛ لأن ذلك يساعد على وضع خطط بأسقف زمنية واضحة؛ مما ينعكس على نمو النشاط الاقتصادي لشعور المستهلك والمستثمر في آن واحد بالثقة في خططهم في الاقتراض والإنفاق. تقلل هذه السياسة من انعدام اليقين وتوجيه سلوك المستهلك والمستثمر وتعزز الاستقرار الاقتصادي.
برامج شراء ومن اللازم في الوقت الراهن تقليل حجم برامج شراء الأصول من قبل البنوك أو التوقف عنها؛ مما يؤدي إلى تقليل السيولة في النظام المالي. هذا يمكن أن يساعد في تشديد السياسة النقدية دون رفع أسعار الفائدة. وهنا تجدر الإشارة إلى عدم جدوى المقترح الذي تم مناقشته خلال الاجتماع بإسناد أصول للبنك المركزي؛ لأن ذلك لا يمكن أن يخدم أهداف المرحلة الراهنة التي تتطلب التركيز على تحقيق نمو اقتصادي مستدام، وانحسار التضخم، وتوجيه الإنفاق والادخار، وهو ما يصب في النهاية في تحقيق استقرار مالي واقتصادي.