شكّلت الصناعة مُرتَكَزًا أساسيًّا للنمو الاقتصادي خلال العصر الحديث، لعموم دول العالم النامي منها والمُتقدم، ولذلك تبذُل الدول جهودًا حثيثة لحماية صناعاتها الوطنية من ناحية، فتفرض الرسوم الجُمركية، وتُنشئ وتُعزز من أجهزتها لمُكافحة الإغراق، وتُقدم لها الدعم في شتى أشكاله، سواء كمعونات مُجردة أو كدعم لمنتجاتها عند التصدير. وتعمل من ناحية أخرى على تطوير صناعاتها، بحيث تحتفظ أولًا بمكانتها في السوق المحلية ثم تحل مُنتجاتها محل الواردات، وأخيرًا تُصنع بهدف التصدير. لكن الدول في سعيها إلى هذا تواجه مُنافسة شرسة من نظيراتها الخارجية، لذلك تتبنى الدول استراتيجيات طويلة الأمد لتعزيز قوة صناعاتها الوطنية. ينطبق هذا على بلد صناعي متطور مثل ألمانيا، كما يسري على بلد نامٍ مثل مصر. وفي هذا الإطار، أطلقت مصر في عام 2016 استراتيجيتها لتعزيز التنمية الصناعية والتجارة الخارجية للفترة (2016-2020). كما أطلقت جمهورية ألمانيا الاتحادية استراتيجية الصناعة الوطنية لعام 2030 في عام 2019.
ويهدف هذا المقال إلى مُقارنة الجوانب الأساسية في الاستراتيجيتين المصرية والألمانية، بغرض توضيح الفارق في أولويات السياسة الصناعية لبلد نامٍ وآخر متقدم، وللتأكيد على أنه مهما كان مستوى التقدم فإن امتلاك سياسة صناعية يُعد أمرًا أساسيًّا.
أولًا: الأهداف الاستراتيجية
وضعت الاستراتيجية المصرية ستة أهداف تعمل على تحقيقها بحلول عام 2020، من بينها أربعة مؤشرات يأتي على رأسها زيادة مُعدل النمو الصناعي إلى 8%، حيث كان القطاع بالكامل قد حقق متوسط نمو حقيقي في الفترة من 2007/2008 وحتى 2015/2016 بلغ 3.1%، وهي نسبة نمو مُتواضعة في ظل حجم السوق المصري وتنوع القطاع ذاته، بالإضافة إلى عدد المُنشآت الصناعية العاملة في السوق، وهو ما يُعزز إمكانية الوصول إلى المُعدل المُستهدف. وبالإضافة إلى رفع مُعدّل النمو الصناعي، هناك ثلاثة مؤشرات أخرى، أوّلها هو نسبة مُساهمة القطاع في الناتج المحلي الإجمالي، والذي استهدفت الاستراتيجية رفعه إلى 21% من مستواه الحالي عند 8%، أما ثانيها فكان فرص العمل التي يوفرها القطاع والتي توقعت الاستراتيجية بلوغها ثلاثة ملايين فرصة عمل، وثالثها هو مُعدل نمو الصادرات المُستهدف وصوله إلى 10% سنويًّا، حيث تُشكل المؤشرات الأربعة معًا مقياسا مُتكاملًا لصحة القطاع، إذ يقيس الأول سرعة النمو الذاتي للقطاع، ويُقارن الثاني سُرعة نموه بالنسبة لباقي القطاعات، ويوضح الثالث مُساهمته في الاقتصاد الكُلي، بينما يقيس الأخير مدى قُدرة مُنتجاته على المنافسة الخارجية.
أما الهدفان الباقيان فقد وردا بغير مؤشرات قياسية، وكان أولهما زيادة مُساهمة القطاع الخاص وقطاع المشروعات الصغيرة والمتوسطة والمُتناهية الصغر في الناتج المحلي الإجمالي دون تحديد نسبة مُعينة، سواء للقطاع الخاص الصناعي من الناتج المحلي الإجمالي أو المشروعات الصغيرة والمتوسطة منه، على الرغم مما يُشكله الاثنان من أهمية بالغة للاقتصاد، خاصة في ضوء انحسار الاستثمارات الأجنبية المُباشرة في مصر والعالم، وارتفاع مُعدلات الزيادة السُّكانية، وبالتالي تضاؤل مُعدلات خلق فرص العمل الجديدة في ظل تزايد الوافدين الجُدد على السوق، مما يتسبب في رفع مُعدلات البطالة. وعلى ذات النهج جاء الهدف الأخير ليتمثل في تحسين الأداء المؤسسي، والذي يُشير إلى تحسين البيئة الاقتصادية والبنية التشريعية التي يعمل فيها القطاع ككل.
وعلى العكس مما سبق، جاءت الاستراتيجية الألمانية بهدف واحد هو التعاون مع الشركاء المحليين لتأمين واستعادة الكفاءة الاقتصادية والتكنولوجية والقدرة التنافسية والقيادة الصناعية على المستوى الوطني والأوروبي والعالمي في جميع المجالات ذات الصلة. وحددت لذلك مقياسًا وحيدًا هو توسيع الحصة التي يُشارك بها قطاع الصناعة في الناتج المحلي الإجمالي إلى 25% في ألمانيا و20% في الاتحاد الأوروبي بحلول عام 2030، واعتبرت الاستراتيجية ذلك هدفًا حيويًّا لتأمين المكانة الاقتصادية الألمانية على المستوى الدولي عبر تعزيز وضع الاقتصاد الكُلي وخلق وظائف جديدة للمواطنين.
ويتضح من أهداف الاستراتيجيتين الفرق في الوضع العام للقطاعين في كُلٍّ من مصر وألمانيا، إذ تحاول الاستراتيجية المصرية انتشال قطاع الصناعة المصري من وضعه الراهن، لذلك وضعت مجموعة متكاملة من المؤشرات السابق الإشارة إليها بحيث تتتبع في جميع النواحي، أما الاستراتيجية الألمانية فقد اكتفت بتتبع مُساهمته في الناتج المحلي الإجمالي كدليل ومؤشر على قوته.
ثانيًا: التحديات القائمة
تنظر الاستراتيجية الألمانية إلى الوضع الحالي للقطاع الصناعي على أنه ليس مُسلمًا به، بل يواجه تحديات جمة يجب التغلب عليها لتأكيد استمرار ريادة القطاع في صناعات مثل الحديد والنحاس والألومنيوم، والصناعات الكيماوية، وصناعات الهندسة الميكانيكية، والسيارات، والصناعات البصرية، والأسلحة، والطيران، والطباعة ثلاثية الأبعاد. ومن بين ما أوردته الاستراتيجية من تحديات ما يلي:
1- انخفاض القيمة النسبية للتقدم التكنولوجي الألماني في مواجهة تدني مُستويات الأجور في الدول النامية، وذلك بسبب اعتماد هذه الأخيرة استراتيجيات شاملة لتطوير الخبرة التكنولوجية عن طريق البدء في مشاريع مُشتركة والتوسع في عمليات الاستحواذ على الشركات الأوروبية، مما أدى إلى ارتفاع الضغوط التنافسية على الصناعة الألمانية في مجالات لم تكن موجودة فيها من قبل، وإن كانت الزيادة البطيئة في الأجور وارتفاع تكاليف المعيشة تُقلل من هذا التحدي.
2- أن فقدان القدرة التكنولوجية في بعض الصناعات أدى إلى ضياع فُرص استثمارية كُبرى على الاقتصاد الألماني. فالتخلي مثلًا عن صناعة الإلكترونيات الترفيهية مثل التليفزيون في مُنتصف السبعينيات لدول مثل اليابان وكوريا، أفقد قطاع الصناعة الألماني القدرة على المُنافسة في سوق الهاتف المحمول الذكي والحواسب المكتبية واللوحية.
3- تركز صناعات الألياف الكربونية الحديثة بالكامل تقريبًا خارج ألمانيا.
4- التحديات المُتعددة التي تُواجه صناعة السيارات الألمانية والتي تُعتبر منطقة ريادة للاقتصاد الألماني، تُهدد بفقدان فرص استثمارية كبرى في المُستقبل، وتُنذر بالتحول إلى تابع بعد أن كانت قائدة في هذه الصناعة، حيث تقوم شركات غير ألمانية في الوقت الحاضر بتطوير تكنولوجيا مُحركات جديدة، وسيارات كهربية، بالإضافة إلى تحقيق هذه الشركات طفرات واسعة في خصائص القيادة الألية ومفاهيم جديدة تمامًا في وسائل المواصلات.
5- تَرَكُّز الشركات الرائدة في مجال المنصات الإلكترونية خارج ألمانيا وبخاصة في الولايات المُتحدة والصين.
6- تراجع الاستثمارات الألمانية في مجال الذكاء الاصطناعي، بسبب القصور في تسويق نتائج البحوث الحالية في هذا المجال.
7- تنامي الفجوة بين شركات الإنترنت الرائدة في العالم ونظيرتها الألمانية، إذ لا تستثمر أي شركة ألمانية في هذا المجال بقدر ما تستثمر كل واحدة من الشركات الكبرى في مجال المنصات الإلكترونية، والبرمجيات، والأجهزة المحمولة في الولايات المتحدة.
8- تنامي فرص عدم لحاق أوروبا ككل بالتطورات في مجال التكنولوجيا الحيوية “biotechnology”.
أما بخصوص الاستراتيجية المصرية، فقد أوردت مجموعة من النقاط التي تُعتبر تحديات وفي الوقت ذاته فرصًا أمام نمو القطاع الصناعي المصري، وهي:
1- الزيادة السُكانية المُرتقبة، حيث قد يصل عدد السُكان في عام 2020 إلى 102 مليون نسمة.
2- الزيادة في الطلب على الوظائف وزيادة الطلب المحلي على كُل القطاعات الأساسية كقطاع البناء والتشييد وصناعة الملابس الجاهزة، وصناعات المُنتجات الغذائية الرئيسية كالقمح والذرة.
3- الزيادة غير المُباشرة في احتياجات البنية التحتية، والتي يتم الاستعداد لها حاليًّا من خلال مشروعات بنية أساسية كُبرى للدولة، إذ تتطلب تلك المشروعات استجابة سريعة من قبل القطاعات الصناعية المغذية لقطاعات التشييد والبناء والبنية الأساسية، مثل صناعات الإسمنت والحديد.
4- عدم الاستعداد لما يُجَهَّز له حاليًّا من مشروعات زراعية ضخمة، وهو ما سيتطلب استعدادًا صناعيًّا سريعًا في الآلات والمُعدات والأسمدة.
5- توفير الطاقة اللازمة للاستهلاك الصناعي، حيث إن ازدياد عمليات التصنيع سيؤدي إلى استهلاك مُرتفع منها، مما يستدعي العمل على تنمية قطاعات توليد الطاقة الكهربية.
ثالثًا: السياسات العامة لتحقيق الأهداف والتغلب على التحديات
تبنّت الاستراتيجية المصرية سياسات مُستقاة من التجارب المصرية السابقة، بالإضافة إلى التجارب الدولية الناجحة في دول ذات ظروف اقتصادية مُشابهة ومماثلة لمصر، بهدف خلق فرص عمل مُرتفعة القيمة، وزيادة الاستثمارات المحلية والأجنبية في القطاع الصناعي غير التقليدي، وتحقيق تحول هيكلي للاقتصاد المصري من اقتصاد تقليدي إلى اقتصاد صناعي متطور، بهدف التصنيع للتصدير والتصنيع للإحلال محل الواردات، وذلك من خلال جانبين رئيسيين: الجانب الصناعي من خلال تبني برامج لتعميق الصناعة المحلية التي تهدف إلى تحقيق التكامل بين سلاسل التوريد المحلي، وتسمح بالاندماج في سلاسل التوريد العالمية، من خلال تطبيق حزمة مُتكاملة وشاملة من التدابير التي تعمل على تشجيع الأنشطة الإنتاجية الصناعية، خاصة في القطاعات ذات الأولوية الواعدة التي تعتمد على المعرفة والتكنولوجيا. أما على الجانب التجاري، فإنه سيجري استخدام أدوات السياسة التجارية بما يتوافق مع مُستهدفات التنمية الصناعية، من خلال حماية وتشجيع الصناعات الوليدة، والإحلال محل الواردات ومُستهدفات تنمية الصادرات المصرية، والتوجه نحو الأسواق الواعدة مع تعظيم الاستفادة من اتفاقيات التجارة الحرة، سواء الثنائية أو الإقليمية أو الدولية.
ومن جانب آخر، تمّ التوجه نحو تقديم الدعم المشروط، بحيث يتم ربط الحوافز الممنوحة بأداء قطاعات بعينها ومدى مُساهمتها في تحقيق مُستهدفات التنمية الاقتصادية والاجتماعية والبيئية والمكانية، مع الأخذ في الاعتبار مُعالجة الآثار السلبية التي قد تنتج عن الحوافز الانتقائية، بحيث يتم التركيز على الصناعات الهندسية والكيماوية والغزل والنسيج ومواد البناء بغرض تعميق الصناعة وترشيد الواردات وزيادة الصادرات، في حين يُعتمد على صناعات التدوير، والتعبئة والتغليف، والصناعات البلاستيكية والتعدينية والزراعية، وصناعات الطاقة الجديدة والمُتجددة والصناعات المُغذية لصناعة الأثاث والجلود لترشيد الواردات.
أما الاستراتيجية الألمانية فقد تبنّت سياسات لتحقيق الأهداف عبر تعزيز السيادة الصناعية، بحيث تجعل من الاقتصاد الألماني قادرًا على تحمّل المنافسة العالمية في جميع المجالات الرئيسية أيضًا في المستقبل، خاصةً فيما يتعلق بالتكنولوجيات الرئيسية والابتكارات الرائدة، من بين أهمها:
1- تخليق وإعادة إنتاج سلاسل قيمة مُضافة خاصة بالاقتصاد الألماني، حيث إنه إذا كانت جميع أجزاء سلسلة القيمة المضافة موجودة في منطقة اقتصادية، بدءًا من إنتاج المواد الأساسية، والتجهيز، وحتى التوزيع، والخدمات، والبحث والتطوير؛ فإن ذلك يُعزز من الربحية من جانب، ويُعزز مُقاومة الصناعة ذاتها في مواجهة المُنافسة الخارجية، من جانب آخر.
2- تعزيز مواطن القوة الحالية في قطاع الصناعة الألماني، وفي الوقت ذاته اللحاق بالتطورات التي يبدو الآخرون فيها أقوى، حيث أظهرت تجربة السبعينيات أن فقدان القدرة على المُنافسة في أي وقت يجعل من الصعوبة بمكان استعادة الريادة لاحقًا. وفي الوقت الذي تأتي فيه تطبيقات الذكاء الاصطناعي كأعظم ابتكار رائد حتى الآن منذ اختراع المحرك البخاري لأنها تتدخل في جميع المجالات الاقتصادية والصناعية والخدمية، والخدمات اللوجستية والنقل، والعمل، والحياة الخاصة والاجتماعية؛ فإنه يجب العمل على تطبيقات تشمل الذكاء الاصطناعي، والقيادة الذاتية والتشخيص الطبي الآلي والتي لا تزال ألمانيا فيها في وضع جيد في مجال البحث لكنها متأخرة بشكل واضح في التطبيق العملي، لذلك بات من الضروري من وجهة صانع القرار الألماني ضرورة العمل دون تمييز بين الصناعات “القديمة والملوثة للبيئة” وبين الصناعات الجديدة النظيفة.
3- تعزيز الشركات الصناعية الصغيرة والمتوسطة، حيث إن العديد منها قد غزت بالفعل أجزاء من السوق العالمية بتطبيقاتها ومُنتجاتها المُتخصصة للغاية، بسبب ما لديها من خبرة تكنولوجية هائلة ذات قدرة تنافسية عالية.
مما سبق يتضح اختلاف الاستراتيجيتين المصرية والألمانية فيما تبنته كل منهما من أهداف، فبينما تهدف الأولى إلى تنمية قطاع يواجه صعوبات شديدة، فقد هدفت الثانية إلى الحفاظ على الوضع الرائد للقطاع، ومُحاولة تطويره بحيث يواكب التغيرات التكنولوجية العالمية. كذلك اختلفت التحديات التي تواجه كلا القطاعين، فبينما يواجه القطاع الصناعي المصري تحديات تُهدد وجوده في الأساس، يواجه القطاع الألماني تحديات تُهدد ريادته وسيطرته على بعض أهم القطاعات ومنها صناعات السيارات، لذلك جاءت السياسات التي تبنتها الاستراتيجيتان مُختلفة، حيث استهدفت الاستراتيجية المصرية حماية هذا القطاع الضعيف وتقديم الدعم له، بينما استهدفت الاستراتيجية الألمانية رفع تنافسيته في المجالات المُتراجع فيها وتعزيز سيطرته على مجالات ريادته.