تُشكّل أزمة التدخل التركي في ليبيا تهديدًا استراتيجيًّا خطيرًا للأمن القومي المصري ولاستقلال ليبيا، وإضعافًا لفرص تجاوزها لمحنتها الراهنة منذ القضاء على نظام “القذافي”. وقد انعكس إدراك مصر لذلك في مجموعة الخطوات النشطة على صعيد التعاطي مع الأزمة، وهو ما بدأ بإعلان القاهرة لوقف إطلاق النار في ليبيا، ثم ما تلا هذا من تحذير الرئيس “عبدالفتاح السيسي” من أن سرت والجفرة خط أحمر لمصر، لتبدأ معه ديناميكية جديدة في المشهد الليبي. على أن خطورة الأزمة وطبيعتها تقتضي رؤية استراتيجية متكاملة. ويناقش هذا المقال الأسس الاستراتيجية لهذه الأزمة، ومعالم استراتيجية مصرية لمواجهة التدخل التركي.
أولًا- تحولات استراتيجية في الأزمة الليبية
1- على المستوى الدولي هناك منحى أكثر وضوحًا في اتجاه التنافس الروسي-الأمريكي. ونلاحظ أن هذا التنافس لم يغب أبدًا في السنوات الأخيرة. وقد كتبت منذ أكثر من عامين في أكثر من منبر بحثي وإعلامي أن تفسير بطء تسوية الأزمات في المنطقة يرجع إلى تحولها إلى ساحة للصراعات الدولية والإقليمية، كون الفاعلين العرب هم أقل الأطراف قدرة على إدارة هذه الصراعات. وقد تحول الموقف الأمريكي من شبه تفهم لوضع الجيش الليبي بقيادة “خليفة حفتر” ضد الميليشيات المتطرفة إلى دعم واضح للتدخل التركي المدعوم بهذه الميلشيات، التي شاركت واشنطن في مواجهتها في السنوات الأخيرة وعلى رأسها تنظيم “داعش” الإرهابي. وهذا الموقف الأمريكي ببساطة بغرض عرقلة تعزيز مكانة روسيا في ليبيا بالضبط مثلما حاولت منذ شهور تأجيل إعلان الانتصار الروسي في سوريا، وهو بالفعل ما حدث حتى الآن. ومن الجدير بالذكر أن واشنطن التي باتت تعتبر بكين هي الخصم الاستراتيجي الأهم تكتفي بسياسة التعويق في التعامل مع موسكو.
واستكمالًا لبعض أبعاد الموقف الدولي، يتبدى الموقف الفرنسي الذي بدأ من دعم الجيش الليبي و”حفتر” وينطلق الآن بقوة إلى مستوى متصاعد في تصعيد الخطاب السياسي والإعلامي ضد تركيا. ويسير بجوار هذا موقف أوروبي على درجة من عدم التجاوب وعدم التقبل للدور التركي، ولكنه يحمل مخاوفه من روسيا أيضًا، ويريد مواصلة دور حيادي وسائطي، وتقوده ألمانيا لاستعادة عملية برلين.
2- على المستوى الإقليمي الذي أصبح متوسطيًّا أكثر منه عربيًّا، ويمكن أن تكون هناك مساحة أخرى لفرنسا، هناك معسكران؛ الأول: المشروع التركي/العثماني المدعوم من واشنطن وقطر منذ البداية، ضد أغلب دول المنطقة، وفي أحد محاورها دول غاز شرق المتوسط بقيادة مصر ومعها فرنسا، وإيطاليا التي قادت مواقفها في ليبيا إلى اللا سياسة وانعدام الرؤية، أو بشكل أكثر دقة انسداد الطرق أمام هذه السياسة التي أثارت ضجة وهمية في بعض المراحل، ولكنها تخرج الآن كلاعب هامشي بدون رؤية استراتيجية مترابطة. ورغم ما تبديه إيطاليا من تحرك وضجة حاليًّا لا يبدو من صدى إلا محاولة تركيا تحييدها. هنا من المهم الإشارة إلى أن تركيا تخوض المعركة بمنظور استراتيجي يكمله ما سنعرضه في البند التالي. هذا بالإضافة لأطراف إقليمية عربية غرب المتوسط قامت برهانات خاطئة منذ البداية لتخرج أنفسها من القدرة على التأثير. وفي الواقع فإن تناول مواقف الجزائر وتونس والمغرب يحتاج إلى طرح مستقل.
3- على المستوى الفكري العقائدي، تدور المعركة أيضًا بوصفها المعركة الكبرى الأخيرة لمشروع الإسلام السياسي، الذي اختُزل الآن في المشروع التركي/العثماني الذي اصطفت خلفه تنظيمات الإخوان المسلمين في ليبيا وكل المنطقة، ومنها تونس المجاورة. كما انضمت إليه أيضًا تنظيمات العنف المعروفة من “داعش” و”القاعدة” في شكل مرتزقة مدفوعة الأجر. بمعنى آخر، لقد سقطت الأقنعة تمامًا عن هذه التنظيمات، سواء في العمل كمرتزقة أو فكريًّا بالتحول لخدمة مشروع توسعي. بل وصل الأمر إلى إفتاء مفتي ليبيا السابق “الصادق الغرياني” -وثيق الصلة بهذه الجماعات- بحق تركيا في التنقيب في أراضي وشواطئ ليبيا عن النفط والغاز، ليصل موقف هذا التيار إلى موقع بالغ التدني يتناقض مع الوطنية الليبية المعروفة تاريخيًّا باعتزازها باستقلال وطنها، وهو تناقض أيضًا بدأته حكومة “السراج” بتوقيع الاتفاقية غير الشرعية مع تركيا، والتي تمثل جريمة بحق التاريخ الليبي ما كان يمكن أن يقدم عليها إلا هذا التيار الذي يخوض معركته الكبرى الأخيرة.
4- إن أطراف هذا الصراع لن تدير الملف الليبي بشكل تكتيكي، وإنما بشكل استراتيجي بربط الملفات الإقليمية الأخرى وعلى رأسها الملف السوري وغيرها، بالضبط مثلما تربط كل من واشنطن وموسكو أبعاد التنافس بينهما في الساحات المختلفة. وفي الواقع فإن تركيا سبقت حتى روسيا في ربط ملفات المواجهة، عندما أعدت الساحة السورية كمنصة لإطلاق عناصر “داعش” و”القاعدة” منذ معركة مطار طرابلس 2014. وقلنا -آنذاك- إن هذا متغير جديد في إدارة الصراعات الإقليمية. وفي الواقع كان ردًّا على هزيمة مشروع الإسلام السياسي في مصر، وهي هزيمة كان البعض يتصور أنها نهاية للمشروع. وكان رأينا الذي طرحناه آنذاك، وكذا منذ بدء أو تفجر أزمة قطر، أن المعركة -للأسف- ما زالت مستمرة ما دامت هناك دول وأجهزة مخابرات كبرى تريد مواصلة توظيف هذه الأداة، أي الإسلام السياسي، رغم كل ادعاءاتها بأنها تحارب “القاعدة” و”داعش”. وفي الحقيقة فإن هذا يرجع ببساطة إلى أن هذه الدول أساءت بناء استراتيجيتها وأدواتها التكتيكية، ومن ثم أصبحت عاجزة عن إدارة ملفات الصراعات والتنافسات الإقليمية، وشعرت بأن نفوذها ينحصر في المنطقة، ولا تملك العمق التاريخي لأن تدرك أن هذه الأدوات هي التي ستعمق من هزيمتها التاريخية ولو بعد حين.
وتُشير هذه الخلفية السابقة إلى تحول الصراع بالنسبة للمعسكر التركي إلى معركة مصيرية صفرية، بما يفرض على المعسكر الآخر إدارة الصراع بنفس المنطق أو التعرض للخسارة.
ثانيًا- نحو رؤية استراتيجية متكاملة
تقتضي تطورات هذا الصراع -إذن- استراتيجية متكاملة تتضمن وضوح الرؤية، وملاءمة الأدوات الممكنة في هذا الصدد، وكذا تكاملية كافة أدوات إدارة الصراع من سياسية وعسكرية وإعلامية واقتصادية كذلك.
ونشير فيما يلي إلى بعض النقاط المهمة على طريق بناء هذه الرؤية:
1- تُعد المعركة السياسية، بما فيها من أدوات الدبلوماسية والاتصالات السياسية على أعلى مستوى، ضرورة متواصلة لمحاصرة الخصم. ومن الطبيعي أن تُبنَى هذه المعركة على القراءة الدقيقة للمواقف السياسية المحيطة بأطراف النزاع، واللعب على التناقضات الثانوية والفرعية.
2- يُعد الموقف الأمريكي ومواصلة الضغوط عليه من مصادر مختلفة عربية ودولية ضرورة لتحييد دافعه لتعقيد الموقف، وهو الدافع الروسي كما سبق. ويؤكد ذلك أن الجانب الأمريكي عدل من موقفه نسبيًّا بمجرد تصاعد الموقف المصري، وهو ما يعني أن على مصر مواصلة تحركها وكذا حلفائها الإقليميين تجاه مواصلة موقف أمريكي أكثر ملاءمة. علمًا بأن زيادة التواجد والحضور المصري في ليبيا من شأنه زيادة طمأنة واشنطن، كون هذا خصمًا من اللاعبين الآخرين. والجدير بالملاحظة -في هذا الصدد- أنه لا ينبغي ترك الساحة للضجة الفرنسية وحدها ضد تركيا، بل يجب مواصلة الضغط السياسي المصري من حيث الاتصالات والتصريحات، وهو ما سيقودنا في موضع لاحق لما يكمل هذا من ذراع إعلامي. كما تجدر ملاحظة أن الدبلوماسية الفرنسية يقودها الرئيس “ماكرون” نفسه بحماس لإدارة هذا الملف الذي تعطيه باريس أهمية سياسية واستراتيجية مستحقة بالنظر لما يتضمنه التدخل التركي من تهديد عميق للمصالح الفرنسية، ليس فقط في ليبيا وإنما متوسطيًّا وإفريقيًّا كذلك. وهنا، على مصر استثمار توافق المصالح مع فرنسا إلى أقصى حدٍّ ممكن في هذا الصدد.
3- من ناحية أخرى، فإن طبيعة الصراع ونمط التدخل التركي تفرض أهمية الأداة العسكرية، وهو بديل لا يمكن إلغاؤه أو استبعاده في هذا الصدد. على أن هذا البديل يعني منظومة معقدة رشيدة، ويشمل أنماطًا لا حصر لها من الاستخدام الرشيد للقوة العسكرية إذا اقتضى الأمر ذلك، وبحرفية عالية وبحسابات دقيقة قد لا تصل -وقد لا تكون بحاجة للوصول- إلى المواجهات المفتوحة مع ما يرتبط بهذا من عدم يقين كامل، علمًا بأن معطيات الساحة الليبية والجوار الجغرافي تقدم فرصًا جيدة للتوظيف الرشيد للأداة العسكرية وللتهديد بها. مع الأخذ في الاعتبار -كذلك- أن التهديد باستخدام القوة هو للردع، ولكن لا يعني بالضرورة اللجوء إليها. وفي الوقت نفسه، فإن مصداقية اللاعبين في أي صراع تتوقف على مصداقية تهديداتهم لو قام الطرف الآخر بتجاهل هذه التهديدات، ما يجعل من الخطورة بمكان ألا يترافق مع التهديدات عدم إمكانية التنفيذ، الذي نؤكد مرة أخرى على أهمية تخطيطه وفقًا لنمط معقد رشيد.
4- تُشكل الأداة الاتصالية أهمية فائقة في عالم اليوم، وكذا في أنماط الصراعات الجارية وسط فيضان المعلومات والاتصالات المتداولة حول العالم. وقد اصطفت قوى الإسلام السياسي وقنواتها الإعلامية والتواصل الاجتماعي لخدمة هذا المشروع. ويتبدى التحدي هنا من اعتياد العالم العربي مخاطبة الذات في مثل هذه الأمور، رغم أن السلوك التركي دائم ارتكاب الأخطاء التي يمكن توظيفها بشكل جيد، وآخرها -على سبيل المثال- لقاء “أردوجان” ومحافظ البنك المركزي الليبي. وثمة محاور مهمة لمضمون هذه الرسالة الاتصالية:
– كشف كل المعلومات المتاحة عن التنظيمات الإرهابية المنضوية تحت حكومة الوفاق، وتاريخ وتفاصيل الجرائم الإرهابية التي ارتكبتها هذه التنظيمات خلال تواجدها في مدن شرق ليبيا.
– مناقشة قضية الشرعية في ليبيا وتكرار الرسالة الاتصالية المشككة في عبارة الحكومة المعترف بها دوليًّا والتي سببت هذا الخلط.
– التركيز على الأطماع التركية الاقتصادية والممارسات التي تكشف هذه الأطماع، خاصة أن هناك سجلًا حافلًا بهذا الصدد لا ينبغي نسيانه.
– استثارة المشاعر الوطنية الليبية من شواهد الاحتلال التركي الواضحة لليبيا.
مع ضرورة الأخذ في الاعتبار أن الوظيفة السياسية والاتصالية يجب أن تتلاقى وتتكامل، فمضمون هذه الرسائل الاتصالية يجب توظيفها سياسيًّا واستخدامه في الاتصالات وفي رسائل للدول والمنظمات السياسية المختلفة، خاصة الأمم المتحدة والاتحاد الإفريقي، ونشرها إعلاميًّا على أقصى نطاق ممكن.
5- تبقى الأداة الاقتصادية، وهنا نؤكد أنه لا يتسق كل هذا التصعيد مع بقاء عدم المساس بالمصالح الاقتصادية التركية في المنطقة، بحجة أن هذه مسارات مختلفة. هنا يجب أن يكون الرأي العام العربي كله شريكًا في هذه المواجهة التي يمكن أن تكون جزءًا من حملة الضغوط، وتخلق عناوين فرعية مهمة في هذه المواجهة مثل مقاطعة بضائع الاحتلال التركي لليبيا.. إلخ، فلا يمكن النظر إلى هذا الصراع إلا بوصفه صراعًا شاملًا يحتاج إلى توظيف كل الأدوات.
وأخيرًا، فإن الحديث عن العلاقات بين الشعوب مردود عليه بأن الزمن وتراجع العدوان كفيل بإعادة كل التفاعلات الإيجابية مع الشعب التركي في المستقبل، والنماذج المماثلة لا حصر لها في التاريخ، ولكن الآن يجب إدارة المعركة بشكل استراتيجي شامل ووقف العدوان أولًا، وعدم التهاون في استخدام كل الأدوات الممكنة.