فى كلمة الرئيس عبدالفتاح السيسى أمام القمة الأفريقية، التى عُقدت مطلع الأسبوع الحالى فى أديس أبابا، دعوة إلى عقد قمة أفريقية فى القاهرة، لبحث مكافحة الإرهاب فى القارة، عبر تشكيل قوة أفريقية خاصة لهذا الغرض. الدعوة تعكس الإدراك المصرى بأن الأفارقة جديرون بأن تكون لهم آلية خاصة بهم، لوضع حد لهذه الآفة الكبرى، التى تقضى على آمال الاستقرار والتنمية فى الكثير من الدول الأفريقية، والتى لا تتوافر لديها موارد مناسبة، مادياً وبشرياً، لإنهاء هذا الخطر العابر للحدود والمجتمعات، والمتنامى جغرافياً وتنظيمياً.
الدعوة المصرية الأخيرة تكرار لدعوة ومحاولة سابقة فى عام 2015، لكنها لم تجد الاستجابة المطلوبة، ومع مرور أربعة أعوام عليها تفاقمت فيها الجماعات الإرهابية، يصبح من الضرورى والُملّح أن تأخذ الدول الأفريقية خطوة عملية من خلال تبنّى الدعوة لبحث الأمر بجدية أكبر وبحرص أعلى، إذ لم يعد الانتظار محموداً، كما لم يَعُد الاعتماد على مساهمات القوى الكبرى، كالولايات المتّحدة وروسيا وفرنسا، كافياً، لاسيما أن لكل من هذه القوى مشروعاتها السياسية وطموحاتها الاستراتيجية التى تتناقض فى كثير من الأحيان مع طموحات ومصالح أبناء القارة الأفريقية.
الدعوة المصرية أيضاً تُعد تطبيقاً عملياً للاتجاه المتصاعد فى أفريقيا منذ سنوات قليلة بأن تكون القارة مسئولة عن حلول مشكلاتها، وأن تعتمد على نفسها ومواردها الجماعية فى مواجهة الأخطار المتزايدة. لقد عانت القارة كثيراً من تدخلات الآخرين وسعيهم الدائم لبناء بؤر للنفوذ فى مواقع أفريقية مختلفة تصب فى تحقيق مصالحهم بالدرجة الأولى، بغض النظر عن تحقيق مصالح شعوب القارة ذاتها. وفى كلمات عدد من قادة أفريقيا نلمح هذا التوجه المرحب بدور أفريقى مباشر فى كل ما يهم القارة وشعوبها، لاسيما كلمة فاكى محمد رئيس مفوضية الاتحاد الأفريقى، الذى أكد أهمية أن تشارك أفريقيا من خلال مؤسساتها الإقليمية فى حل الأزمات فى ليبيا ونزاع الصحراء والكاميرون والسودان وجنوب السودان والصومال وأفريقيا الوسطى، وأن يكون لها دور مباشر فى تلك الجهود التى تبذلها الأمم المتحدة، كما هو الحال فى ليبيا، التى لم تفلح حتى اللحظة فى تحويل بعض التفاهمات التى توصل إليها مؤتمر برلين إلى واقع ملموس على الأرض، وجاء التدخّل التركى البغيض وإرسال المرتزقة والإرهابيين ليضع الجميع أمام مسئولياتهم، وهنا تبرز الحاجة المُلحة إلى أن تقف أفريقيا وقفة رجل واحد ليس لإدانة المغامرة التركية وحسب، بل واتخاذ إجراءات فورية عملية لإنهاء وجود المرتزقة الأتراك والسوريين والإرهابيين على الأرض الليبية، وتطهير القارة من شرورهم وعبثيتهم.
المناداة بدور أفريقى ملموس ومباشر فى الأزمة الليبية، لاسيما بعد التحولات التى جرت على أرضها فى الأسابيع القليلة الماضية والتدخّل التركى المباشر، يمثل توجّهاً محموداً لا يقل أهمية عن الدعوة المصرية، لتشكيل قوة أفريقية لمكافحة الإرهاب بجميع أشكاله، بل إن كليهما متكاملان، فوجود قوة أفريقية حال تشكيلها وتحديد مهامها وحصولها على شرعية أفريقية لا جدل حولها، لن تسمح بمثل هذا العبث التركى على الأرض الليبية، ولن تقبل من أى جهة ليبية أو غير ليبية أن تستقدم مثل هؤلاء الإرهابيين لتحقيق مصالح لفصيل سياسى مكروه، ولا شرعية له بين أبناء شعبه، جعل ليبيا بؤرة لتصدير الإرهاب لمن حولها.
وما يجب تأمّله أن الطرح المصرى لا يأتى من فراغ، كما أن الرؤية المصرية لتشكيل قوة أفريقية لمواجهة الإرهاب ليست أحادية الجانب، فهى جزء من كل ما يتضمّن ربطاً بين التنمية وتدعيم آليات الاستقرار فى المجتمعات المُبتلاة بالإرهاب، وحل المشكلات بالوسائل السياسية وبواسطة أبناء المشكلة وأطرافها، ومنع التدخّلات الخارجية ذات النكهة الاستعمارية، والتنسيق بين الجهود الأممية والتحرّكات الأفريقية. وهذا الكل يشتبك مع بعضه بعضاً، فالأمن والاستقرار والتنمية والحلول السياسية مزيج واحد، ووصفة لا غنى لبعد منها عن الأبعاد الأخرى.
هذا الطرح الشامل الذى أكدته القيادة السياسية أمام القادة الأفارقة، وفى مناسبات دولية مختلفة، يضع فى واقع الأمر أعباء كبرى على الدبلوماسية المصرية فى المرحلة المقبلة، فمصر رغم تمريرها رئاسة منظمة الوحدة الأفريقية لجنوب أفريقيا ستظل عضواً فى الترويكا التى تتابع الشأن الأفريقى لمدة عام آخر، وهى فرصة للتأكيد مراراً وتكراراً على أهمية عقد القمة الأفريقية فى القاهرة، لتشكيل قوة لمكافحة الإرهاب، وللتعامل المباشر والفورى مع المواقف، التى قد تتسم بالتردّد أو الاكتفاء بالتعاون مع مهام دولية ذات طابع خاص، مثل عملية «برخان» الفرنسية منذ 2003، ذات المهمة المحدّدة بمكافحة التنظيمات الإرهابية فى دول الساحل والصحراء. وهى المهمة التى تجد اعتراضات شعبية فى الدول الخمس المعنية وهى مالى وتشاد والنيجر وبوركينا فاسو وموريتانيا، حيث تخرج مظاهرات بين الحين والآخر فى إحدى هذه الدول تندّد بالمهمة الفرنسية وتعتبرها استمراراً لمظاهر حقبة الاستعمار التى عفا عليها الزمن، مما يقيّد قدرة المهمة الفرنسية على تحقيق أهدافها، أو على الأقل ينظر إليها كمهمة بلا رصيد شعبى. ورغم زيادة عدد القوات الفرنسية بمائتين وخمسين جندياً فرنسياً، وفقاً لما اتفق عليه فى القمة التى عُقدت بين الرئيس ماكرون وقادة الدول الخمس فى فرنسا منتصف يناير الماضى، ستظل عملية «برخان» محدودة الفائدة وغير قادرة على مواجهة تمدّد المنظمات الإرهابية والعنيفة فى تلك الدول.
إن احتضان أفريقيا قوة خاصة بها لمكافحة الإرهاب يمثل بديلاً فعالاً، لاسيما أن الولايات المتحدة التى لديها قوة خاصة تعمل فى نطاق القارة الأفريقية لا يزيد عددها على سبعة آلاف جندى، وتركز على مناطق محدودة، أبرزها الصومال، تُعد الآن محل مراجعة فى البيت الأبيض وقيادة «ترامب»، الذى يرنو إلى التخفّف من أعباء تلك المهمة تدريجياً من خلال تخفيض عدد الجنود وإنهائها فى مدى زمنى قد لا يزيد على ثلاث أو أربع سنوات. ورغم محدودية أداء هذه القوة الأمريكية، فإن غيابها عن الساحات التى تعمل فيها، سيؤدى حتماً إلى حالة فراغ أمنى سيصب فى مصلحة المجموعات الإرهابية والعنيفة، وحينئذ قد تتساقط مواقع أفريقية أخرى فى أيدى تلك الجماعات الإرهابية، مما يرفع مخاطر عدم الاستقرار فى عموم أفريقيا. ومثل هذا المشهد ليس ببعيد، كما أن منعه ومحاصرته ليست مهمة صعبة، إنها فى أيدى القادة الأفارقة، الذين عليهم التحرك بجدية وحرص لتشكيل قوة أفريقية يُعتمد عليها لحماية أفريقيا والأفريقيين، وإشاعة الاستقرار والأمن فى بلدانهم جميعاً.
*نقلا عن صحيفة “الوطن” نشر بتاريخ ١٢ فبراير ٢٠٢٠.