وجه الرئيس عبد الفتاح السيسي بتيسيرات جديدة لتحفيز الاقتصاد المصري، ممثلة في استثناء مستلزمات الإنتاج والمواد الخام من نظام الاعتمادات المستندية، والعودة إلى نظام مستندات التحصيل. وذلك بعد أن قرر البنك المركزي المصري وقف التعامل بمستندات التحصيل في تنفيذ جميع العمليات الاستيرادية، والعمل فقط بالاعتمادات المستندية، بدءًا من مارس 2022. وكان لكلا القرارين أهدافه ودلالته وتداعياته على الاقتصاد المصري بجوانبه المختلفة.
الفروق الأساسية بين نظام مستندات التحصيل والاعتمادات المستندية
يعتمد نظام مستندات التحصيل بالأساس على العلاقة بين المصدر والمستورد، وتلعب فيه البنوك دور الوسيط فقط دون التعهد بالدفع، وتتم عملية الدفع وفقًا لاتفاق طرفي المعاملة. وعلى الرغم من أنه يتسم بالبساطة والسرعة وانخفاض التكلفة، ويساعد على توسيع حجم أعمال كل من المُستورد والمُصدر، ويسمح للمستورد بإرجاع المنتج في حالة التلف وعدم المطابقة؛ إلا أنه لا يضمن التحقق من دقة وثائق عملية الاستيراد، ومن ثم ترتفع نسبة المخاطر لطرفي المعاملة نتيجة تلاعب الطرف الآخر، بما يؤدي إلى زيادة النزاعات التجارية المحتملة في الخارج، كما أنه يتيح الفرصة للاستيراد العشوائي دون النظر لاحتياجات الدولة من السلع المستوردة وأولويتها، ويفتح نافذة لغسيل الأموال وتهريب الأموال وتمويل الإرهاب.
أما نظام الاعتمادات المستندية فيعتمد على تعهد البنك المُصدِّر للاعتماد بالدفع عند وصول الشحنة واستلامها بما يمثل ضمانًا للمورد بالحصول على أمواله، ويؤدي ذلك إلى تجنب النزاعات التجارية بالخارج. ويتميز بتوفير كافة المعلومات للمستورد قبل وصول الشحنة، من حيث الضريبة المفروضة وموعد وصول الشحنة بالتحديد، ويضمن للمستورد الحصول على شحنته بمواصفاتها المتفق عليها، كما يساعد على توفر السلع بالأسواق بقيمتها الحقيقية. ويستهدف نظام الاعتمادات المستندية تنظيم وضبط سوق الاستيراد، كما أنه يعد طريقة عمل آمنة مقبولة ومعترف بها من قبل 175 دولة، ومن ثم فإنه يؤدي إلى توسيع نشاط الشركات من خلال إتاحة العمل مع كافة الشركات في جميع أنحاء العالم. ومن جهة أخرى، ففي ظل تطبيق نظام الاعتمادات المستندية تتحمل البنوك وليس المستورد مخاطر عدم السداد، مما يدفعها إلى طلب تغطية نسبة من قيمة الشحنة من المستوردين، مما يستلزم ضرورة توفر سيولة عالية لسداد قيمة الشحنة مسبقًا.
قرار البنك المركزي بإلغاء مستندات التحصيل
أصدر البنك المصري قرارًا بوقف التعامل بمستندات التحصيل في تنفيذ كافة العمليات الاستيرادية، والعمل بالاعتمادات المستندية فقط بدءًا من شهر مارس 2022. وقد جاء ذلك القرار في إطار توجيهات مجلس الوزراء بشأن حوكمة عملية الاستيراد، وتفعيل منظومة التسجيل المسبق للشحنات، وهو نظام جمركي يعتمد على إتاحة بيانات ومستندات الشحنة قبل الشحن بمدة 48 ساعة على الأقل لتتمكن الجهات المعنية من رصد أي خطر على البلاد من خلال نظام إدارة المخاطر لحماية أمن المواطنين والبلاد.
وقد تضمن قرار البنك المركزي الخاص بإلغاء مستندات التحصيل على بعض الاستثناء البضائع السابق شحنها قبل صدور هذا القرار، وفروع الشركات الأجنبية، وكذلك الشركات التابعة لشركات أجنبية في نطاق الاسترداد من الشركة الأم ومجموعاتها فقط، والشحنات الواردة بالبريد السريع، والشحنات حتى 5 آلاف دولار أو ما يعادلها بالعملات الأجنبية الأخرى، بالإضافة لعدد من السلع الأساسية، وهي: الأدوية والأمصال والكيماويات الخاصة بها والقرنيات البشرية، وكذلك عدد من السلع الغذائية، تمثلت في الشاي، اللحوم، الدواجن، الأسماك، القمح، الزيت، لبن البودرة، لبن الأطفال، الفول، العدس، الزبدة، والذرة.
وقد هدف البنك المركزي من وراء هذا القرار إلى حوكمة عمليات الاستيراد والتمهيد لتفعيل منظومة التسجيل المسبق للشحنات، والحفاظ على الموارد السيادية للدولة من العملة الأجنبية، والارتقاء بمستوى البضائع الواردة من الخارج لحماية صحة وأموال المواطنين، وحماية الصناعة الوطنية، ومنع إعادة بيع ما تم استيراده من السلع للاستخدام الخاص للأشخاص الطبيعية والاعتبارية في حدود النشاط المرخص.
انعكاسات قرار إلغاء مستندات التحصيل
ترتب على قرار البنك المركزي بشأن إلغاء مستندات التحصيل اعتراضات عدة من قبل مجتمع الأعمال وصلت إلى المطالبة بإلغائه، ويمكن إرجاع ذلك الاعتراض إلى توقيت اتخاذ القرار في ظل الظروف الاقتصادية العالمية الحالية وانعكاساتها المحلية، إذ أدت الأزمات المتعاقبة إلى اضطراب سلاسل الامداد عالميا، وارتفاع معدلات التضخم، واضطراب تدفقات النقد الأجنبي نتيجة زيادة تدفقات الاستثمارات إلى الخارج، وتراجع الإيرادات السياحية وارتفاع فاتورة الواردات. وتستهدف الدولة ضبط معدلات التضخم ومواجهة تداعيات التضخم المستورد، إلا أن قرار إلغاء مستندات التحصيل أدى إلى توليد ضغوط محلية على الأسعار وزيادة الطلب على العملة الأجنبية مما دفع بسعرها إلى أعلى، وأدى إلى المزيد من الضغوط على موازنة الدولة. كما ترتب على القرار بطء إجراءات التخليص الجمركي لكافة المنتجات، ومن ثم اضطراب سلاسل التوريد محليا، والاضرار بالصناعة المحلية.
وقد أدى تطبيق القرار إلى الإضرار بالمستوردين الذين لديهم تعاقدات خلال فترات مستقبلية، الأمر الذي ساهم في تعطل عجلة الإنتاج، وارتفاع الأسعار. كما أدى إلى اقتصار الاستيراد على كبار المستوردين اللذين تتوافر لديهم جدارة ائتمانية مرتفعة، فترتب على ذلك خروج بعض الشركات الصغيرة والمتوسطة من الأسواق. ومع إلزام الموردين بسداد كامل قيمة الشحنة قبل وصولها تم حرمانهم من أي تسهيلات ائتمانية يمنحها المُصدر الأجنبي، فضلًا عن ضياع فرصة المستورد المصري في الحصول على حقوقه في حالة تلف المنتج أو الاخلال باي من بنود العقد. وقد دفع ذلك إلى توقف المستوردين عن تقديم تسهيلات سداد للمصانع مقابل توريد الخامات المتوردة، بما أدى إلى تقليص الطلب على تلك الخامات وانخفاض الإنتاج والعرض من السلع النهائية فساعد ذلك على ارتفاع الأسعار، ومن جهة أخرى، يلاحظ أن القرار لم يراع الواردات المصرية من خلال التجارة عبر الحدود وخاصة التي يتم تسويتها نقديًا من الدول الأفريقية، أو تلك التي تأتي في ظل اتفاقية المناطق الصناعية المؤهلة.
استثناء المواد الخام
وجه رئيس الجمهورية عبد الفتاح السيسي باستثناء مستلزمات الإنتاج والمواد الخام من الإجراءات التي تم تطبيقها مؤخرًا على عملية الاستيراد وذلك بالعودة إلى النظام القديم من خلال مستندات التحصيل. وقد عكس القرار إيلاء اهتمام كبير بتعزيز أوضاع الصناعة المصرية ودفع عجلة الإنتاج والتشغيل، بدلًا من النظرة القاصرة فقط على الحفاظ على النقد الأجنبي دون غيره من الأهداف الاقتصادية.
وقد ساهم ذلك القرار في تحقيق الأهداف الاقتصادية للدولة التي تعثر تحقيقها بقرار البنك المركزي، فمن جهة يؤدي تيسير استيراد المواد الخام ومستلزمات الإنتاج إلى تعزيز وتشجيع الصناعات المحلية التي تعتمد على مدخلات انتاج مستوردة، ومع زيادة الإنتاج من تلك الصناعات وتوليد قيمة مضافة محليًا يمكن إعادة تصديرها للخارج بقيم مرتفعة مما يساعد في إصلاح الاختلالات الهيكلية بالميزان التجاري.
ومن جهة أخرى، فان استثناء مستلزمات الإنتاج والمواد الخام من فتح اعتمادات مستندية بإجمالي قيمة الشحنة، يؤدي إلى تخفيض الطلب على العملة الأجنبية، بما يساعد على استقرار قيمة العملة المحلية مقابل الأجنبية، ويُعد هذا الأمر من الأهمية بمكان خاصة في ظل اضطراب مصادر تدفق النقد الأجنبي في ظل الظروف الاقتصادية الحالية.
ومن جهة ثالثة، فإن تيسير استيراد المواد الخام ومستلزمات الإنتاج يؤدي إلى استقرار الامدادات لكافة الصناعات والمنتجات، وينعكس تأثير التيسيرات لقطاعات واسعة، بما يؤدي إلى استقرار أسعار المنتجات المحلية، وعدم اختلاق ضغوطات جدية تدفع معدلات التضخم لأعلى.
وعلى صعيد آخر، فان ذلك القرار يحفز المستثمرين والمستوردين والمصنعين المحليين على زيادة حجم أعمالهم، ويدفع بالمزيد من المشروعات الصغيرة والمتوسطة، الأمر الذي يشجع بشكل مباشر الاقتصاد الحقيقي ويحفز جانب العرض في سوق السلع لزيادة الإنتاج والتشغيل. وتتمثل أهمية ذلك في استخدام أدوات اقتصادية متنوعة لتحفيز الاقتصاد دون الاقتصار على استخدام أدوات السياسة النقدية وحدها لمواجهة تداعيات الأزمات العالمية.
وختامًا.. فعلى الرغم من تعدد المنافع المرتبة على تطبيق نظام الاعتمادات المستندية؛ إلا أنه بالنظر لتوقيت اتخاذ ذلك القرار في ظل الظروف الاقتصادية العالمية وتداعياتها المحلية يتبين ضرورة اتخاذ القرارات وفقًا لأوليات المرحلة، وإعطاء أولوية قصوى للقرارات التي من شأنها تعزيز الخروج من الأزمة. ومن ثم ينبغي أن تشهد تلك المرحلة القرارات التي من شأنها دعم الصناعة المحلية وزيادة التشغيل والناتج المحلي وتخفيض فاتورة الواردات وتحفيز الصادرات، وتقليص الضغط على العملات الاجنبية، ومن ثم فإنه يتبين أهمية قرار استثناء المواد الخام ومستلزمات الإنتاج من قرار الاعتمادات المستندية، مع إمكانية دراسة زيادة الاستثناءات لتشمل السلع الوسيطة وقطع الغيار التي تمثل عنصرًا رئيسيًا لدفع عجلة الإنتاج.