اجتمع محافظو المصارف المركزية من مختلف أنحاء العالم في “جاكسون هول” خلال الفترة من 22 أغسطس 2024 حتى 24 أغسطس 2024 لحضور ندوة “الاحتياطي الفيدرالي” الأمريكي السنوية، التي جاءت تحت عنوان “إعادة تقييم فاعلية وانتقال السياسة النقدية”، والتي تناولت الدروس المستفادة من استجابة السياسة النقدية للجائحة والارتفاع اللاحق للتضخم، كما شهدت مناقشة محافظي البنوك المركزية في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة ومنطقة اليورو لآفاق المزيد من تخفيف السياسة النقدية؛ أي خفض الفائدة. وبهذا تكون كبرى البنوك المركزية قد دخلت مرحلة جديدة من تنفيذ سياسة “التشديد الكمي” بشكل مشترك لأول مرة بعد أعوام من اتباع سياسة نقدية تشددية تهدف إلى كبح معدلات التضخم المرتفعة.
مسار خفض الفائدة
أرسل محافظو البنوك المركزية خلال اجتماعات “جاكسون هول” رسائل مفادها البدء في مسار خفض أسعار الفائدة دون تحديد جدول زمني واضح لهذه الخطوة، حيث أكد رئيس البنك الاحتياطي الفيدرالي “جيروم بأول” أن الوقت قد حان لتغيير السياسة النقدية والبدء في خفض أسعار الفائدة، لافتًا إلى ثقته في اقتراب معدل التضخم إلى هدف الاحتياطي الفيدرالي البالغ 2%، فيما لفت عدد من مسئولي الفيدرالي أن خفض الفائدة يجب أن يكون منهجيًا وألا يكون سريعًا، وقد أسهمت العديد من البيانات الاقتصادية في دفع الاحتياطي الفيدرالي لاتخاذ مسار خفض الفائدة، والذي جاء على رأسها النقاط الآتية:
• تقرير الوظائف الأمريكية: تُعد سوق العمل من العوامل الأساسية في اتخاذ قرار سعر الفائدة، إذ يُمثل ضعفها حافزًا رئيسيًا لخفض سعر الفائدة، حيث أرسل تقرير يوليو 2024 إشارات سلبية حول احتمالية ركود الاقتصاد الأكبر في العالم نظرًا لإضافة نحو 114 ألف وظيفة فقط، وهو معدل أقل كثيرًا من توقعات الأسواق البالغة نحو 176 ألف وظيفة، مع ارتفاع معدل البطالة إلى أعلى مستوى منذ أكتوبر 2021 عند 4.7% مقارنة بمستوى 4.1% المُسجل في يونيو 2024. كما أظهرت المراجعة الأولية السنوية لبيانات التوظيف التي أجراها مكتب الإحصاء خفض تقدير إجمالي العمالة في الفترة من أبريل 2023 إلى مارس 2024 بمقدار 818 ألف وظيفة.
• معدل التضخم: ألقى التعافي السريع من تداعيات جائحة كورونا مع ضخ الحزم التحفيزية في الأسواق خلال عام 2021 إلى جانب اندلاع الحرب الأوكرانية أوائل عام 2022 واستمرارها حتى اللحظة الراهنة بظلاله على معدل التضخم الذي سجل أعلى مستوياته في حوالي 40 عامًا، وهو ما دفع الاحتياطي الفيدرالي إلى اتخاذ قرارات خفض الفائدة خلال الفترات الماضية، إلا أن معدل التضخم بدأ في التراجع منذ مارس 2024 وحتى يوليو 2024 عند 2.9% على أساس سنوي، وهو المستوى الأدنى في ثلاث سنوات، مقارنة بنحو 3% خلال يونيو من العام نفسه، كما يُبين الشكل أدناه:
الشكل 1- معدل التضخم السنوي (%)
Source- U.S. Bureau of Economic Analysis.
اتصالًا بذلك، بدأ معدل التضخم السنوي الأمريكي يقترب من الوصول إلى مستهدفات الاحتياطي الفيدرالي البالغة (2%)، ولهذا تنتظر الأوساط الاقتصادية قرار الفيدرالي القادم بشأن الفائدة خلال يومي 17 سبتمبر و18 سبتمبر 2024 بعدما ثبتها في الاجتماع السابق عند نطاق يتراوح بين 5.25% و5.5%.
• بيانات التصنيع: من الممكن أن تحفز بيانات التصنيع الانكماشية البنك الفيدرالي لخفض الفائدة، حيث انكمش نشاط التصنيع في الولايات المتحدة خلال أغسطس 2024 بأسرع وتيرة هذا العام في ظل استمرار ضعف الإنتاج والطلبات والتوظيف في المصانع، حيث انخفض مؤشر “ستاندرد آند بورز” لمديري المشتريات بمقدار 1.6 نقطة ليصل إلى 48 نقطة، وهو مستوى يبتعد نقطتين عن مستوى النمو البالغ 50 نقطة.
• معدل النمو الاقتصادي: شهد معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي ارتفاعًا قدره 3% خلال الربع الثاني من عام 2024 مقارنة بنحو 1.4% في الربع السابق، ورغم ذلك، فإن معدل النمو لا يزال أقل من المستويات المسجلة خلال الربعين الثاني والثالث من عام 2023، كما يتبين تاليًا:
الشكل 2- معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي (%)
Source- U.S. Bureau of Economic Analysis.
سرعان ما استجابت الأسواق العالمية لتصريحات محافظي البنوك المركزية العالمية في “جاكسون هول” حيث عززت مؤشرات الأسهم الأمريكية من مكاسبها في ختام تداولات آخر جلسات شهر أغسطس؛ إذ ارتفع مؤشر “داو جونز” الصناعي بنسبة 0.55% أو 228 نقطة عند إغلاق قياسي بلغ 41563 نقطة، مواصلًا اتجاهه الصعودي للأسبوع الثالث والشهر الرابع على التوالي، فيما أغلق “إس آند بي 500” عند 5648 نقطة محققًا مكاسب شهرية بنسبة 2.3%، وصعد “ناسداك” بنحو 1.15% عند 17713 نقطة، ليحقق مكاسب شهرية بنسبة 0.65%.
وبالنظر للأسواق الأوروبية، أغلق مؤشر “ستوكس يوروب 600” عند مستوى قياسي يبلغ 525 نقطة، محققًا مكاسب شهرية تبلغ 1.35%. في المقابل تراجع مؤشر الدولار إلى أدنى مستوياته في 3 أسابيع عند 100.78 نقطة، حيث تفرض احتمالية خفض الفائدة ضغوطًا إضافية على الدولار.
“جاكسون هول” والاقتصادات الناشئة
تمتد آثار خفض أسعار الفائدة من قبل بنك الاحتياطي الفيدرالي إلى ما هو أبعد من الولايات المتحدة، حيث تتطلع الأسواق الناشئة ومنها مصر إلى قرار البنك المركزي الأمريكي إلى قرار الفائدة المقبل بعد زيادة ضغوط عبء الفائدة على عملاتها المحلية، ويُمكن تحليل تداعيات قرار الفائدة الأمريكية على الاقتصادات الناشئة على النحو الآتي:
• الاستثمار في أدوات الدين المحلي: ترتبط أسعار الفائدة الأمريكية ارتباطًا وثيقًا بالاستثمارات الأجنبية غير المباشرة في الأسواق الناشئة، حيث أسفرت قرارات الفيدرالي برفع الفائدة منذ 2022 عن تقويض جاذبية أدوات الدين المحلية التي تطرحها الدول النامية والناشئة؛ إذ يهرع المستثمرون عادةً إلى الاقتصادات المتقدمة مع بدء رفعها لأسعار الفائدة، مما يؤدي إلى نزوح استثمارات الأجانب من الأسواق الناشئة، مما أثقل كاهل الاحتياطي النقدي لدى الدول النامية وأثر سلبًا في قيمة عملاتها المحلية، في وقت شهدت فيه جميع مصادر العملات الأجنبية تهديدًا نتيجة لضبابية آفاق الاقتصاد العالمي. وبناءً على ذلك، يُمكن أن تجذب أسعار الفائدة المنخفضة في الولايات المتحدة تدفقات رأس المال الأجنبية إلى هذه الأسواق، مما يعزز عملاتها وأسعار أسهمها في ظل مساعي المستثمرين إلى تحقيق عائدات أعلى.
وبالتركيز على الاقتصاد المصري بالتحديد، من المرجح أن ينعكس خفض الفائدة الأمريكية بشكل إيجابي على جاذبية الاستثمار في الجنيه المصري، مع جذب المزيد من الاستثمارات الأجنبية غير المباشرة في أدوات الدين المحلي، والتي تُعد أحد العناصر المهمة في مكونات الاحتياطي النقدي المصري. والجدير بالذكر أن استثمارات الأجانب في أذون الخزانة شهدت ارتفاعًا إلى مستوى قياسي يبلغ 1.77 تريليون جنيه بنهاية مايو 2024، مقابل ما يعادل 1.697 تريليون جنيه بنهاية أبريل السابق عليه، حيث بلغت استثمارات بنوك القطاع الخاص بأذون الخزانة 505.8 مليار جنيه بنهاية مايو الماضي، مقابل 520.5 مليار جنيه بنهاية أبريل.
• تخفيف عبء الديون: أسهمت بيئة أسعار الفائدة المرتفعة والارتفاع الحاد في تكاليف الاقتراض خلال الثلاثة أعوام الماضية إلى تفاقم المخاطر المتعلقة بالدين في جميع البلدان النامية، حيث تخلفت 18 دولة نامية عن سداد ديونها السيادية على مدار تلك الفترة، وهو مستوى أعلى من المستوى المسجل خلال العقدين الماضيين معًا، كما سددت البلدان النامية مستوى قياسيًا من الدين العام بلغ نحو 443.5 مليار دولار في عام 2022 وحده. إلى جانب ذلك، توقع صندوق النقد الدولي أن يتجه متوسط عبء الدين الحكومي الإجمالي في الأسواق الناشئة والبلدان ذات الدخل المتوسط إلى 78% من الناتج المحلي الإجمالي بحلول عام 2028، مقارنة بأكثر من 53% قبل عقد من الزمان، مما يعني أن مدفوعات الفائدة سوف تستهلك نسبة كبيرة ومتزايدة من دخول تلك البلدان. وتأسيسًا على ذلك، فمن الممكن أن يُسهم خفض الفائدة الأمريكية في تخفيف عبء الديون المفروضة على الأسواق الناشئة، بسبب خفض تكلفة الاقتراض للدول التي تلجأ للتمويل الخارجي.
• تعزيز النمو الاقتصادي: من المرجح أن يشجع اتجاه خفض الفائدة الأمريكية البنوك المركزية في الدول الناشئة على أن يحذو حذو الاحتياطي الفيدرالي من خلال بدء دورة التيسير النقدي التي ستسهم بدورها في تعزيز نمو الناتج المحلي الإجمالي عبر تخفيف الأعباء المفروضة على القطاع الصناعي من خلال خفض تكلفة الاقتراض، وتشجيع القطاع الخاص على الاقتراض وتوسيع نطاق أعماله وخلق المزيد من فرص العمل؛ مما يؤثر في كلٍ من مستويات البطالة والنمو الاقتصادي.
أخيرا، يمكن القول أن اجتماعات “جاكسون هول” لهذا العام حملت في طياتها إشارات إيجابية للاقتصاد العالمي بشكل عام، والاقتصادات الناشئة والنامية بشكل خاص، نظرًا لاقتراب البنوك المركزية الكبرى وعلى رأسها الاحتياطي الفيدرالي من إنهاء دورة التشديد الكمي في الأجل القصير دون تحديد جدول زمني واضح، بعد تجربة أسوأ صدمة تضخمية في أربعة عقود، مما قد يسهم في انتعاش النمو الاقتصادي العالمي، ويزيد من جاذبية أدوات الدين المحلي في الاقتصادات الناشئة.