اتخذت ألمانيا قرارًا بحظر أنشطة “حزب الله” في أراضيها، ولكنها لم تفعل ذلك مع جماعة الإخوان المسلمين التي يزيد خطر علاقتها أيديولوجيًّا وتنظيميًّا مع الجماعات الإرهابية التي تحمل تسميات إسلامية على خطر “حزب الله” ومؤسساته في ألمانيا وأوروبا. فلماذا ميزت ألمانيا بين الخطر الأكبر وامتنعت عن مواجهته، والتفتت لمواجهة الخطر الأصغر ومحاصرته؟
قبل محاولة فهم طبيعة وأسباب هذا التمييز غير المنطقي من جانب الحكومة الألمانية، من الضروري إبداء الملاحظات الثلاث التالية:
١- أن القرار أثار قدرًا غير قليل من سوء الفهم، فالعديد من وسائل الإعلام تعاملت معه على أنه إعلان بوضع “حزب الله” في قائمة المنظمات الإرهابية، بينما أوضح السفير الألماني في لبنان “جيور جبيرجيلن”، عندما تم استدعاؤه من جانب الخارجية اللبنانية في الخامس من مايو الجاري لاستيضاح أسباب القرار، وإبلاغ الحكومة الألمانية بأن “حزب الله” مكون سياسي أساسي في البلاد، وأنه يمثل شريحة واسعة من الشعب وجزءًا من البرلمان؛ أن القرار لا يصنف “حزب الله” كتنظيم إرهابي، ولكنه يحظر فقط نشاطاته على الأراضي الألمانية، أي إنه حتى الحكومة اللبنانية قرأت القرار الألماني على أنه تصنيف لحزب الله كمنظمة إرهابية! ويمكن تفسير سوء الفهم والخلط الذي وقعت فيه بعض وسائل الإعلام العالمية وبعض الجهات الرسمية في لبنان، في قراءتها لمعنى القرار، بأن الجميع قد بَنَى فهمه للقرار على أساس أنه امتداد للقرار الجزئي الذي اتخذه الاتحاد الأوروبي في عام 2013 بوضع الجناح العسكري لـ”حزب الله” في قائمة التنظيمات الإرهابية دون أن يتعرض للوضع القانوني للحزب وجناحه السياسي. وبالتالي، فقد قرأت وسائل الإعلام القرار الألماني الأخير بأنه استكمال للقرار السابق من الاتحاد الأوروبي بنفس المحتوى القديم.
٢- أنه على حين كان قرار وضع الجناح العسكري لـ”حزب الله” على قائمة التنظيمات الإرهابية قرارًا أوروبيًّا اتخذه الاتحاد الأوروبي والتزمت به كافة الدول الأعضاء في الاتحاد؛ فإن قرار حظر أنشطة الحزب على الأراضي الألمانية هو قرار ألماني خالص، وهو ما أكدته المفوضية الأوروبية على لسان “بيتر ستانو”، المتحدث باسم الممثل الأعلى للأمن والسياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، بقوله: “إن القرار الألماني لن يغير موقف الاتحاد الأوروبي بهذا الشأن”، مشيرًا إلى القرار الصادر في عام 2013 الذي اعتبر الجناح العسكري لـ”حزب الله” هو فقط هو الذي يتعامل معه الاتحاد الأوروبي كموقف رسمي له حتى الآن تجاه الحزب. مع ملاحظة أن بريطانيا -خلافًا لألمانيا وللاتحاد الأوروبي- كانت قد اعتبرت “حزب الله” بكل هيئاته وتمثيلاته منظمة إرهابية في يناير 2020. وهذا يعني بوضوح أن ألمانيا قد تركت بابًا خلفيًّا للتعامل مع “حزب الله”، ولم تقطع معه تمامًا؛ حيث إن قرارها بحظر الأنشطة لا يعني إغلاق المساجد والجمعيات التابعة للحزب أو طرد المنتمين له (الذين قدرهم تقرير استخباراتي ألماني بحوالي 1050 شخصًا) من الأراضي الألمانية. كما أن تعمد ألمانيا أن يكون قرارها أقل قوة من مثيله البريطاني، وأن يأتي تحركها من خلال برلمانها وحكومتها وليس من خلال قرار أوروبي جماعي مثلما كان الحال بالنسبة لقرار عام 2013؛ يؤكد بدوره أن القرار الألماني الأخير لا يقطع كل الخطوط مع “حزب الله”، حيث يمكن لممثلي ألمانيا في البرلمان الأوروبي التعامل مع الحزب دون أي محاذير.
٣- أن المبرر الذي قدّمته ألمانيا لقرارها السابق، يثير التساؤلات حول توقيته. فقد ذكر وزير الداخلية الألماني “هورست زيهوفر” “أن الحركة الموالية لإيران والمنحدرة من لبنان تشكك في حق إسرائيل في الوجود، وتدعو علنًا لتدميرها. وأنها تقوم بأنشطة على الأراضي الألمانية يعاقب عليها القانون، مثل التخطيط لشن هجمات”!
لقد بدا تصريحه مثيرًا للسخرية، فكأن المسئولين الألمان اكتشفوا هذه الحقيقة المعروفة منذ تأسيس “حزب الله” كذراع لإيران في مواجهة إسرائيل الآن فقط! وكأنهم أيضًا لا يتذكرون تصريحات الرئيس الإيراني السابق “أحمدي نجاد” الذي دعا علانية في عام 2005 إلى إزالة إسرائيل من الوجود. كل ذلك يعني أن قرار ألمانيا بحظر نشاط “حزب الله” تحت مبرر أنه يسعى لتدمير إسرائيل، لا يعبر عن السبب الحقيقي وراء اتخاذه في هذا التوقيت، والأوقع أن نتصور أن ألمانيا تفكر في الصدام الحتمي القادم مع إسرائيل بسبب القرار المنتظر من حكومة “نتنياهو” بضم أجزاء واسعة من الضفة الغربية، وهو القرار الذي أعلن الاتحاد الأوروبي مبكرًا أنه سيرفضه. وتعتقد ألمانيا أنها سيكون بوسعها مواجهة الحملة الإسرائيلية ضدها وضد الاتحاد الأوروبي حين يتم إعلان قرار الضم رسميًّا، بأن ترد على الدعاية الإسرائيلية المضادة التي ستزعم أن ألمانيا تقود الاتحاد الأوروبي لتبني سياسات تهدد أمن إسرائيل، بتذكير “نتنياهو” بأنها (أي ألمانيا) قد برهنت توًّا على مدى حرصها على أمن إسرائيل عندما حظرت أنشطة “حزب الله”. ولكن من المشكوك فيه أن تُفلح الخطة الألمانية في ردع الدولة العبرية عن ابتزازها المستمر لألمانيا على خلفية ماضيها النازي، ودورها في إبادة اليهود في الحرب العالمية الثانية. وقد ظهرت مؤشرات الاستعداد الإسرائيلي للدفع في هذا الاتجاه، فقد علقت صحيفة “هآرتس” الإسرائيلية على قرار ألمانيا بحظر أنشطة “حزب الله” بقولها: “إنه ناتج عن شعور ألمانيا بالذنب تجاه اليهود الذين أُبيدوا في العهد النازي”.
نعود إلى التساؤل الذي طرحناه في المقدمة عن أسباب حظر ألمانيا لأنشطة “حزب الله” وعدم حظرها لجماعة الإخوان المسلمين، فالاستخبارات الألمانية كانت قد حذرت في ديسمبر عام 2018 من خطورة هذه الجماعة على المصالح الوطنية والقيم الألمانية، وعلى حد وصف “بوركهارد فرايير”، رئيس جهاز الاستخبارات في ولاية شمال الراين فيستفاليا، فإن الجمعية الإسلامية -وهي واجهة لجماعة الإخوان في ألمانيا- تهدف إلى إقامة دولة إسلامية حتى في ألمانيا. وحذر “فرايير” من أنه على المدى المتوسط قد يصدر عن تأثير الإخوان المسلمين خطر أكبر على الديمقراطية الألمانية مقارنة مع الوسط السلفي الراديكالي الذي يدعم أتباعه تنظيمات إرهابية مثل القاعدة أو “داعش”. ناهيك عن تجاهل ألمانيا لاستطلاعات الرأي داخلها والتي تبين مدى تخوف أغلبية الشعب الألماني من التطرف الإسلامي في أوساط اللاجئين العرب والسوريين على وجه الخصوص، والذين تورط بعضهم في عمليات إرهابية هناك بتأثير من جماعة الإخوان المسلمين التي تنشط في أوساطهم!
هل هناك أي منطق في أن تتحرك ألمانيا ضد تنظيم إرهابي مثل “حزب الله” لأنه يهدد إسرائيل، بينما تبقى ساكنة في مواجهة تنظيم إرهابي آخر هو جماعة الإخوان رغم أنه يهدد ألمانيا نفسها؟ من جانب آخر، إذا كانت ألمانيا تسعى لحفظ مصالحها مع إسرائيل إلى حد وضع قيود على منظمة إرهابية مثل “حزب الله” توجه أنشطتها ضد إسرائيل وليس ضد ألمانيا، فهل مصالحها مع مصر والسعودية والإمارات التي تصنف الإخوان كتنظيم إرهابي ليست على نفس الدرجة من الأهمية التي توليها ألمانيا لمصالحها مع إسرائيل؟ إن الجرائم التي ارتكبتها جماعة الإخوان في مصر وتونس (عمليات اغتيال، تفجير كنائس ومنشآت حكومية) إلى جانب اعتراف واضح وموثّق من قبل بعض قياداتها في مصر مثل “محمد البلتاجي” بوجود تنسيق بين الإخوان وجماعات مصنفة في الاتحاد الأوروبي بأنها تنظيمات إرهابية مثل “أنصار بيت المقدس” ومن بعدها “داعش”؛ كل ذلك كان يفرض على ألمانيا أن تتخذ خطوة مماثلة على الأقل تجاه الإخوان، ولكنها لم تفعلها حتى الآن.
التفسير الوحيد لهذا التناقض أن ألمانيا أولًا على يقين بأن احتياج الدول العربية التي تصنِّف الإخوان كجماعة إرهابية إليها في أكثر من ملف لن يدفعها (أي هذه الدول) لخسارتها حتى لو بقيت حريصة على منح الإخوان ملجأ داخل أرضيها. وثانيًا، لأن ألمانيا لا تزال تفكر بنفس الأسلوب وتتبع نفس السياسة التي بدأتها قبل مائة عام عندما اعتمدت في سياستها بالشرق الأوسط منذ عام 1914 على التحالف مع التنظيمات التي ترفع الشعارات الإسلامية لمواجهة المخاطر التي كانت بريطانيا وفرنسا تُشكلانها على الطموحات الألمانية في أوروبا. فقد ربطت ألمانيا نفسها في هذه الفترة بتركيا العثمانية وحلفائها من أنصار الجامعة الإسلامية في مصر، وفيما بعد تحالفت مع الحاج “أمين الحسيني” مفتي فلسطين الذي كانت جماعته قد خرجت من عباءة جماعة الإخوان في مصر حتى نهاية الحرب العالمية الثانية. وحتى بعد هزيمة ألمانيا في هذه الحرب تولت هي وتركيا رعاية جماعة الإخوان المسلمين في مصر لمواجهة مصر الناصرية، وتوظيفها أيضًا في الحرب الباردة لتكون إحدى أدوات محاربة الشيوعية، وكانت هذه السياسة تُدار بتوجيه من الولايات المتحدة الأمريكية حتى سقوط الاتحاد السوفيتي عام 1992.
لقد اختلفت الأوضاع التي سادت خلال الفترة (1914-1992) عن تلك التي تميز الأوضاع نفسها منذ ذلك الوقت وحتى الآن، الأمر الذي كان يفرض على ألمانيا أن تعيد تقييم سياستها وعلاقتها بالتنظيمات الإسلامية -وعلى رأسها جماعة الإخوان- في سياستها الخارجية، والتي تردد ألمانيا طيلة الوقت أنها تقوم على محاربة الإرهاب ودعم التحول الديمقراطي وحقوق الإنسان في العالم. فكيف يستقيم التمسك بهذه الأهداف مع حالة الرفض المستمر لمناقشة خطورة جماعة الإخوان على الاستقرار في منطقة الشرق الأوسط في ظل تحولات واضحة من جانب هذه الجماعة للتحالف مع التنظيمات الأصولية التي تخطط لعمليات إرهابية ضد المصالح الغربية، وفي ظل سعيها -كما أوضح تقرير المخابرات الألمانية المشار إليه سابقًا- نحو إقامة دولة تخضع للشريعة الإسلامية -حسب تفسيرهم الخاص لهذه الشريعة- حتى في ألمانيا ذاتها؟