في أوائل شهر مايو الماضي أجبر حرس الحدود الإيراني عشرات المهاجرين الأفغان على عبور نهرٍ شرقي البلاد، ما أدى إلى وفاة وفقدان عدد كبير منهم، وقد أثار هذا الإجراء استهجانًا دوليًا. لجنة التحقيق الأفغانية أشارت إلى أن الحادث تسبب في غرق ووفاة 18 شخصًا من إجمالي حوالي 50 مواطنًا أفغانيًّا حاولوا العبور إلى الأراضي الإيرانية بطريقة غير شرعية، وذلك بعد أن تم ضربُهم وتعذيبُهم على يد القوات الإيرانية.[1] وأثار الحادث غضب الأفغان، مما تسبب في تنظيم احتجاجات أمام السفارة الإيرانية في العاصمة كابل، بل وصدور تهديدات لتجار إيرانيين في أفغانستان.
أعاد هذا الحادث مرة أخرى قضية المهاجرين الأفغان المقيمين داخل إيران منذ عشرات السنين، والأوضاع السيئة التي يواجهونها هناك، وأساب عودة الكثير منهم إلى بلادهم مرة أخرى، خاصة في الآونة الأخيرة.
لماذا يهاجر الأفغان إلى إيران؟ وأين يتركزون؟
بدأت هجرة الأفغان إلى إيران بشكل ملحوظ مع بدء مرحلة الاحتلال السوفيتي لأفغانستان في عام 1979، وهو نفس العام الذي اندلعت فيه الثورة الإيرانية التي كانت بزعامة الخميني الذي أمر باستقبال المهاجرين الأفغان آنذاك.
نشط المهاجرون الأفغان في هذه الفترة داخل إيران، وعملوا في مجالات محددة وشاقة، لا يزالون يزاولونها حتى الآن، كالبناء والتشييد والنظافة والزراعة والحراسة، واستغل القادة السياسيون الإيرانيون آنذاك المهاجرين الأفغان وأشركوهم في الحرب مع العراق التي قُتل فيها ألْفا شخص من الأفغان على الأقل.[2] وتولى الأفغان خلال انشغال الإيرانيين بالحرب مع العراق الأعمال المحلية سالفة الذكر، ومَثَّل ذلك مساهمة كبيرة منهم داخل إيران، وبعد انتهاء الحرب مع العراق في عام 1988، بدأ الأفغان المشاركة في مشروعات حكومية إيرانية في ظل عهد الرئيس الإيراني الأسبق هاشمي رفسنجاني.
ومع انتهاء الحرب في أفغانستان في عام 1992، بدأ العديد من الأفغان العودة إلى بلادهم مرة أخرى، لكن سيطرت حركة “طالبان” على الحكم في عام 1996، وببدء الحرب الأهلية الأفغانية بدأت موجة جديدة من الهجرة إلى إيران وبعض الدول الأخرى، وتكرر السيناريو مرة أخرى مع سقوط حكم “طالبان” في عام 2001، حيث بدأ الأفغان في العودة إلى بلادهم، لكن ما لبث أن تدهورت الأوضاع الأمنية والاقتصادية هناك حتى قرر كثير منهم مغادرة البلاد والتوجه للخارج، وكانت إيران إحدى الوجهات الرئيسية لهؤلاء.
لا توجد تقديرات دقيقة لحجم المهاجرين الأفغان داخل إيران، لكن وزارة الداخلية الإيرانية قدرت هؤلاء بحوالي 3 ملايين، منهم أكثر من 460 ألف طالب.[3] لكن السلطات الأفغانية تقدر هؤلاء بحوالي 2.450 مليون أفغاني.[4]
ويتركز المهاجرون الأفغان داخل إيران في بعض المحافظات الإيرانية، خاصة في شرق إيران، خاصة خراسان رضوي، وكرمان، وأصفهان، بالإضافة إلى العاصمة طهران، ويُلاحظ أن أغلب سكان هذه المحافظات من القومية الفارسية الذين يدينون بالمذهب الشيعي، ويندر تواجد المهاجرين الأفغان في محافظتي إيلام وكردستان، بينما يُمنع هؤلاء المهاجرون من الإقامة في حوالي 15 محافظة إيرانية (من إجمالي 31 محافظة)، من بينها كرمانشاه وزنجان.
الاستغلال الاقتصادي والسياسي للأفغان داخل إيران
على الرغم من مشاركة الأفغان في عمليات البناء والإنشاءات الداخلية في إيران منذ الحرب الإيرانية- العراقية وحتى الآن، إلى جانب تجنيدهم في الحرب نفسها لصالح النظام الإيراني، إلا أن المهاجرين الأفغان داخل الأراضي الإيرانية لا يُعامَلون بطريقة ترعى حقوقهم أو حقوق أبنائهم، بل يتم استغلالهم من قِبل النظام سياسيًّا، ومن قِبل أصحاب الأعمال التجارية، وتكمن المشكلة الأساسية لعشرات أو مئات الآلاف من الأفغان داخل إيران أنهم لا يملكون أوراق ثبوت رسمية، ما يجعلهم فريسة سهلة للأهداف السياسية للنظام الإيراني، كتجنيدهم في ميليشيات وإرسالهم للحروب في الخارج، أو للعمل بدون رواتب مناسبة لدى التجار المحليين أو حتى عدم دفع الرواتب في بعض الأحيان، ولا يُستثنى من هذه القاعدة المهاجرون ذوو الأوراق الرسمية.
ولا يجد المهاجرون الأفغان داخل إيران فرصة متساوية للتعليم، حيث إنهم مكلَّفون بدفع أموال مقابل دخول أبنائهم المدارس على غير حال بقية الإيرانيين، وحتى عندما يلتحقون بها، فليس من المتاح لهم دراسة بعض العلوم كالفيزياء النووية، والعلوم العسكرية، وهندسة الطائرات، حيث يتم تصنيفها على أنها علوم حساسة داخل إيران. وبعد تخرجه، ليس من اليسير على المهاجر الأفغاني الحصول على فرصة عمل جيدة؛ بسبب قصر مجالات عملهم داخل إيران على المجالات سالفة الذكر، أضف إلى ذلك أن خضوع الاقتصاد الإيراني لحزمة العقوبات الأمريكية الراهنة يجعل ظروف عمل المهاجرين الأفغان داخل إيران أكثر صعوبة.
ويواجه أبناء المهاجرين الأفغان مشكلة أخرى داخل المجتمع الإيراني، تتمثل في وجود عشرات الآلاف من الأطفال نتيجة زواج أفغان بإيرانيات، بدون هوية حقيقية؛ لأن القانون الإيراني، وحتى وقت قريب، لم يكن يعطي الجنسية لطفل إلا إذا كان والده إيراني الجنسية، وقد تم تعديل هذا القانون في أكتوبر 2019 ليسمح بمنح الجنسية لأبناء المواطنات الإيرانيات المتزوجات من أجانب، إلا أنه لم يتم حتى الآن الانتهاء من قضية أطفال الأفغان المتزوجين من إيرانيات.[5]
نتج عن عدم منح مئات الآلاف من الأفغان لأوراق الثبوت والإقامة داخل إيران -بالإضافة إلى عدم حصول الكثيرين منهم على وظائف، والتي حتى إن وُجدت تكون برواتب غير مجزية- استغلالُ نسبة ليست بالقليلة منهم في تشكيل الجماعات والميليشيات المسلحة، والزج بهم في صراعات سياسية، وليس من قبيل المصادفة أن تكون حرب الخليج الأولى هي أول تجربة يخوضها المهاجرون الأفغان في إيران خلال حكم رجال الدين منذ عام 1979. ويستغل النظام الإيراني الأوضاع المتردية للمهاجرين الأفغان وافتقادهم لأوراق ثبوتية لمساومتهم، حيث يتم الزج بهم في العديد من صراعات النظام مقابل منحهم هذه الأوراق أو الحصول على وظائف.
بدءًا من عام 2011، قام النظام الإيراني، في إطار تورطه في العديد من الأزمات الإقليمية، بتشكيل ميليشيات من الأفغان وإرسالها إلى دول مثل سوريا، كان أبرز هذه الميليشيات “لواء فاطميون” الذي تم تشكيل أغلبه خلال عام 2013 من الشيعة الأفغان المقيمين في إيران والذين انضموا له تحت تأثير الضغوط والإغراءات (التهديد بالترحيل في حالة الرفض، منح حق الإقامة، راتب شهري حوالي 500 دولار).[6]
ويخضع “لواء فاطميون” للحرس الثوري الإيراني وفيلق القدس، ولا توجد أرقام محددة حول عدد عناصر هذه الميليشيا، لكن بعض المصادر تُقدرها بحوالي 15 ألف عنصر[7]، أو ربما أكثر. وقد أُعلن في عام 2018 عن مقتل ألفين وإصابة 8 آلاف آخرين من هذه الميليشيا.[8] ويذهب البعض إلى أن حجم هذه الميليشيا يصل إلى أكثر من 36 ألف شخص.[9] ولم يوف النظام الإيراني بالكثير من الوعود التي قدمها للمهاجرين الإيرانيين، سواء فيما يتعلق بمنحهم الجنسية أو حق الإقامة، بل إنه رفض علاج بعض المصابين منهم، ومما لا شك فيه أن استغلال إيران للمهاجرين الأفغان يخالف المواثيق الدولية، خاصة أنها جندت بعض الأطفال دون سن 18 عامًا.
عودة الأفغان إلى بلادهم
شهدت السنوات الأخيرة عددًا من المتغيرات التي دفعت بالمهاجرين الأفغان داخل إيران إلى العودة إلى بلادهم. أول تلك المتغيرات هو العقوبات المفروضة على الاقتصاد الإيراني، فمنذ انسحاب الولايات المتحدة الأمريكية من الاتفاق النووي الذي كان قد تم التوصل إليه مع إيران في عام 2015، بدأت واشنطن في إعادة فرض العقوبات مرة أخرى على إيران، وسارعت الشركات الأوروبية وغيرها في الخروج من السوق المحلية الإيرانية خوفًا من التعرض للعقوبات الأمريكية، وهو ما تسبب في ارتفاع نسبة البطالة وتدهور الأوضاع الاقتصادية (بلغت نسبة التضخم خلال عام 2019 أكثر من 41%، وارتفعت نسبة البطالة إلى 10.7%).[10]
وقد انعكست هذه الأوضاع على حالة المهاجرين الأفغان داخل إيران، حيث تراجعت فرص العمل المتاحة لهم، بل وأصبحت أفغانستان من حيث بعض المؤشرات الاقتصادية أفضل من إيران، ما اضطر بعضهم لترك إيران والعودة لبلادهم، وقد عبّر نائب وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي صراحة في شهر مايو الماضي عن احتمال ترحيل الأفغان من بلاده في حالة استمرار تدهور الأوضاع الاقتصادية.[11]
ثم جاءت جائحة كورونا لتزيد الواقع الإيراني تعقيدًا؛ فقد تسبب الجائحة في عودة حوالي 300 ألف أفغاني من إيران إلى أفغانستان،[12] بعد أن أصبحت إيران خلال الأشهر الأولى من ظهور الفيروس ثاني أكبر بؤرة له على مستوى العالم، حيث خشي كثيرون منهم الإصابة به وقرروا العودة إلى بلادهم. في هذا الإطار، قال عددٌ من الأفغان: إن سبب عودتهم هو صعوبة تلقيهم الرعاية الطبية اللازمة في حالة إصابتهم بالفيروس، حيث لا تقبلهم المستشفيات الإيرانية. وبحسب إحصاءات وزارة شئون المهاجرين الأفغانية فإن حوالي 10 آلاف مواطن أفغاني يعودون لبلادهم من إيران يوميًّا بسبب فيروس كورونا المستجد.[13]
***
يبدو أن قرار السلطات الإيراني إزالة القيود المفروضة على بعض مناحي الحياة العامة والاقتصادية بسبب انتشار فيروس كورونا المستجد قد شجّع عددًا من الأفغان على العودة مرة أخر إلى إيران، والتي كانوا قد فروا منها بسبب انتشار فيروس كورونا المستجد، لكن يبدو أن إيران لا ترغب في عودتهم، خاصة في ظل الظروف الحالية، وهو ما يفسر لنا الحادث الأخير الذي أدى إلى غرق وفقدان عدد ليس بالقليل من المواطنين الأفغان في نهر “هريرود”.
ومع استمرار الحالة الأمنية في أفغانستان واستمرار أنشطة التنظيمات الإرهابية، مثل “طالبان” و”داعش” وغيرهما هناك، سوف يضطر كثيرٌ من الأفغان إلى الهجرة مجددًا إما إلى إيران كما في السابق، أو إلى أية وجهة أخرى كأوروبا أو غيرها، وتبرز إيران حتى الآن كوجهة أساسية لأغلب الأفغان نظرًا للحدود المشتركة بين البلدين والروابط الثقافية واللغوية بين الجانبين، وهو ما ينذر بتكرار حادث نهر هريرود.
المصادر:
[1] “جزئیات ابتدایی تحقیق روی غرق شدن مهاجران افغان در رودخانه”، دويتشه فيله النسخة الفارسية، 10 مايو 2020. https://cutt.us/xKro9
[2] “وقتی اسلام مرز ندارد؛ افغانستان وتقدیم 2 هزار شهید برای ایران”، وكالة أنباء فارس الإيرانية بنسختها الفارسية، 12 أكتوبر 2014. https://cutt.us/4xIkg
[3] “چه تعداد اتباع افغانستانی در ایران حضور دارند؟”، مشرق، 9 يونيو 2019. https://cutt.us/v6Ptq
[4] “شمار مهاجران افغان به شش میلیون رسیده است”، بي بي سي فارسي، 19 يونيو 2018. https://cutt.us/L3w34
[5] دردسرهای حقوقی ازدواج با اتباع خارجی/ ثبت رسمی روزانه ۵ ازدواج!”، وكالة أنباء مهر الإيرانية، 27 يناير 2016. https://cutt.us/GB51W
[6] Phillip Smyth, “Iran’s Afghan Shiite Fighters in Syria”, The Washington Institute for Near East Policy, June ,3th 2014. https://cutt.us/rstAV
[7] مسعود الزاهد، “تفاصيل تشكيل إيران لـ”جيش التحرير الشيعي” في سوریا”، العربية.نت، 24 أغسطس 2016. https://cutt.us/QgePM
[8] “۲ هزار کشته و۸ هزار زخمی از افغانهای فاطمیون در سوریه”، دويتشه فيله، 6 يناير 2018. https://cutt.us/x4aOZ
[9] “لواء فاطميون.. استغلال إيران فقر المهاجرين الأفغان”، المعهد الدولي للدراسات الإيرانية. https://cutt.us/I9sbP
[10] آرش حسن نيا، “شاخص فلاکت در ایران؛ سال ۱۳۹۸ بدترین دوره در ۲۴ سال اخیر”، بي بي سي فارسي، 13 مايو 2020. https://cutt.us/GNK6F
[11] “ایران به دلیل تحریمها ممکن است خواستار خروج مهاجران افغان شود”، بي بي سي فارسي، 8 مايو 2020.
[12] “بازگشت کنترلنشده مهاجران وهمهگیر شدن کرونا در افغانستان”، دويتشه فيله، 12 مايو 2020. https://cutt.us/dmJTP
[13] “شفاخانه های ایران مهاجرین افغان مبتلا به کرونا را نمی پذیرند”، دويتشه فيله، 22 مارس 2020. https://cutt.us/eZmXC