في الرابع عشر من شهر أبريل الماضي، أعلنت الإدارة الأمريكية وقف تمويلها لمنظمة الصحة العالمية لمدة 60-90 يومًا؛ حتى تتم مراجعة طريقة تعامل المنظمة مع انتشار فيروس كورونا المستجد، أو ما يُعرف بفيروس (كوفيد-19). وأرجعت الإدارة الأمريكية السبب في وقف التمويل إلى سوء إدارة منظمة الصحة العالمية لأزمة فيروس (كوفيد-19)، وكذلك التغطية على انتشاره بشكل يوحي بانحياز المنظمة للحكومة الصينية. وعلى الرغم من انتقاد الاتحاد الأوروبي للقرار الأمريكي؛ ارتأت دول أخرى كالهند وتايوان أن تأخر المنظمة في إعلان الفيروس كجائحة تسبب في تأخر استجابة البلدان للفيروس، وصعوبة السيطرة على انتشاره في العالم. وتشير هذه التطورات إلى أن منظمة الصحة العالمية أصبحت واقعة في قلب الصراعات بين الدول، ففي حين تتعرض للهجوم من جانب الولايات المتحدة والهند وتايوان، وهم أكبر خصوم الصين في النظام الدولي؛ يحاول الاتحاد الأوروبي حمايتها كواحدة من دعائم النظام الدولي المتعدد الأطراف الذي يسعى الاتحاد الأوروبي لتعزيزه.
التسلسل الزمني لتعامل المنظمة مع “كوفيد-19”
بعد أن أعلنت السلطات الصينية في 31 ديسمبر 2019 عن وجود حالات إصابة بفيروس جديد يسبب التهابًا رئويًّا في مدينة ووهان، قامت منظمة الصحة العالمية في اليوم التالي بتشكيل فريق لمتابعة الأزمة ووضع الخطة اللازمة للتصدي لهذا الفيروس الجديد، وأوصت بعدم فرض أي قيود على السفر أو التجارة مع الصين.
وأوضحت السلطات الصحية الصينية بعد ذلك بعدة أيام أن الفيروس الجديد هو من عائلة الفيروسات التاجية، حيث أُطلق عليه اسم فيروس “كورونا المستجد”. وفي اليوم التالي أعلنت تايلاند وجود أربع حالات يُشتبه في إصابتهم بهذا الفيروس، فيما أعلنت منظمة الصحة العالمية في العاشر من يناير 2020، أن انتقال الفيروس الجديد معدوم أو محدود بين البشر، وفقًا للبيانات التي كانت متاحة للمنظمة وقتها، وتبع ذلك في اليوم التالي إعلان الصين عن أول حالة وفاة بسبب فيروس كورونا المستجد.
في الثاني والعشرين من يناير، أصدرت المنظمة بيانًا أكدت فيه انتقال العدوى بين البشر في ووهان. حدث هذا بعد أن تأكد وجود حالات مصابة بالفيروس خارج الصين. بعدها بدأت المنظمة في عقد لجنة الطوارئ الصحية التي تشكلت بموجب اللوائح الصحية الدولية منذ عام 2005، لتقييم تفشي الفيروس. حتى هذه المرحلة كانت منظمة الصحة العالمية ترفض أن تُعلن أن انتشار الفيروس يُمثل حالة طوارئ صحية عالمية.
بعد مرور شهر على بدء الأزمة، أي في 30 يناير 2020، أعلنت المنظمة أن حالة فيروس كورونا المستجد تمثل حالة طوارئ صحية دولية، وكانت تلك هي المرة السادسة التي تُعلن فيها المنظمة عن طارئة كهذه منذ دخول اللوائح الصحية الدولية حيز النفاذ في عام 2005.
في منتصف فبراير 2020، أي بعد شهر ونصف من تسجيل أول إصابة، تم تنظيم بعثة مشتركة بين منظمة الصحة العالمية والصين، وضمت البعثة خبراء من كندا، وألمانيا، واليابان، ونيجيريا، وكوريا الجنوبية، وروسيا، وسنغافورة، والولايات المتحدة الأمريكية (خبراء من مراكز مكافحة الأمراض، ومعاهد الصحة الوطنية)، للاطلاع على الوضع في الصين، وبحث أسباب انتشار الفيروس. وطالب الفريق في تقريره الصين بأن تُعزز بشكل أكبر المشاركة المنتظمة والواقعية مع العالم للبيانات الخاصة بالوباء، إلى جانب النتائج السريرية والخبرة الخاصة بالفيروس.
تبع ذلك إعلان مدير عام منظمة الصحة العالمية خلال المؤتمر الصحفي الذي عُقد في الثالث من مارس 2020 أن فيروس كورونا المستجد ليس مثل فيروس المتلازمة التنفسية الحادة الوخيمة (سارس)، ولا فيروس متلازمة الشرق الأوسط التنفسية (ميرس)، ولا حتى فيروس الأنفلونزا الموسمية، وأن طبيعة فيروس كورونا المستجد تسمح بكسر سلسلة انتقال العدوى، وأنه من الممكن احتواء انتشاره على عكس فيروس الأنفلونزا الموسمية الذي لا يمكن أن يتم احتواء انتشاره أو تتبع المخالطين للحالات المصابة به، كما أن فيروس كورونا المستجد لا ينتقل بنفس السهولة التي ينتقل بها فيروس الأنفلونزا الموسمية.
وبعد هذا التصريح بثمانية أيام فقط، أي في 11 مارس 2020، أعلنت منظمة الصحة العالمية أن فيروس كورونا المستجد “جائحة”، بعد أن وصل إجمالي عدد المصابين به في العالم إلى أكثر من 126 ألف إصابة.
الانتقادات الدولية للمنظمة
تسببت التناقضات في بيانات وتوصيات منظمة الصحة العالمية في تعرضها للعديد من الانتقادات الدولية، خاصة من جانب الولايات المتحدة الأمريكية. ويرى الخبراء الدوليون أن المنظمة قد ارتكبت خطأين رئيسيين خلال إدارة أزمة كورونا: الأول، عندما تأخرت في توضيح احتمال انتقال عدوى فيروس كورونا المستجد بين البشر. والثاني، عدم إعلانها فيروس كورونا المستجد جائحة إلا بعد تسجيل أكثر من 120 ألف إصابة بالفيروس في 114 بلدًا، وهو ما أثّر سلبًا على سياسات الدول التي تتبع إرشادات المنظمة وتأخير استجابتها للسيطرة على الفيروس.
بجانب ذلك، فقد تخبطت المنظمة في إصدار الإرشادات الوقائية لفيروس كورونا المستجد. ففي نهاية شهر مارس، أعلنت المنظمة أن ارتداء الكمامات الطبية غير ضروري للحد من انتشار فيروس كورونا المستجد، وأنه لا يُنصح للأصحاء بارتداء الكمامة الطبية، ثم عادت المنظمة بعدها بأربعة أيام فقط لتؤكد أنه يجب أن تُستخدم الكمامات الطبية في الدول التي يصعب فيها تحقيق قواعد التباعد الاجتماعي، في الوقت الذي كانت فيه الكمامات الطبية بالفعل جزءًا من التدابير الوقائية التي اتخذتها الدول الآسيوية، والتي تمكنت من محاصرة الوباء.
كما لم تستمع المنظمة للتحذيرات التي أطلقتها تايوان في 31 ديسمبر 2019، في نفس يوم اكتشاف أول حالة مصابة في الصين، والتي حذرت خلالها بأن عدوى الفيروس الجديد من الممكن أن تنتقل عبر البشر، وأوضحت صحيفة “آسيا تايمز” أن حكومة تايوان أكدت أنها علمت حينئذ بوجود عدوى تنفسية في ووهان الصينية، ولذلك حاولت التواصل مع الحكومة الصينية ومنظمة الصحة العالمية بحثًا عن توضيحات، ولكن الجواب الوحيد الذي تلقته تايوان لم يزد على بريد إلكتروني جاء فيه أن خبراء المنظمة سيحققون في الموضوع. وقد سبق لصحيفة “فاينانشيال تايمز” البريطانية أن أعلنت أيضًا عن تجاهل منظمة الصحة العالمية للتحذيرات التايوانية.
لكن أكبر الانتقادات الدولية بحق منظمة الصحة العالمية كانت في طريقة تعاملها مع الصين، فوصفت بعض التقارير الصحفية المنظمة بـ”منظمة الصحة الصينية” بدلًا من العالمية؛ حيث تضمن البيان الذي أعلنت خلاله المنظمة فيروس كورونا المستجد حالة الطوارئ الصحية، إشادة مبالغًا فيها بجهود الحكومة الصينية، وبما أسمته المنظمة “التزام الحكومة الصينية بأعلى درجات الشفافية في تعاملها مع فيروس كورونا المستجد”، وهو ما أثار شكوكًا عديدة حول تأثير الصين على المنظمة؟
مبررات المنظمة في تأخير إعلان “كوفيد-19” جائحة
نظريًّا لم تتأخر منظمة الصحة العالمية في إعلان فيروس كورونا المستجد جائحة. فقبل الإعلان عن تحول أي فيروس ما إلى جائحة، يجب أن تتحقق منظمة الصحة العالمية من وجود ثلاثة معايير رئيسية:
1- أن يتسبب الفيروس في الوفاة (تحقق ذلك في 10 يناير 2020).
2- انتقال العدوى الفيروسية بين البشر (تحقق ذلك في 22 يناير 2020).
3- انتشار الفيروس في جميع أنحاء العالم (لا توجد آلية واضحة لتحديد عدد البلدان التي يجب أن ينتشر بها الفيروس لتحقيق هذا الشرط).
كذلك لم تُرد المنظمة أن تكرر ما حدث قبل أحد عشر عامًا، وتحديدًا في 11 يونيو 2009، عندما أعلنت عن تحول فيروس أنفلونزا الخنازير أو ما يعرف بفيروس H1N1، إلى جائحة. بدأت الدول بعد الإعلان في تطبيق خطط التأهب الاحترازية والوقائية للتصدي للفيروس، لكن بعد أن نفّذت الدول تلك الخطط المُكلفة ماديًّا واقتصاديًّا؛ اتضح أن احتواء فيروس H1N1 لا يستدعي كل تلك الإجراءات، وتم انتقاد منظمة الصحة العالمية بشكل كبير لتعجلها في إعلان فيروس H1N1 جائحة عالمية. وأصبحت المنظمة أكثر حرصًا في الإعلان عن أي وباء، ولذلك لم تستطع أن تعلن عن فيروس كورونا المستجد كجائحة حتى 11 مارس 2020.
الموقف الراهن للمنظمة
لا يمكن إنكار الدور المهم الذي تقوم به منظمة الصحة العالمية في المجال الصحي عالميًّا، منذ إنشائها في عام 1948 وحتى هذه اللحظة، فلها يرجع الفضل في القضاء على مرض الحصبة وشلل الأطفال في العالم. ولا يمكن أيضًا إغفال حقيقة أن دور المنظمة مبنيّ في الأساس على نسج وتفعيل التعاون بين الدول لتحسين وتعزيز الصحة العامة، مع عدم امتلاك أي سلطة إلزامية على الدول، بل وعليها أن تعتمد على البيانات والتصريحات الرسمية التي تُصدرها الدول لتجنب إيقاع نفسها في أي خلافات سياسية قد تمنعها من إتمام دورها بشكل كامل.
لكن يجب أن تلتزم المنظمة بأعلى درجات الحيادية والمهنية خلال تعاملها مع الأزمات، فيجب أن تتفادى البيانات التي تتضمن إشادة مبالغًا فيها، كما من الممكن أن تقوم المنظمة بتوسيع دائرة البيانات التي تعتمد عليها لإصدار التوصيات، فلا يجب الاعتماد بشكل كامل على البيانات الرسمية التي تُصدرها الدول، بل يمكن اللجوء للتقارير الصادرة عن المعامل المرجعية والتابعة بالفعل للمنظمة، وتكون نتائجها معتمدة على الأبحاث والتجارب العلمية الموثقة، وكذلك التقارير الصادرة عن المكاتب القطرية والإقليمية للمنظمة؛ للإسراع في عملية اتخاذ القرارات الحاسمة، مثل إعلان الجائحة، خصوصًا أن مرور يوم واحد دون حلّ الأزمة يُكلف المزيد من الأرواح.