في ظل ما يواجه الاقتصاد المصري من أزمة اقتصادية ترتبط بمحدودية توفر النقد الأجنبي ووجود سوق موازية للعملة الأجنبية، والتي انعكست آثارها على ارتفاع المستوى العام للأسعار وتراجع مستوى معيشة الأفراد، أصدر البنك المركز المصري بيانًا صحفيًا عن أداء ميزان المدفوعات خلال التسعة أشهر الأولى من السنة المالية 2022/2023، والتي أظهرت تحقيق فائض كلي يقترب من 282 مليون دولار أمريكي مقابل عجز بنحو 7.3 مليارات دولار أمريكي خلال الفترة المقابلة من العام السابق. فكيف تحقق ذلك الفائض؟ وما هي الانعكاسات المتوقعة على الاقتصاد المصري؟
تطور أداء ميزان المدفوعات
يعكس ميزان المدفوعات ملخص معاملات الاقتصاد المصري مع العالم الخارجي، ويتم تسجيل المعاملات المختلفة وفقًا لحركة النقد الأجنبي الداخل إلى والخارج من البلاد خلال فترة زمنية معينة، ووفقًا لذلك المعيار، المعروف باسم المعيار النقدي، فإن فائض ميزان المدفوعات يكون نتيجة ارتفاع تدفق النقد الأجنبي الداخل للبلاد عن النقد الأجنبي الخارج من البلاد بصرف النظر عن طبيعة المعاملات التي تم بمقتضاها دخول أو خروج النقد الأجنبي. ويتكون ميزان المدفوعات من حسابين رئيسين، هما: حساب المعاملات الجارية، والحساب المالي والرأسمالي.
ويتكون حساب المعاملات الجارية من الميزان التجاري الذي يرصد حركة الصادرات والواردات السلعية من السلع البترولية وغير البترولية، بجانب ميزان الخدمات الذي يرصد مدفوعات ومتحصلات الخدمات مثل النقل والسياحة، وأخيرًا ميزان دخل الاستثمار والتحويلات.
أما الحساب الرأسمالي والمالي فيتكون من الحساب الرأسمالي بجانب الحساب المالي الذي يشمل صافي الاستثمار المباشر وغير المباشر والاستثمارات الأخرى، بالإضافة إلى صافي الاقتراض.
وفي المجمل، يُلاحظ أن حساب المعاملات الجارية غالبًا ما يسجل عجزًا، في حين يسجل حساب المعاملات المالية والرأسمالية فائضًا. وينتج فائض أو عجز ميزان المدفوعات الكلي بمقارنة العجز المتحقق في الحساب الجاري مع فائض الحساب الرأسمالي والمالي.
وبمقارنة الفترة يوليو/مارس 2022/2023 بالفترة ذاتها من العام المالي السابق يلاحظ تسجيل حساب المعاملات الجارية لعجز في كلا الفترتين، إلا أنه تراجع خلال التسعة أشهر الأولى من العام المالي 2022/2023. أما بالنسبة للحساب الرأسمالي والمالي فقد سجل فائضًا خلال فترتي المقارنة مع تراجع الفائض المحقق خلال الفترة يوليو/مارس 2022/2023. وقد أسفرت مجمل تلك المعاملات -مع الأخذ في الاعتبار صافي السهو والخطأ- عن تحقيق فائض كلي بميزان المدفوعات بلغ 281.9 مليون دولار خلال الفترة يوليو/مارس 2022/2023 مقابل عجز كلي بنحو 7.27 مليارات دولار خلال فترة المقارنة.
شكل (1): تطور وضع ميزان المدفوعات خلال الفترة يوليو/مارس 2021/2022 بالفترة يوليو/مارس 2022/2023 (بالمليون دولار)
تحسن عجز حساب المعاملات الجارية
بمتابعة المكونات الأربعة الرئيسية لحساب المعاملات الجارية، يلاحظ أولًا: تراجع عجز الميزان التجاري بنحو 10 مليارات دولار خلال فترتي المقارنة، وقد تحقق ذلك على الرغم من تراجع فائض الميزان التجاري البترولي، إلا أن تحسن عجز الميزان التجاري غير البترولي قد عوّض ذلك.
وبمقارنة أوضاع الميزان التجاري يتبين انخفاض مدفوعات الواردات السلعية غير البترولية بدرجة أكبر من انخفاض حصيلة الصادرات السلعية غير البترولية بالنسبة للميزان التجاري غير البترولي، وانخفاض الصادرات البترولية مع ارتفاع الواردات البترولية، الأمر الذي أدى لتراجع فائض الميزان التجاري البترولي. ويلاحظ أن تراجع الواردات غير البترولية جاء نتيجة تعدد التحديات المرتبطة بالاستيراد وتوفر العملة الأجنبية، ومن أبرز السلع التي تراجعت وارداتها سيارات الركوب وقطع غيار وأجزاء السيارات والجرارات والتلفزيونات، وقد ترتب على ذلك ارتفاع أسعار تلك السلع بالسوق المحلية بدرجة كبيرة، الأمر الذي يبرز أهمية توطين صناعة السيارات والأجهزة الكهربائية في مصر.
وعند الحديث عن الميزان التجاري يُشار دائمًا إلى أن الواردات المصرية لا تشكل تحديًا كبيرًا حتى وإن ارتفعت قيمتها نسبيًا؛ إذ إنها تتكون بشكل أساسي من سلع وسيطة ومواد أولية، بالإضافة لعدد من السلع الاستراتيجية. وفي مقابل ذلك يلاحظ تواضع قيمة الصادرات وارتفاع مرونتها السعرية، وبالفعل فقد شهدت الفترة محل الدراسة تراجع حصيلة الصادرات السلعية البترولية وغير البترولية مقارنة بالفترة المماثلة من العام السابق، الأمر الذي يتطلب ضرورة العمل على زيادة الصادرات المصرية وتحسين جودتها لتعزيز تنافسيتها في الأسواق الدولية.
أما بالنسبة للمكون الثاني في حساب المعاملات الجارية وهو ميزان الخدمات، فيلاحظ ارتفاع الفائض المحقق بنحو 6.6 ملايين دولار، والذي تم إرجاعه إلى ارتفاع الإيرادات السياحية بمعدل 25.7% وارتفاع متحصلات النقل بمعدل 41.4% الناتج عن ارتفاع إيرادات رسوم المرور في قناة السويس.
ولعل من أبرز العوامل التي ساعدت على ارتفاع الإيرادات السياحة في مصر تراجع قيمة العملة المحلية، الأمر الذي يجعلها مقصدًا سياحيًا أرخص نسبيًا، فضلًا عن موجات الشتاء القارص في أوروبا في ظل تحديات سوق الطاقة في ظل الصراع الدائر بين روسيا وأوكرانيا. وتسعى وزارة السياحة إلى جذب 30 مليون سائح إلى البلاد بحلول عام 2028 وهو رقم ليس بعيد المنال؛ إذ شهدت التسعة أشهر الأولى من العام المالي 2022/2023 ما يقرب من 10 ملايين سائح، وبتنفيذ الاستراتيجية الوطنية للسياحة، والعمل على تحسين وتنويع الخدمات السياحية لزيادة حجم الإنفاق السياحي، مع تطوير أنواع السياحة المختلفة المتاحة في مصر، مثل سياحة المغامرات والسياحة الريفية، يمكن تضاعف حجم الإيرادات السياحية.
وثالثًا، يأتي ميزان دخل الاستثمار، الذي سجل عجزًا خلال الفترة يوليو/مارس 2022/2023 بمعدل أكبر من الفترة المناظرة العام السابق بنحو 20%، نتيجة ارتفاع الفوائد المدفوعة عن الدين الخارجي، وارتفاع الأرباح المحققة من الاستثمار الأجنبي المباشر في مصر بدرجة أكبر من ارتفاع متحصلات دخل الاستثمار والمتحققة من ارتفاع الفوائد المحصلة من الخارج على ودائع المقيمين.
وأخيرًا، يلاحظ تراجع التحويلات الذي يرجع بشكل أساسي إلى انخفاض تحويلات المصريين العاملين بالخارج بمعدل 26.1%، أو بمعنى أدق يمكن القول بتراجع تلك التحويلات الواردة عبر السوق الرسمية نتيجة ارتفاع فرق سعر الصرف بين السوق الرسمية والسوق الموازية، الأمر الذي أدى إلى استحواذ السوق غير الرسمية على الجزء الأكبر من تلك التحويلات للاستفادة من فرق العملة، ومع تأثير ذلك بشكل مباشر على نتائج حساب المعاملات الجارية، إلا أن تداول تلك التحويلات عبر السوق غير الرسمية يدفع بمزيد من التراجع في قيمة العملة المحلية ومزيد من التصاعد في معدلات التضخم. ولذلك تم إطلاق عدد من المبادرات لاجتذاب تلك التحويلات عبر الجهاز المصرفي من بينها مبادرة تيسير استيراد سيارات المصرين بالخارج، وإعفاء الذهب بحوزة المصريين القادمين من الخارج من الضريبة الجمركية والرسوم الأخرى بخلاف ضريبة القيمة المضافة، فضلًا عن طرح شهادات دولارية بعائد تنافسي للمصريين والأجانب.
شكل (2): تطور وضع حساب المعاملات الجارية خلال الفترة يوليو/مارس 2021/2022 بالفترة يوليو/ مارس 2022/2023 (بالمليون دولار)
أداء الحساب الرأسمالي والمالي
حقق الحساب الرأسمالي والمالي فائضًا بلغ 8.1 مليارات دولار خلال الفترة يوليو-مارس 2022/2023 بالمقارنة بفائض 10.8 مليارات دولار خلال الفترة المناظرة من العام السابق، وقد جاء تراجع الفائض نتيجة تراجع التزامات البنك المركزي (صافي التدفق للداخل) بنحو 13.4 مليار دولار، وكذلك تراجع الأصول الأجنبية للبنوك من 3.6 مليارات دولار خلال يوليو/مارس 2021/2022 إلى 793.2 مليون دولار خلال يوليو-مارس 2022/2023، بالإضافة إلى تراجع صافي التدفق للخارج في الاستثمارات بمحفظة الأوراق المالية في مصر ليقتصر على نحو 3.4 مليارات دولار مقابل 17.2 مليار دولار .
وفي مقابل ذلك، فقد ارتفع صافي التدفق للداخل للاستثمار الأجنبي المباشر في مصر من 7.3 مليارات دولار إلى 7.9 مليارات دولار خلال فترتي المقارنة، والذي يرجع بصفة أساسية إلى ارتفاع الاستثمارات الأجنبية المباشرة في قطاع البترول، إذ وصلت إلى 4.2 مليارات دولار مقابل 3.8 مليارات دولار بما عوض تراجع الاستثمارات الأجنبية المباشرة الواردة للقطاعات غير البترولية.
وعلى الرغم من تحقيق فائض كلي بميزان المدفوعات خلال الفترة يوليو-مارس 2022/2023، إلا أنه ينطوي على عدد من التحديات الهيكلية بالاقتصاد المصري التي تطلبت ضرورة العمل على مواجهتها، من بينها: ارتباط ارتفاع أسعار السلع المحلية بتحديات وقيود الاستيراد، ومن ثم فإن تصاعد معدل التضخم -على الرغم من كونه أحد المتغيرات الرئيسية للسياسة النقدية- لا تقتصر مواجهته على تحريك أسعار الفائدة وإنما يتطلب تطوير هيكل الإنتاج في مصر لتوفير مستلزمات الإنتاج محليًا، وخلق فائض من السلع النهائية يوجه نحو التصدير مع زيادة المكون التكنولوجي وتعميق المكون المحلي للصادرات. ولعل من أبرز التحديات التي يستوجب على السلطات النقدية مواجهتها بشكل عاجل هو احتواء السوق غير الرسمية؛ إذ إنها تؤثر على فاعلية الجهود المبذولة لجذب النقد الأجنبي للبلاد.
ومن جهة أخرى، هناك ضرورة لتعزيز مكانة قطاع السياحة والعمل على استدامه الإيرادات السياحية، وزيادة الخدمات السياحية وتنويعها لزيادة الإنفاق السياحي، مع التركيز على جذب السائح العربي الذي يعد الأكثر إنفاقًا، مع ضرورة الترويج لكافة أنواع السياحة التي يمكن تنشيطها في مصر، مثل: سياحة المغامرات، والسياحة العلاجية، والدينية، والريفية.. وغيرها.
وكذلك، فإنه على الرغم من ارتفاع الاستثمار الأجنبي المباشر في مصر خلال فترتي المقارنة، إلا أنه ما زال رقمًا متواضعًا بدرجة كبيرة، ويستحوذ قطاع البترول على الجانب الأكبر منه، وتتمثل خطورة ذلك في ارتباط قطاع الطاقة بصفة عامة بالدورة الاقتصادية للاقتصاد العالمي، فضلًا عن ارتباط أسعار الطاقة بتقلبات العملات الرئيسية، الأمر الذي يؤثر على استقرار تلك الاستثمارات الواردة، مما يستوجب ضرورة تحفيز وجذب الاستثمارات الأجنبية للقطاعات الإنتاجية المختلفة ذات الأولوية للاقتصاد المصري.