دخلت حزمة العقوبات الأولى من جملة العقوبات التي سيشملها قانون “قيصر” الأمريكي حيز النفاذ في 17 يونيو الجاري (2020)، ليدخل الصراع السوري مرحلة أكثر تعقيدًا من التأزم وفرض العقوبات والضغوط الرامية لتقييد التدخلات الخارجية ووقف تقدم النظام. وقد اختلفت بنية قانون “قيصر” بشكل واضح عما سبقه من تحركات مشابهة؛ إذ تطرق بشكل تفصيلي لاستهداف دمشق وقيادات مؤثرة بالنظام وبعض قطاعات ومؤسسات الدولة، إلى جانب موسكو وعدد من المسئولين الروس، بالإضافة إلى طهران ووكلائها المنخرطين بالأزمة. ونتناول في هذا المقال أبرز مضامين قانون “قيصر” والعقوبات التي يشتمل عليها، وتداعيات القانون على تحركات النظام الإيراني ووكلائه الإقليميين.
“قيصر”.. حِزَم عقابية ممتدة التأثير
مرر الكونجرس الأمريكي “قانون قيصر لحماية المدنيين في سوريا”، في ديسمبر 2019، وأجازه الرئيس الأمريكي في 20 من الشهر ذاته، ليدخل حيز التنفيذ بعد 6 أشهر من ذلك التاريخ. استند هذا التشريع إلى شهادات موثقة قدمها أحد المصورين العسكريين السابقين بالجيش السوري، والمعروف حركيًا باسم “قيصر”، تضمنت قُرابة (55) ألف صورة مسربة لعمليات تعذيب وجرائم تمثل انتهاكًا لحقوق الإنسان في سوريا. ويستهدف القانون الأفراد والمؤسسات والدول التي تقدم أي شكل من أشكال الدعم للنظام السوري، من خلال حزم من العقوبات الاقتصادية والدبلوماسية على المتعاملين مع دمشق في أربعة قطاعات رئيسية (هي: البناء، والنفط، والطيران، والهندسة)، وتتضمن العقوبات قيودًا على السفر وغرامات مالية.
ووفقًا لبيان الخارجية الأمريكية، الصادر في 17 يونيو 2020، شملت حزمة العقوبات الأولى (39) شخصًا وكيانًا، أبرزهم: الرئيس السوري “بشار الأسد” وزوجته “أسماء الأسد”، و”ماهر الأسد” شقيق بشار وقائد الفرقة الرابعة بالجيش، و”بشرى الأسد” شقيقة بشار، و”منال الأسد” زوجة ماهر الأسد. كما شملت قائمة المعاقبين “محمد حمشو” رجل الأعمال المُقرّب من النظام، وزوجته “رانيا الدباس”، وأبناءه “محمد” و”أحمد” و”عمرو” و”علي” و”سمية” حمشو. بالإضافة إلى عدد من الكيانات العسكرية وقياداتها، ومنهم “الفرقة الرابعة” بالجيش السوري، ولواء “الفاطميين” الأفغاني الموالي لإيران. ومن ضمن القيادات المعاقبة أيضًا “غسان بلال” مدير مكتب الأمن في الفرقة الرابعة، و”سامر الدانة” القيادي بالفرقة ذاتها.
وأكدت الولايات المتحدة أن الفترة القادمة ستشهد إعلان حزم عقابية جديدة تستهدف الأفراد والشركات الذين يدعمون النظام؛ كونهم معرقلين للحل السياسي السلمي للصراع، وأن واشنطن مُلتزمة بالعمل مع الأمم المتحدة والشركاء الدوليين لتقديم المساعدة للشعب السوري. كما أكدت واشنطن أن هذه العقوبات لا تستهدف المساعدات الإنسانية، ولا تعوق أنشطة الاستقرار في شمال شرق سوريا. كما صرح مسئولون أمريكيون بأن القانون حدد مجموعة من الإجراءات التي يجب على النظام السوري اتباعها للمضيّ قدمًا نحو رفع هذه العقوبات، وتتضمن الإفراج عن السجناء السياسيين، ووضع حد للضربات الجوية التي تستهدف المدنيين، وعودة اللاجئين، وتشكيل حكومة جديدة “تحترم سيادة القانون وحقوق الإنسان”.
إيران واستباق العقوبات.. نحو لا مركزية ارتباط الوكلاء
نجحت إيران في نسج شبكة متعددة الأبعاد والأطراف من الوكلاء الإقليميين، ما مكنها من التأثير والتدخل بالتحولات والصراعات الجارية بالشرق الأوسط. ومع بروز العديد من المتغيرات داخل إيران والمنطقة، أصبح الاعتماد الإيراني على وكلائها محدِّدًا رئيسيًا في التعاطي الإيراني إقليميًّا. ومع تعاقب الأحداث أدركت إيران أهمية اتخاذ موقف استباقي من خلال انتهاج سياسة توسيع مساحات حركة الوكلاء، مع الاحتفاظ حصريًّا بالمرجعية العقائدية كأساس للارتباط، ما جعلنا نشهد تحولًا في علاقتها بأذرعها انتهى إلى حالة من المرونة الكبيرة والاعتماد المتبادل بين الوكلاء وبعضهم بعضًا.
واتبعت طهران في البداية استراتيجية “الربط المركزي بين الوكلاء وطهران”، أي ربط كل وكيل مباشرةً بها عبر إسناد التمويل والتوجيه من قيادات بالحرس الثوري، والاتصال الخطي بين رؤوس تلك المجموعات ودوائر السلطة العليا، كالمرشد الأعلى ورئيس الدولة والحكومة. ومع حاجتها لإظهار سلوك منضبط بعد انفتاح إدارة “أوباما” على الحوار معها، تحولت إلى نمط جديد، حيث بدأت في رسم خطوط اتصالية تربط الوكلاء ببعضهم بعضًا بإشرافها، وإدارة تدفقات الدعم عبر حلقات الوكلاء. ومع اتباع إدارة “ترامب” سياسة الضغوط القصوى، حاولت إيران تخفيف ارتباطها بأذرعها الإقليمية بشكل أكبر، لتتحول إلى استراتيجية عالية المرونة، من خلال نموذج قائم على استقلال تحركات وكلائها بشكل واسع، مع احتفاظها بقدر من الانخراط يضمن بقاءهم داخل دائرة مصالحها. بالإضافة إلى توجيه تلك المجموعات لتأسيس نماذج اقتصادية مستدامة تضمن توفير تمويل يلائم احتياجاتهم، وربط حلفائها معًا عبر نموذج تمويلي تكافلي يرفع من حجم الاعتماد المتبادل فيما بينهم.
وفي الوقت الراهن، ما زالت الاستراتيجية الأخيرة هي موضع التنفيذ. وتوفرت العديد من الأدلة على أن تلك الاستراتيجية حققت لدى الوكلاء درجة عالية من المرونة والمناورة والنفاذية بشكل تبادلي، انطلاقًا من تحرك “حزب الله” اللبناني لتقديم الدعم التدريبي والفني للحوثيين في اليمن، وإدارة عناصره لعمليات تهريب المحروقات عبر الحدود اللبنانية-السورية، والزج بقطاع واسع من مقاتليه إلى الساحة السورية وتمركزهم بشكل متسق مع باقي الفرق الشيعية الموالية لإيران. كما سعت التشكيلات العسكرية الأخرى -الموالية لإيران- لبناء كيانات اقتصادية ذاتية تعتمد على موارد خاصة مثل تهريب المحروقات والسلع والبضائع، ثم مبادرة “الحوثي” لتدشين حملة تبرعات كبرى لدعم المجهود الحربي لـ”حزب الله”، إبان الأزمة المالية التي يعاني منها الأخير. فضلًا عن بدء بعض فصائل “الحشد الشعبي” بالعراق التموضع بمناطق صحراوية شمال غرب الأنبار، وإحكام السيطرة على الممرات الحدودية وغيرها من الطرق المستخدمة لعبور البضائع والسلع، ما منحه تدفقات مالية كبرى.
ويحقق النمط الحالي من إدارة أنشطة وكلاء إيران العديد من الأهداف للطرفين، فهو يجنب طهران المسئولية التي قد تترتب على تحركاتهم أمام المجتمع الدولي، ويضفي على أنشطتهم طابع المواجهة المحلية المرتبطة بإشكاليات داخلية، ويُخرج طهران من دائرة العقوبات التي قد تمس الفواعل المباشرين في صراعات الإقليم. كما يسهم هذا الاتجاه في تخفيف العبء المادي الذي كانت تخصصه طهران لهم في وقت سابق، ولم يصبح باليسير استقطاع تلك الأموال من موازناتها في ظل تصاعد الأزمة الاقتصادية الداخلية لأسباب تتعلق بالعقوبات المفروضة عليها أو بتحديات مواجهة جائحة (كوفيد-19). أضف إلى ذلك ما يحققه الاعتماد المتبادل بين الوكلاء من مرونة دوائر الدعم والإسناد، وبالتالي ربط مسارات مشروعها الإقليمي بشكل هيكلي، ما سينتج مستقبلًا حالة من الارتباط العضوي بين مصالح طهران والعواصم التي يسيطر عليها هؤلاء الوكلاء، وينتهي إلى نموذج مصلحي عابر للوطنيات ما يمهد الطريق لصياغة السيطرة الإيرانية بشكل يصعب تفكيكه أو احتواؤه.
تداعيات “قيصر” على تحركات إيران ووكلائها
من المفترض أن يُحجّم دخول قانون “قيصر” حيز التنفيذ حدة التوغل الخارجي الداعم للنظام السوري، وبالتالي فإن القوات الروسية ووكلاء طهران المتداخلين بالصراع السوري سيتجهون إلى خفض درجات انخراطهم بالأزمة، والبحث عن أنماط بديلة لممارسة أدوارهم. وسيقود التحرك الأمريكي إلى عدة اتجاهات عمل يمكن أن تركز عليها إيران ووكلاؤها، وأبرزها التركيز على الداخل المحلي حيث تلتفت مجموعات الوكلاء للنظر والتحرك في ملفاتها الداخلية، وينصرف ذلك بشكل رئيسي إلى “حزب الله” الذي يواجه حراكًا مضادًا في الشارع اللبناني يرفض نشاطه في سوريا وتداعيات فرض الولايات المتحدة لعقوبات على أنشطته على الاقتصاد المتأزم. وكذلك جماعة “الحوثي” التي ستذهب إلى تكثيف أنشطتها الرامية لتوسيع نطاق سيطرتها بمحافظات اليمن، والبحث بشكل أعمق في توطيد ومأسسة نفوذها وبناء شبكة تحالفات مناطقية أوسع.
كما يبرز اتجاه إعادة تموضع بعض الوكلاء المنخرطين في القتال بسوريا بالمناطق الحدودية، ما ينصرف إلى بعض فصائل “الحشد الشعبي” العراقي و”حزب الله”، وهي عملية تستهدف الابتعاد عن دائرة المراقبة التي سترصد الفواعل في الصراع، ولكنها تحقق الاستعداد للتدخل سريعًا لدعم النظام وحفظ تقدماته التي حققها من قبل، بالإضافة إلى التصعيد ضد الأهداف الأمريكية وحلفائها، إذ ستحاول بعض تلك المجموعات التصعيد في الملفات التي تمس الوجود الأمريكي بالمنطقة، حيث ملف إخراج القوات الأمريكية من العراق. أضف إلى ذلك استهداف دول الجوار التي تمثل حليفًا استراتيجيًّا لواشنطن، وهو ما برز في استهداف جماعة “الحوثي” للعاصمة الرياض بهجمات باليستية ومسيرات مفخخة خلال الأيام الماضية. وليس ببعيد اختبار فرصة الدخول لساحات جديدة، حيث بدأت إيران في الاهتمام بمناطق جديدة كشمال العراق وليبيا، وربما يستهدف هذا التحرك إيجاد موطئ قدم قد يمنحها تمركزًا استراتيجيًا يتيح لها تقاربًا مع أنقرة. ومع اهتمامها بدعم حكومة الوفاق وميليشيات غرب ليبيا، ستمتلك أوراق ضغط بالغة التأثير ضد الأطراف التي تمارس ضدها سياسات عقابية، حيث الوصول إلى جنوب المتوسط وأوروبا، ما قد يمنحها مجال خلق وكيل جديد في ساحة الصراع المفتوحة ويبدأ في التوغل بشمال افريقيا.
***
ختامًا، القراءة السابقة لاتجاهات التحرك التي اعتمدها وكلاء طهران، فيما يتصل بنشاطهم في الملفات التي جرى تفويضهم للعمل فيها، تشير إلى أن تحركاتهم جاءت متماشيةً مع الأهداف الإيرانية، وبالتالي فإن خطى الوكلاء كانت موجهة، وإن صدر بعضها بشكل ذاتي، ما يكشف عن مستوى الارتباط بين إيران وأذرعها الإقليمية المتجاوز لحدود التوظيف، وصولًا لمراحل متقدمة من التماهي التكتيكي والاستراتيجي. ونستخلص من ذلك، أن عمليات إعادة التموضع الحدودية لـ”حزب الله” في سوريا وفصائل “الحشد الشعبي” بالعراق، بالإضافة إلى هجمات “الحوثي” داخل العمق السعودي، تؤكد أن التخوف من تأثيرات قانون “قيصر” على نشاط الوكلاء ببعض الساحات المتصلة بدعم النظام السوري، سيقود إلى تحريك إيران وأذرعها للعديد من الملفات التي شهدت كمونًا نسبيًا فيما قبل. كما أن مضامين قانون “قيصر” والعقوبات التي يشتملها وتداعياته ستخفض من حدة الحالة الصراعية في سوريا، ولكنها ستقود إلى تصاعد ديناميات الصراعات الإقليمية الأخرى، وقد تمسّ تداعيات ذلك التحول أمن المتوسط والأمن الأوروبي ذاته، ويخلق مساحة مواجهة جديدة بين إيران والولايات المتحدة وأوروبا وروسيا في خضم حالة السيولة والتراجع الأمني والتدخل الخارجي الذي تشهده ليبيا.