ثمة علاقة وثيقة بين تأجج ظاهرة الكراهية والصراع المسلح داخل الدولة، خاصة أن الأخيرة توفر الفرصة لبروز الاحتقانات المجتمعية الكامنة، وتبلورها في خطابات وممارسات عدائية بين الفاعلين المتنازعين، مستغلة في ذلك هشاشة مؤسسات الدولة ووظائفها. وقد عرفت الساحة الليبية شيئًا من ذلك القبيل -ولا تزال- منذ سقوط نظام القذافي قبل أكثر من ثماني سنوات، إذ شكل تصاعد الكراهية أحد العوامل المفسرة للتعثر الانتقالي وعدم التوافق السياسي، حيث عادة ما يوظفها “معرقلو التسويات” لإحباط كل استحقاق داخلي، أو مبادرة خارجية أممية أو دولية يمكن أن تقود الليبيين إلى الاستقرار.
وما تأكيد المبعوث الأممي في ليبيا “غسان سلامة” مؤخرًا على أنه لن يستثني أي طرف ليبي في المؤتمر الوطني، الذي من المقرر عقده في منتصف أبريل 2019؛ إلا رسالة مضادة لحالة الكراهية، التي أنتجت عزلًا وإقصاء لنخب سياسية وشرائح مجتمعية، بغض النظر عن مدى فعالية المؤتمر ذاته في إنهاء المرحلة الانتقالية من عدمه. لذا، تُعد مكافحة ظاهرة الكراهية في ليبيا جزءًا أساسيًّا من متطلبات توفير بيئة سياسية ومجتمعية تمتلك القدرة على التعايش وقبول الآخر، وهو ما يستدعي محاولة لفهم تلك الظاهرة، وأشكالها، والعوامل المفسِّرة لتطورها، والاتجاهات التي يُمكنها إيقاف دورة الكراهية تلك.
المعنى والأشكال
ترتكز الكراهية -في مضمونها العام- على محاولة فرد أو جماعة أو دولة صياغة خطابات “تشيطن” الآخر، وتخونه، وتحرض على إقصائه، بل وتنزع عنه الإنسانية. لكنها لا تقتصر فقط على الاستخدامات اللغوية أو اللفظية في الأقوال والنصوص والرموز في وسائل الإعلام، وتصريحات الفاعلين السياسيين وغيرها؛ وإنما قد تمتد إلى المستوى السلوكي، حيث تتحول الكراهية إلى جرائم تمييزية، تشيع أجواء من الخوف والعزلة وسوء المدركات تجاه الآخرين.
وعادةً ما يلجأ الفاعلون المتنازعون في مناطق الصراعات إلى نشر الكراهية، وإخراجها من مكامنها لغرضين: أحدهما، من منطلق هجومي لتحقيق الأهداف والمصالح على حساب الآخرين في القضايا المختلف عليها. وثانيهما، ذو طابع دفاعي، أي لتأمين هوياتهم الأولية، في وقت ضعف الهوية الوطنية للدولة، وحشد الأنصار، وبناء التحالفات الخارجية، بمنطق الاتفاق على من هم الأعداء المشتركون. وكلما ترافقت خطابات الكراهية مع ممارسات وسلوكيات مطابقة لها؛ فإنها تنتج تمييزًا غائرًا في بنية المجتمعات، مثلما حدث في تجربة نظام الفصل العنصري (جنوب إفريقيا إبان نظام الأبارتهيد). كما قد تقود خطابات الكراهية إلى حدوث مذابح جماعية (كما جرى في حالة رواندا بين الهوتو والتوتسي في تسعينيات القرن العشرين).
صحيح أن ليبيا لم تعرف بعد سقوط نظام القذافي تلك التجليات الحادة للكراهية في هاتين الحالتين الإفريقيتين، لكنها مع ذلك شهدت أشكالًا متعددة للكراهية خلال السنوات الثماني الماضية امتزجت فيها الخطابات بالممارسات، لتمس المكونات السياسية والمجتمعية والقبلية في المجتمع الليبي. ونشير فيما يلي إلى أبرز هذه الأشكال:
1- الإقصاء السياسي
لم يقتصر الأمر بعد عام 2011 على وصم أنصار “القذافي” وازدرائهم في خطابات المؤيدين لثورة 17 فبراير، وإنما رافق ذلك ممارسات عملية تستهدف إقصاءهم من المشهد السياسي. وكان التجسيد الأبرز -في هذا السياق- صدور قانون العزل السياسي الذي أقره المؤتمر الوطني العام تحت ضغط الميليشات المسلحة في عام 2013. وبدا القانون -آنذاك- محاولة واضحة من جانب جماعة الإخوان وحلفائها لتعديل ميزان القوى السياسية لصالحهم، بعدما تصدر -آنذاك- تحالف القوى الوطنية بزعامة “محمود جبريل” في انتخابات 2012. وسبق ذلك القانون خطابات اختزالية وتآمرية ضد أنصار “القذافي” وقياداتهم، حيث لم يتم التفرقة في مضامينها بين من ارتكب جُرمًا أو فسادًا أو لا. لكنّ مجلس النواب (الذي تشكَّل بعد انتخابات 2014) ألغى ذلك القانون في عام 2015. كما وفرت مناخات التعثر الليبي قناعة لدى البعض بأن الاستقرار لن يتحقق دون استيعاب ومصالحة كافة مكونات المجتمع. وأخذ ذلك الأمر زخمًا مع الإفراج عن “سيف الإسلام القذافي” في يونيو 2017، ومن بعده عدد من قيادات نظام “القذافي”، لعل آخرهم “أبو زيد عمر دورده” رئيس جهاز الأمن الخارجي السابق، الذي أُفرج عنه من طرابلس في فبراير 2019.
2- التكفير الديني
برز التكفير الديني مع توسع المد الديني المتطرف في ليبيا بعد سقوط “القذافي”؛ إذ عاد الجهاديون السابقون الذين حاربهم “القذافي” إلى الساحة السياسية، سواء عبر أطر حزبية (حزب الوطن لعبدالحكيم بلحاج مثلًا)، أو ميليشيات مسلحة كأنصار الشريعة (تم حلها لاحقًا)، ومجلس شورى مجاهدي درنة وغيرها، والتي استغلت هشاشة السلطة والميليشياوية في الأعوام الأولى بعد سقوط “القذافي”، ومارست خطابات تكفير الآخر.
وأخذت تلك الكراهية بُعدًا أكثر حدة مع ظهور تنظيم “داعش” في سرت في عام 2015، قبل هزيمته في نهاية 2016، إذ لم يكتفِ التنظيم بتكفير المواطنين والدولة ومؤسساتها ككل، وإنما أتبع ذلك بممارسات ترويع وقتل وجرائم ضد ليبيين وغير ليبيين. بموازاة ذلك، شهدت ليبيا حوادث كراهية دينية عندما هدم متطرفون أضرحة صوفية، كما جرى في عدة مناطق بليبيا في سنوات ما بعد الثورة، كطرابلس والكفرة وشحات والبيضا وغيرها. وعكس ذلك -في مجمله- طبيعة الصعود السلفي بأشكاله المدخلية والجهادية، والذي يعادي التيارات الصوفية، برغم كون الأخيرة متجذرة تاريخيًّا في بنية الثقافة والمجتمع الليبي.
3- الثأر القبلي
تحول المزاج القبلي الليبي مع الوقت إلى حالة من الانتقام المتبادل بعد سقوط نظام القذافي، فالقبائل التي تعرضت للتهميش السياسي والتنموي والهوياتي على يد ذلك النظام، سعت للثأر واستعادة النفوذ والموارد، وهو ما برز في مناطق ليبيا المختلفة، منها -على سبيل المثال لا الحصر- منطقة الجنوب الليبي، التي شهدت تارةً صراعات بين قبائل التبو وأولاد سليمان، وتارة أخرى بين التبو والطوارق، وتارة ثالثة بين القذاذفة وأولاد وسليمان، وتركزت أكثر على اقتصاديات التهريب، وتوزع الولاءات بالمنطقة بين الجيش الوطني الليبي وحكومة الوفاق الليبي، بخلاف الميليشيات الأجنبية من دول الجوار الإفريقي. وبلورت هذه العوامل حالة من الكراهية القبلية في المنطقة.
وبرغم سيطرة الجيش الوطني على منطقة الجنوب خلال العملية العسكرية التي أطلقها منذ منتصف يناير 2019، إلا أن التحدي الجوهري أمامه يتعلق بكيف تتحول تلك السيطرة الأمنية إلى توفير مناخ من التعايش السلمي، والاحتكام لسلطة الدولة، في منطقة تعج بإرث من العداءات القبلية التي تعمقت على خلفية سياسات “القذافي” في محاباة قبيلة على حساب أخرى.
4- الوصم الإعلامي
مع تعددية الفرقاء الليبيين، وتنوع مشاربهم، وتحول بعضهم إلى وكلاء لقوى خارجية في ظل غياب سلطة الدولة وانقسام الحكومات شرقًا وغربًا؛ تحولت الساحة الإعلامية، سواء بشقها التقليدي (الفضائيات والصحف) أو غير التقليدي (مواقع إلكترونية ووسائل التواصل الاجتماعي)، إلى أداةٍ لبعض التيارات والميليشيات الليبية لممارسة سياسة وصم الآخرين بالخيانة والعمالة والتكفير والحض على قتله. في هذا الإطار، يُشير المركز الليبي لحرية الصحافة في تقريرٍ له حول خطابات الكراهية في وسائل الإعلام في يونيو 2017، إلى تصدر قناة “التناصح” قائمة القنوات الأكثر بثًّا للتحريض ضد المتنازعين. وعادةً ما يستخدم المفتي المعزول “الصادق الغرياني” هذه القناة (التي تشير بعض التقارير إلى ارتباطها بقطر) لبث خطابات تدعم جماعات إرهابية. وبلغت الكراهية بذلك الرجل حد إهدار دم المشير “خليفة حفتر” قائد الجيش الوطني الليبي أكثر من مرة. ناهيك عن بروز وسائل إعلامية محرِّضة على النزاع والفُرقة بين الليبيين، مثل وكالة “بشرى” الإخبارية التي عُدت الذراع الإعلامية لسرايا الدفاع عن بنغازي الإرهابية التي تُحرّض على قتال الجيش الوطني الليبي. ويمكن الاطلاع على نص التقرير على الموقع الإلكتروني للمركز عبر الرابط التالي:
5- التهجير القسري
إن مناخات الكراهية في ليبيا تخلق خلطًا بين ما هو إنساني وسياسي لتنتج ممارسات تمييزية تبلغ حد المعاقبة الجماعية لسكان على مواقفهم السياسية، وتهجيرهم قسريًّا من أراضيهم، وهو ما أنتج ظواهر كالنزوح الداخلي، واللجوء الخارجي. ويظهر هنا مثال أزمة مدينة تاورغاء غربي ليبيا، التي بدأت في أغسطس 2011، عندما تم تهجير جميع سكانها قسريًّا (أكثر من 40 ألف شخص)، وتدمير بنيتها التحتية بالكامل بشكل ممنهج، من قبل ميليشيات مصراتية انتقامًا لدعم المدينة كتائب نظام القذافي إبان الثورة.
وبرغم اتفاقات المصالحة المحلية بين مدينتي تاورغاء ومصراتة التي أبرمت في عامي 2017 و2018، إلا أنه لم يتوفر حتى اللحظة بيئة آمنة تسمح بعودة التاورغيين، في ظل بطء عملية إعادة إعمار المدينة من جانب حكومة الوفاق، حيث لم تجد الأسر القليلة التي عادت للمدينة سوى بنية تحتية مدمرة. هذا بخلاف استشعار أهالي تاورغاء الخوف من العودة خشية تعرضهم للانتقام من طرف ميليشيات مسلحة، خاصة أن المدينة تخضع أمنيًّا للمنطقة العسكرية الوسطى التي تضم عناصر من مصراتة وأخرى تابعة لحكومة الوفاق. ناهيك عن أن تلك الاتفاقات التي تمت بين مصراتة وتاورغاء بدت -من وجهة نظر البعض- تعبيرًا عن ميزان القوى بعد سقوط “القذافي” الذي مال لصالح مصراتة. فبرغم إقرار الاتفاقات تعويضات للأهالي وإعادتهم إلى منازلهم، إلا أنه لم يتم تفعيل آلية محاسبة من أقدموا على جريمة تاورغاء، وهو ما جعل منظمات حقوقية، مثل “هيومن رايتس ووتش”، تدعو إلى تدويل هذه القضية لدى المحكمة الجنائية الدولية، كونها جريمة ضد الإنسانية، كما برز في تقرير للمنظمة في يناير 2019.
تلك الأشكال ليست إلا النزر اليسير من مشهد ليبي يعج بتدفقات الكراهية التي أخذت طابعًا دائريًّا cycle of hate، أي يُغذي بعضها بعضًا، فتظهر تارة كسبب لتغذية الانقسام والحرب الأهلية في صيف 2014 وعرقلة اتفاق الصخيرات في ديسمبر 2015، وما تلاه من مبادرات دولية وأممية لم تفلح حتى اللحظة في إقرار السلام. وعلى الجانب الآخر، تبرز الكراهية أيضًا كنتيجة لتراكم التعثر ذاته في تسوية الأزمة الليبية، ذلك أن تعدد الشرعيات وضعف الدولة يسمح بانتشار خطابات وممارسات الكراهية.
عوامل مُفسِّرة
لكن السؤال المطروح هنا يتعلق بالعوامل المفسِّرة لصعود تلك الكراهية المعلنة بعد سقوط نظام القذافي، كون الأخير أسهم عبر سياساته في توفير سياقات الكراهية الكامنة بين المكونات الليبية المتعددة، بفعل الاستبداد وغياب الديمقراطية، وإن استطاع حفظ الأمن والاستقرار، معتمدًا في ذلك على الريع النفطي الهائل في إدارة التوازنات القبلية، وتهميش البعض على حساب الآخر.
وبالتالي، لا يمكن عزل تلك الكراهية المعلنة عن لحظة السقوط الدموية لنظام القذافي، إثر التدخل الخارجي للناتو في عام 2011 لدعم المعارضة المسلحة. إذ وجدت الاحتقانات السياسية والقبلية والمناطقية الفرصة مهيأة للتعبير عن نفسها، في بيئة تتسم بانشطار مؤسسات الدولة، وغلبة الميليشيات، ومحاولة كل طرفٍ البحث عن نصيبه من “الكعكة”، ولو بالقوة الميليشياوية. وأذكت التدخلات الخارجية -بدورها- تلك الكراهية، ووظفتها لصالحها في اختراق السياق الليبي، عبر تعزيز التحالف مع وكلاء داخليين. ولعل التقارير التي تُشير إلى التغلغل القطري-التركي في غرب ليبيا لدعم الإسلاميين تربط ذلك بدعم هذه القوى لقنوات إعلامية مارست تحريضًا ضد قوى الشرق الليبي.
وبقدر ما أدى السياق الليبي المنقسم إلى صعود الكراهية؛ فإن ثمة عوامل نفسية ومجتمعية أخرى تُسهم كذلك في تفسير تلك الظاهرة. إذ قد يظهر نمط نفسي من تبادل الأدوار بين السجين والسجان، أو الضحية والجلاد في أعقاب التغييرات المجتمعية الحادة. فالليبيون الذين خرجوا ضد نظام القذافي رافعين شعارات الحرية والعدالة وعدم التهميش التنموي، لم يجدوا غضاضة في حرمان الآخرين منها لاحقًا، بعد إزاحة “القذافي”، ما قد يرجع إلى نوع من التماهي النفسي مع ثقافة الاستبداد التي عايشوها لأكثر من 42 عامًا. وبالتالي، فبدلًا من أن يكون هنالك “قذافي” واحد، صار هنالك الآلاف من “القذافيين الجدد” بعد ثورة 17 فبراير 2011، الذين اتخذوا أردية متعددة (ميليشاوية، قبلية، مناطقية، جهادية، وغيرها). وساعد على ذلك عسكرة التغيير السياسي إبان الثورة عبر تدخل الناتو، وغياب مؤسسة عسكرية وطنية تقوم على إنفاذ القانون، ما سمح للميليشيات بتحويل خطابات الكراهية إلى ممارسات انتقامية ضد مخالفيهم وسجنهم وتهجيرهم من أراضيهم، كما جرى في قانون العزل أو طرد سكان تاورغاء من منازلهم.
يتضافر ذلك العامل النفسي مع آخر مجتمعي، يتعلق بإحباطات ما بعد التغيير، بمعنى أن رفع سقف التوقعات المجتمعية بعد سقوط “القذافي” أعقبه في السنوات التالية لذلك صدمة عامة من أن ثمار التغيير لم تتساقط عليهم، بل إنها انقلبت في اتجاه مضاد، مع تنازع أطراف عديدة على السلطة والثروة. في مثل هذه الأجواء تضعف الثقة المجتمعية المتبادلة، ويتآكل رأس المال المجتمعي، ومن ثم يستدعي كل طرف استراتيجية “التخندق” في مواجهة الآخر، حيث تصبح خطابات وممارسات الكراهية إحدى أدواتها للدفاع عن مصالح المتنازعين وهوياتهم الأولية.
كيف يُمكن كسر دورة الكراهية؟
إذا كانت الكراهية تحمل كلفة باهظة في الحالة الليبية تجلت في تعثر الاستحقاقات السياسية وانقسام مؤسسات الدولة، إلا أن الحد من تأثيراتها يرتبط بإزالة العوامل المفضية إليها، كي يحل التسامح، والاعتراف بالآخر. هنا، تبرز عدة اتجاهات، لعل أولها، عودة الوظيفة الأمنية للدولة، فمثلًا، فإن توسع سيطرة الجيش الوطني الليبي خلال السنوات الثلاث الماضية من الشرق إلى الجنوب، قد يُعد اتجاهًا كابحًا للكراهية لاعتبارات عديدة، منها: خلق ضامن أمني مؤسسي يشرف على إنفاذ أي اتفاقات مصالحة محلية، وكبح جماح الميليشات المسلحة، ومن ثم، الأدوار الخارجية التي تلعب دورًا في نشر الكراهية. والأهم أن توفر سياقات آمنة تحد من ظاهرة النازحين في الداخل، والتي لوحظ أنها -بحسب مفوضية الأمم المتحدة لشئون اللاجئين- تراجعت من نصف مليون شخص في عام 2015 إلى قرابة 170 ألف شخص في فبراير 2019.
ثانيها، صياغة بناء دستوري وقانوني يحد من الكراهية ويجرمها. ولعل الملاحظ أن مسودة الدستور المختلف عليها بين الفرقاء الليبيين حوت نصوصًا حول تنظيم حرية التعبير، وحظر التحريض على الكراهية والتكفير والعنصرية والتهجير القسري.
ثالثها، إعادة الاعتبار للمظالم التنموية للمناطق والقبائل الليبية شرقًا وغربًا وجنوبًا، خاصة أن الثروة النفطية الهائلة لم تجد طريقها حتى الآن لعلاج تلك المظالم، في ظل سياقات العنف والفوضى، إذ تشير خطة الاستجابة الإنسانية في ليبيا في عام 2019 إلى أن أكثر من 800 ألف شخص بحاجة للمساعدات الإنسانية.
لكن المعضلة الكبرى المؤجِّجة للكراهية في ليبيا، تكمن أكثر في عدم محاسبة من ارتكبوا جرائم بحق الليبيين، سواء قبل أو إبان أو بعد ثورة 17 فبراير، ما يعزز “الذاكرة الانتقامية” في ظل مجتمع تحكمه عادات قبلية مثل الثأر، الأمر الذي يستدعي -من جهة- مقاربات عدالة انتقالية تراعي الخصوصية الليبية، من حيث عدم التوسع في نمط المحاسبة، والاقتصار على القيادات المتورطة بالفعل في الجرائم، للحد من إمكانية إعادة دورة العنف والكراهية ثانية. ومن جهة ثانية، توسيع دور الهياكل المحلية الاجتماعية، ومجالس الحكماء والبلديات، بحيث تطور سياسات وأنماطًا تعويضية للضحايا تُعزز الاعتماد المتبادل والتعايش السلمي بين الناس.