شهدت الساحة اليمنية الجنوبية تطورًا وتحولًا نوعيًّا قاده المجلس الانتقالي الجنوبي -الذي تأسس عام 2017- عبر سيطرته على عددٍ من المقرات الحكومية في عدن، حيث أعلن “هاني بريك” (نائب رئيس المجلس الانتقالي الجنوبي) سيطرة قوات الحزام الأمني التابع للمجلس الانتقالي -بعد سلسلة من المعارك مع قوات الحكومة الشرعية- على قصر معاشيق الرئاسي، فضلًا عن عدد من المواقع العسكرية والمرافق الحيوية في محافظة عدن التي اتخذت منها حكومة “عبدربه منصور هادي” عاصمة مؤقتة للبلاد بعد سيطرة الحوثيين على صنعاء في سبتمبر 2014. وقد اعتبرت الخارجية اليمنية التحركات التي قام بها المجلس الانتقالي الجنوبي بمثابة انقلاب صريح على الشرعية اليمنية.
تحركات الجنوب.. سياقات ودوافع
حملت الفترة الأخيرة عدة سياقات متزامنة سلطت الضوء بشكل كبير على الجنوب اليمني وديناميكيات الصراع؛ حيث وقعت عدة عمليات امتدت آثارها إلى طبيعة التفاعلات الجارية هناك، وكان أبرزها الهجمات التي استهدفت معسكر “الجلاء” ومقر شرطة “الشيخ عثمان”. ففي الوقت الذي تبنت فيه جماعة الحوثيين مسئوليتها عن هجوم المعسكر، فقد أعلن تنظيم “داعش” باليمن مسئوليته عن الهجوم على قسم الشرطة. وقد أسفرت هذه الهجمات عن مقتل قائد قوات الدعم والإسناد اللواء “منير اليافعي”، بالإضافة إلى 49 قتيلًا آخرين، وعشرات الجرحى، وفقًا لما أعلنته وزارة الداخلية اليمنية. وقد أنتجت تلك الهجمات حالة من السخط لدى بعض الجنوبيين، وهو ما أدى إلى تحركات مناوئة ورافضة لبقاء عناصر الشمال في مناطق الجنوب. وأسفرت هذه الحالة عن قيام عدد من الجنوبيين بطرد الشماليين بعد توقيفهم ووضعهم في شاحنات ونقلهم خارج نطاق محافظات الجنوب.
في هذا الإطار، جاءت تحركات المجلس الانتقالي الجنوبي للسيطرة على عدد من المقرات والمواقع العسكرية في خضم تصاعد وتيرة الأحداث بشكل عام في الجنوب، حيث سعى المجلس عبر تحركاته الأخيرة إلى التصعيد ضد الحكومة الشرعية، ومن ثم استعادة الحديث عن قضية انفصال الجنوب وعدد من القضايا العالقة بين الشمال والجنوب. ولم تكن هذه التحركات هي الأولى من نوعها بين الطرفين، حيث نجح المجلس الانتقالي في تحركات مماثلة في يناير 2018، ومن خلال مواجهات عنيفة بين قوات الحزام الأمني وألوية الحماية الرئاسية في عدن، من السيطرة على عدد من المؤسسات والمناطق العسكرية الخاضعة آنذاك لنفوذ وسيطرة الحكومة الشرعية؛ إلا أن هذه المواجهات قد تراجعت بفضل تدخل التحالف العربي لدعم الشرعية في اليمن والذي نجح آنذاك في تهدئة الأوضاع وإنهاء سيطرة المجلس الانتقالي على المواقع التابعة للحكومة الشرعية.
وقد حاول المجلس الانتقالي الجنوبي إضفاء الشرعية على تحركاته العسكرية والميدانية التي أسفرت عن سيطرته على عدد من المقرات الحكومية من خلال دعوته لمليونية “النصر والثبات” (15 أغسطس 2019)، وذلك بهدف إرسال عدد من الرسائل، من بينها التأكيد على أن التحركات الأخيرة للمجلس الانتقالي تجد صدى ورد فعل إيجابيًّا من جانب المواطنين الجنوبيين، الأمر الذي يؤكد أن هذه التحركات تأتي تعبيرًا عن تطلعات ورغبات الرأي العام في الجنوب وليس بمعزل عنه.
وتأتي التحركات الأخيرة من جانب المجلس الانتقالي الجنوبي تحت تأثير جملة من الأهداف التي يسعى المجلس إلى تحقيقها، نوجزها فيما يلي:
1- دعم ومناصرة قضايا الجنوب، حيث تأتي هذه التحركات ضمن سلسلة من المحاولات الهادفة إلى تقرير مصير الجنوب، وتأسيس دولته المستقلة وفقًا لما كان عليه الوضع قبل عام 1990. وقد ساهمت السيطرة العسكرية والميدانية لعناصر الحزام الأمني في الجنوب في تعزيز ودعم مشروع الانفصال، وتعميق النظر إلى الوجود الشمالي داخل محافظات الجنوب على أنه “احتلال”، وهو ما عبر عنه المجلس الانتقالي من خلال البيان الصادر عما أسماه مليونية “النصر والثبات” والذي طالب فيه بتسليم ما وصفه بإدارة الجنوب للجنوبيين عبر المجلس الانتقالي. الأمر ذاته أكده “هاني بريك”، نائب رئيس المجلس الانتقالي، الذي اعتبر أن الحل العادل للسلام في اليمن لا يمكن أن يتم دون قيام الدولتين.
2- تطويق وتحجيم نفوذ الإسلاميين، فبرغم تباين الأهداف بين المجلس الانتقالي الجنوبي والحكومة الشرعية؛ إلا أن أحد العوامل التي وقفت وراء الدعم الذي قدمه المجلس الانتقالي للتحالف العربي هو مواجهة الحوثيين ووقف تمددهم داخل اليمن. ورغم ذلك، جاءت التحركات الأخيرة من قبل قوات وعناصر الحراك الجنوبي بغرض مقاومة ومناوأة نفوذ الإسلاميين في حكومة “عبدربه منصور هادي”، حيث أكد المجلس الانتقالي أن السبيل للحل وإنهاء الأزمة يرتبط بطرد الإسلاميين والشماليين من مواقع النفوذ والسلطة في الجنوب، خاصة في ظل اتهامات لحزب الإصلاح (الذراع السياسية لإخوان اليمن) بالوقوف خلف التفجيرات الأخيرة التي طالت عددًا من المواقع الأمنية في عدن، وذلك عبر تنسيق وتوزيع للأدوار بين الإصلاح وميليشيات الحوثي. فقد أكد “هاني بريك” أن حزب الإصلاح مد الحوثيين بإحداثيات وتوقيت العرض العسكري في معسكر الجلاء بغرض سيطرة الإصلاح على عدن عقب تصفية القيادات العسكرية والسياسية للمجلس الانتقالي.
3- الحاجة للتواجد المستقبلي، إذ يمكن قراءة التحركات الأخيرة من جانب المجلس الانتقالي الجنوبي على أنها محاولة لتأكيد حضوره في أية ترتيبات مستقبلية لليمن، بحيث يصبح الحراك الجنوبي جزءًا لا ينفصل من أي تفاهمات مستقبلية. وقد برزت هذه الحاجة في عدة مناسبات سابقة، خاصة بعد استبعاد قوى الجنوب من مفاوضات استكهولم بين الحكومة الشرعية والحوثيين (ديسمبر 2018)، حيث عبر المجلس الانتقالي آنذاك من خلال أحد البيانات الصادرة عنه عن رفضه لهذا الاستبعاد، واعتبر أن أي مفاوضات لا تكون القضية الجنوبية حاضرة فيها فإنها تعتبر غير ملزمة للجنوب ولا لقضيتهم، وأن أي حلول لا تراعي تطلعات الجنوبيين ستتم مقاومتها. بهذا المعنى، يمكن فهم التحركات الأخيرة للمجلس الانتقالي على أنها رسائل مباشرة للأطراف المحلية والإقليمية والدولية المعنية بالأزمة اليمنية، خاصة بالنظر إلى الأهمية الميدانية لقوى الجنوب التي تمنحهم دورًا مؤثرًا وفاعلًا في التفاعلات اليمنية.
محاولات للاحتواء
لقد نجم عن هذا التصعيد من جانب المجلس الانتقالي عدد من محاولات الاحتواء، سواء من قبل المملكة العربية السعودية أو الإمارات. وكان أبرز هذه المحاولات وصول لجنة عسكرية سعودية إلى عدن (15 أغسطس) لبحث سبل تهدئة الأوضاع، ومحاولة إقناع عناصر وقوات المجلس الانتقالي الجنوبي بالانسحاب من المواقع التي سيطروا عليها. وفي إجراء مماثل، دعا التحالف العربي قوات الحزام الأمني التابعة للمجلس الانتقالي إلى الانسحاب من المواقع التي سيطروا عليه، تمهيدًا لعقد حوار في جدة بين مختلف الأطراف لبحث سبل حلحلة وإنهاء التصعيد في عدن وبما يضمن مصالح الجميع. وعلى الرغم من استجابة المجلس الانتقالي لدعوة السعودية والإمارات لوقف إطلاق النار، وضرورة الاستمرار في تهدئة الأوضاع في عدن؛ إلا أن ثمة اتجاهات ترى أن التفاهمات بين التحالف العربي والمجلس الانتقالي الجنوبي لا تعني انسحابًا كاملًا من المواقع العسكرية التي سيطرت عليها عناصر الحزام الأمني، خاصة أن هذه التفاهمات بين الطرفين تقضي بانسحاب هذه القوات من المرافق الخدمية، مثل البنك المركزي والمستشفى والمجمع القضائي فقط ولا تشمل الانسحاب من المواقع العسكرية، على أن تكون مهمة تأمين وإدارة هذه المرافق مشتركة وتحت إشراف مباشر من التحالف وفق ما أعلن عنه “نزار هيثم”، المتحدث باسم المجلس الانتقالي الجنوبي.
ورغم هذه المحاولات الاحتوائية، إلا أن احتمالات استمرار التهدئة أو التصعيد في الجنوب اليمني تظل قائمة. ويمكن هنا طرح مسارين مختلفين.
1- مسار التهدئة المشروطة: ويستند هذا الاحتمال إلى تجربة قبول عناصر المجلس الانتقالي الجنوبي واستجابتهم لمطالب التحالف العربي بوقف التصعيد، وتسليم كافة المقرات العسكرية والحيوية التي تمت السيطرة عليها، ومن ثم استعادة الأوضاع والعودة لمرحلة ما قبل التصعيد. غير أن هذا الاحتمال يظل مشروطًا، خاصة أن عناصر المجلس الانتقالي الجنوبي يؤكدون ضرورة إحداث تغييرات واسعة في الحكومة الشرعية اليمنية، والعمل على منح الجنوبيين صلاحيات وسلطات أعلى، بجانب إنهاء سطوة وتقليل نفوذ عناصر حزب الإصلاح الإخواني على الحكومة اليمنية، وهو ما يتطلب توافقًا إماراتيًّا – سعوديًّا حول إشراك الانتقالي الجنوبي في صيغة الحكم القائمة، واعتباره شريكًا أساسيًّا في السلطة.
2- عودة التصعيد: يقترن هذا المسار بعدم استجابة الحكومة الشرعية لمطالب الجنوبيين، خاصة فيما يتعلق بالبنية المؤسسية والحكومية التي يتمتع فيها حزب الإصلاح بنفوذ شديد. وفي هذه الحالة قد يصبح الانسحاب والتهدئة عملية مؤقتة، وقد يعود التصعيد للمشهد مرة أخرى، خاصة أن لدى قوات الحزام الأمني وعناصر المجلس الانتقالي الجنوبي القدرات العددية والبشرية والقتالية التي تسمح له باستعادة السيطرة وبسط النفوذ على عدد من المواقع الحيوية.
على أية حال، فإن الحراك الأخير في الجنوب اليمني يعزز بشكل كبير الدعوات الانفصالية التي كانت ولا تزال هدفًا للجنوبيين منذ إعلان الوحدة بين الطرفين، وأن التطورات الأخيرة تدفع بشكل متزايد نحو مزيد من اليمن غير الموحد، ما لم يحصل الجنوبيون على مزيد من الصلاحيات.