العلاقة بين فيروس “كورونا” وممارسة “الشعائر الدينية” وثيقة، ربما أكثر من أي شيء آخر. من ناحية أولى، ثبت علميًّا أن فيروس (كوفيد-19) ينتقل من شخص لآخر من خلال الاحتكاك، والتلامس، والمصافحة، والتواصل عن كثب، أو عبر لمس أسطح أو أدوات أو أغراض تكون حاملة للفيروس. من هنا أصبح التباعد الاجتماعي، والكفّ عن لمس الأسطح الخشبية أو المعدنية، والإسراع بغسيل الأيدي بالمطهرات، وارتداء الكمامات الواقية، أو قفازات الأيدي؛ من الإجراءات الاحترازية المطبقة عالميًّا.
وتنطوي ممارسة “الشعائر الدينية” أيًّا كان المعتقد الديني -من ناحية أخرى- على اجتماع عدد كبير من الأفراد، والتلامس الجسدي بينهم بسبب تضاؤل المسافات الفاصلة بينهم، أو المصافحة بالأيدي، أو التلاقي بالأعناق، فضلًا عن لمس أو التبارك بالأيدي من أسطح أو أبواب أو أغراض أو أدوات يعتقد أهل الديانات المختلفة بقدسيتها، كل في سياق المعتقدات التي يؤمن بها.
من هنا، يثور تساؤل: كيف يمكن أن يعيش الإنسان “آمنًا”، وفي الوقت ذاته “مؤمنًا”؟ هناك من يقصر إجابته على عوامل “الأمان”، أي الأخذ بالأسباب التي تحول دون انتشار الوباء، وهو ما قد يتطلب إعادة النظر في بعض الممارسات الدينية. وهناك من ينظر إلى الجانب “الإيماني”، ويرى أن “المؤمن” لا تصيبه الشرور، وهو في حضرة الله، مصليًا ومتعبدًا، وهي النظرة التي تتناول أبعادًا ما ورائية -أي إيمانية قلبية- لا تخضع للفحص العلمي. في هذه المسألة تحديدًا، تتشابه المجتمعات. فقد تشابهت في الإجراءات الاحترازية المتبعة، وأيضًا في نوعية المساجلات التي دارت في المجال العام حول “الإيمان” ومواجهة “الوباء”. المثال الواضح على ذلك الجدل حول ممارسة طقس “التناول” الذي صاحب إعادة فتح الكنائس في الغرب عقب الإغلاق لشهور، ولم تخلُ منه كنيسة، كاثوليكية أو أنجليكانية أو إنجيلية أو أرثوذكسية. ونجد بين ثنايا الجدل المثار آراء متباينة بين اعتبارات “الأمان” و”الإيمان” في مواجهة (كوفيد-19).
الاتجاه نفسه نراه الآن في مناقشات تجري في أوساط الكنائس المصرية، وتدور أيضًا في الأروقة الإسلامية، فمثلًا في إيران يشعر الحجاج أن بعض المراقد والمزارات الشيعية (مثل قم) لها قوة الشفاء من الأمراض، وبالتالي يرفضون أي قول بأن ممارسة التلامس الجسدي في هذه الأماكن ينقل العدوى، بل يعتقدون أن قدسية المكان -بالنسبة لهم- قادرة على حمايتهم. هذا في الوقت الذي أيد فيه بعض الأئمة، مثل آية الله السيستاني، إغلاق المزارات الشيعية، وطالب معتنقي المذهب بالبحث عن وسائل أخرى للتعبير عن معتقداتهم لا تضعهم في مخاطر صحية. وفي السياق نفسه، وجهت قيادات دينية يهودية أتباع الديانة اليهودية إلى عدم تقبيل “المزوزا” (رق مستطيل الشكل تُكتب عليه آيات من التوراة)، والاكتفاء بالحصول على البركة منها دون لمسها. ونرى التوجه نفسه في معتقدات أخرى مثل “الهندوسية” وغيرها، حيث صاحبت الإجراءات الاحترازية لمواجهة فيروس “كورونا” الدعوة إلى مراجعة الممارسات الدينية التي من شأنها أن تنقل الوباء.
الإشكالية الآن أن دول العالم تفتح أبوابها تدريجيًّا، بعد أن تبينت أن تكلفة الإغلاق باهظة اقتصاديًّا، واجتماعيًّا، وإنسانيًّا. وتتضمن عودة الأمور إلى طبيعتها فتح دور العبادة المغلقة، ولكن وفق إجراءات احترازية قد تتطلب تعديل بعض الممارسات الدينية، وهو ما أصبح مثار جدل، عمليًّا وفكريًّا، على عدد من المستويات:
1- عودة الصراع التقليدي بين العلم والدين مرة أخرى، فهناك من ينحاز إلى العلم، ويسعى لتطبيق شروطه كاملة، وهناك من ينحاز إلى الدين، ويرى سموه على العلم.
2- الحديث مجددًا عن العلمانية والإيمان، فهناك من يبحث عن تقليص الدين وفضاءاته وممارساته تحت لافتة العلمانية التي ترى في ذلك فرصة تاريخية لفرض تصوراتها تجاه الدين، والمتدينين، الذين يرون أنفسهم في موقف الدفاع عن النفس.
3- استعادة السجال بشأن تاريخية الإيمان، ومعاصرة الإيمان، حيث إن جزءًا من السجال حول طلب العدول عن بعض الممارسات الدينية اتقاء لانتشار فيروس كورونا يستند إلى قراءات تاريخية ترى أن بعض الممارسات التي علقت بالدين تعود إلى ثقافات موروثة، ولا تمت لجوهر العقائد، وهو ما يختلف معه أصحاب النظرة إلى أن ممارسة الإيمان بالكيفية الراهنة لا تحتاج إلى تعديل أو توفيق أوضاع في ظل المتطلبات الصحية الوقائية. مثال على ذلك، اتجاه البعض في عدد من الدول الإسلامية -وحدث على نطاق محدود في المجتمع المصري- من الاتجاه إلى إقامة صلوات “الجماعة” في المساجد أو الزوايا أو في القاعات أو المنازل.
4- إعادة النظر في العلاقة بين السلطة والدين، حيث إن الحكومات هي التي اتخذت الإجراءات الاحترازية في سائر المجتمعات، ومنها تقييد ممارسة الشعائر الدينية، وهو ما يعيد طرح السؤال التقليدي حول “السلطة السياسية” في مواجهة “السلطة الدينية”. في اليونان -قلب المسيحية الأرثوذكسية في الغرب- أصدرت الحكومة تشريعًا من شأنه السماح لها بإغلاق الكنائس في أي وقت نظرًا لاعتبارات الصحة العامة، وهو ما يتماشى مع قرارات أخرى مشابهة في دول أخرى مثل إغلاق ساحة القديس بطرس في الفاتيكان، أو إغلاق الحرم المكي والمساجد في السعودية، وهو الأمر نفسه الذي حدث في كل المجتمعات –أيًّا كانت الصيغة التي اتبعت- وتسبب ذلك في طرح سؤال قديم جديد حول حدود السلطة السياسية في تقييد ممارسة التدين في المجتمع، وهو أمر قد يحدث بقوة القانون أو بالإكراه المادي، لكنه لا يصادف هوى عند قطاعات عريضة من المتدينين، شرقًا وغربًا، الذين عبّروا عن اعتراضهم على النظر إلى دور العبادة على قدم المساواة مع المحلات، والمقاهي، وأماكن الترفيه، وهكذا. المثال الواضح على ذلك الجدل الذي دار في اليونان. في 11 مارس الماضي، صدر بيان عن “المجمع المقدس” أكد فيه أنه على مدار نحو ألفي سنة إلى الآن تظل ممارسة التناول المقدس “ضد الموت”. ورغم ذلك، فإن المجمع يعلن تعليق صلوات القداس، وممارسة طقس التناول، ولكن ترك باب الكنائس مفتوحة أمام الأفراد للتبرك منها، وهو الأمر الذي رفضته الحكومة، ودعت إلى الإغلاق الكامل للكنائس.
القضية -إذن- متشعبة، ولها اتجاهات عديدة، ولكن يظل الأمر رهنًا بالقدرة على الاجتهاد في ممارسة التدين أو الطقوس الدينية حتى يظل “المؤمن” “آمنًا”، وهي تتطلب التوفيق بين نظرتين مختلفتين: أن يعتقد المؤمن أن “أمانه” مهم أثناء ممارسة عقيدته، وفي الوقت نفسه أن يدرك أصحاب النظرة العلمانية أو العلمية البحتة أن ممارسة الإيمان تقع في نسيج مجتمعات عديدة، بما في ذلك من رفعة لواء العلمانية، والفصل بين الدولة والدين.