تعهّد رئيس الوزراء العراقي “مصطفى الكاظمي” منذ تكليفه بتشكيل الحكومة العراقية، في التاسع من أبريل 2020، بالعمل على أن تكون حكومته هي خط الدفاع الأول لحماية العراقيين، إضافةً إلى العمل على تحريك عجلة الاقتصاد وتوسيع الاستثمارات وتنويع الدخل وتشجيع الصناعة والزراعة والتجارة، وإحداث توازن في علاقات العراق الخارجية. وعليه تقدم “الكاظمي” إلى القوى السياسية في العراق بورقة بيضاء تتضمن مشروعه لحل وإدارة الأزمات في العراق.
أزمات عديدة
يرجع طرح الورقة البيضاء في هذا التوقيت إلى المشكلات والأزمات العديدة التي يشهدها العراق، والتي أدت إلى تصاعد الاحتجاجات في أكتوبر 2019، والتي تعددت ما بين أزمات اقتصادية وسياسية، وأخرى متعلقة بالبنية التحتية، وغيرها، ويمكن الإشارة إلى أهمها على النحو التالي:
١- انخفاض أسعار النفط : يعتمد الاقتصاد في العراق على صادرات النفط بشكل كبير، حيث شكل النفط أكثر من 60% من الناتج المحلي الإجمالي للدولة في عام 2019، لذا يتأثر الاقتصاد العراقي بصعود وهبوط أسعار النفط العالمية، والتي انخفضت إلى أقل من 30 دولارًا للبرميل في مارس 2020 .
٢- تضخم القطاع العام: ارتفع عدد موظفي القطاع العام إلى أكثر من ثلاثة أضعاف خلال الفترة من عام 2004 وحتى عام 2020، بالإضافة إلى ارتفاع نفقات رواتب الموظفين والمتقاعدين بنحو 400%، وتقدر هذه النفقات بنحو 74% من النفقات المقدرة في 2020، حيث يكلف القطاع العام 50 مليار دولار سنويًّا من الرواتب، هذا بالإضافة إلى أن شركات القطاع العام هي شركات خاسرة تعتمد على الدولة في تمويلها، وتعتمد الدولة في تقديم الخدمات بشكل أساسي على الشركات في القطاع الخاص، وأدى تأخر الدولة في سداد أموال القطاع الخاص إلى حالة من الإفلاس واسعة النطاق.
٣- أزمة قطاع الكهرباء : يعاني العراق من أزمة في قطاع الكهرباء، فهناك فجوة في العرض والطلب، ففي عام 2018 -على سبيل المثال- قدر متوسط الطلب بـ17.7 جيجا واط، مقابل 13.0 جيجا واط من الطاقة المنتجة الفعلية، مما أدى إلى لجوء بعض الأسر إلى مولدات الطاقة الأهلية، حيث تشير تقديرات وكالة الطاقة الدولية إلى إنفاق الأسر حوالي 4 مليارات دولار أمريكي على خدمات الكهرباء الإضافية من مولدات الطاقة الأهلية.
٤- الزيادة السكانية : شهد العراق زيادة في أعداد السكان بنسبة 53%، حيث ارتفع عدد السكان من 26.3 مليونًا في 2004 إلى 40.2 مليونًا في 2020 ، وهو ما فرض تحديات إضافية ممثلة في تلبية احتياجات الأعداد المتزايدة من السكان، والتخطيط لكيفية التعامل مع هذه الزيادة مستقبلًا في ظل ما سبق ذكره من مشكلات.
مضمون الورقة البيضاء
طرح العراق رؤية للإصلاح الشامل المالي والإداري خلال السنوات الخمس المقبلة تحت مسمى “الورقة البيضاء”، والتي تقوم على عدة محاور للإصلاح، أبرزها ما يلي:
أولًا- ترشيد النفقات وزيادة الإيرادات:
يهدف المحور الأول من الورقة إلى طرح حزم إجراءات تساعد في تحقيق الاستقرار المالي من خلال ترشيد النفقات، وذلك عن طريق تطبيق إجراءات فورية أو على المدى المتوسط، منها تقليص عجز الموازنة إلى نسبة مستدامة تقدر بـ3%، ويبلغ العجز الحالي 20% من الناتج المحلي الإجمالي، وتخفيض فاتورة الأجور والرواتب من 25% إلى 12.5% خلال ثلاث سنوات من خلال اقتصار عمليات التوظيف الجديدة على الضرورية جدًّا منها، وتحديد حد أعلى لرواتب الموظفين في الوزارات، وخفض الدعم الحكومي إلى 5%، علمًا بأن الدعم الحالي يبلغ 13% من الناتج المحلي.
وتعتمد الرؤية الإصلاحية لزيادة الإيرادات على مراجعة دعم الوقود للشركات العامة، وزيادة إيرادات الجمارك والضرائب من خلال تحسين الإدارة والتحصيل، وبيع بعض الأصول الحكومية بما يُحقق المصلحة العامة، وإصلاح صندوق التقاعد من خلال إيقاف تمويله من الموازنة، بالإضافة إلى تطبيق عملية حسابية اقتصادية لقيمة الكهرباء بما يتوافق مع أسعار الوقود الحقيقي في السوق العالمية، وتفعيل برنامج استرداد الأموال المهربة والمسروقة.
كما تهدف إلى إصلاح أنظمة الإدارة المالية من خلال تنفيذ إحصاء شامل لموظفي الحكومة من أجل تطبيق نظام إلكتروني للموارد البشرية مرتبط بأنظمة الرواتب وقواعد البيانات الأخرى، وإعادة النظر في تصميم وتمويل الموازنة الاستثمارية بما يضمن تمويل المشاريع خلال المدة المحددة له، وللحيلولة دون حصول تقاعس بتأثير تأخر إقرار وتطبيق الموازنة، وتمكين المؤسسات من إدارة مالية الدولة بشكل فعال ومستدام، وإنشاء مجموعة استشارية تضم خبراء اقتصاد ذوي خبرة دولية تساند إدارة وتقييم مسار عملية الإصلاح.
ثانيًا- إصلاحات هيكلية:
تهدف من خلال هذا المحور إلى إجراء إصلاحات اقتصادية كلية وفق أسس استراتيجية، وإعطاء الأولوية للقطاعات الاقتصادية المنتجة، وتوفير فرص عمل مستدامة عن طريق:
القطاع المالي: تأهيل القطاع المالي بما في ذلك إصلاح المصارف الحكومية، وتمكين المصارف الأهلية من لعب دورها المطلوب، وإنهاء دور المصارف الحكومية كذراع لتمويل الإنفاق الحكومي، والعودة إلى استقلالية هذه المصارف عن وزارة المالية، وتطبيق معايير المحاسبية الدولية. وتسريع وتيرة تطبيق الخدمات المصرفية الإلكترونية والخدمات المصرفية عبر الهاتف المحمول لتصبح الوسيلة الأساسية لنظام المدفوعات لتشجيع زيادة الوصول إلى الخدمات المصرفية، وتعزيز الشمول المالي، وتعزيز دور البنك المركزي في الإشراف على القطاع المصرفي وتنظيمه، وتبني آليات السوق في تحديد سعر الفائدة والأرباح للأسواق المالية العراقية.
هذا بالإضافة إلى الاتجاه نحو خصخصة بعض الشركات العامة بتحويلها إلى شركات مساهمة مختلطة لتحسين أدائها بما يتوافق مع المصلحة العامة، مما يقود إلى زيادة عدد الشركات المدرجة في السوق المالية، وزيادة الاستثمار الوطني والأجنبي المباشر في سوق العراق للأوراق المالية، وبالتالي زيادة واردات الدولة من إيرادات تلك الشركات.
القطاعات غير النفطية: منح الأولوية للقطاعات المحركة للاقتصاد والتي تمتلك حاليًّا مقومات أفضل للنهوض السريع، وتوفير فرص العمل، وتعزيز الناتج المحلي الإجمالي غير النفطي. وتشمل قطاعات الزراعة والغاز. وتهدف في قطاع الزراعة إلى تعديل قانون إيجار الأراضي الزراعية، وحل النزاعات حول الأراضي، وإيقاف المحسوبية في حيازة الأراضي، وتفعيل صندوق الإقراض الزراعي الميسر. بينما تهدف في قطاع الغاز إلى زيادة أنشطة الاستكشاف والتنقيب لزيادة الاحتياطات، بالإضافة إلى استقطاب المستثمرين لإقامة مجمع بتروكيمياويات يؤسس لمدينة وأنشطة صناعية، وتأسيس شركة غاز وطنية، وتعزيز إنتاج الغاز الوطني، وإنهاء الاعتماد على الغاز المستورد.
دعم القطاع الخاص: تمكين القطاع الخاص من أخذ دوره المطلوب في الإنتاج والنمو، وتحقيق القيمة المضافة، وتوفير فرص العمل من خلال الاهتمام بقطاع الشركات الصغيرة والمتوسطة، وجعلها قابلة للتطبيق من خلال خريجي الجامعات وموظفي الدولة والمتقاعدين، وتفعيل صندوق دعم القطاع الخاص وتقديم المساعدات غير المالية له، ودفع المستحقات المتأخرة على الحكومة للقطاع الخاص.
هيكلة الشركات العامة: هيكلة الشركات العامة الممولة ذاتيًّا، وتحويلها من عوامل ضغط على الاقتصاد والموازنة العامة إلى عوامل دعم لها، عن طريق خفض الدعم المالي للشركات العامة بنسبة 30% سنويًّا وحتى عام 2024.
توفير فرص عمل: تفعيل الأشغال العامة بهدف توفير فرص عمل سريعة، وزيادة إنتاجية القطاع العام، وامتصاص العمالة الفائضة والبطالة المقنعة، من خلال إعادة توجيه العمالة الفائضة إلى مشاريع البناء والبنية التحتية.
وضع استراتيجية للتعليم: وضع استراتيجية وطنية للتعليم والتدريب بهدف زيادة الإنتاجية وتوفير الموارد البشرية المطلوبة وفقًا لاحتياجات السوق، وربط مخرجات التدريب والتعليم بمدخلات سوق العمل المستقبلية.
ثالثًا- تحسين البنية التحتية:
تهدف الإجراءات المقترحة إلى تحسين البنية التحتية الأساسية في مجال الطاقة الكهربائية وقطاع الاتصالات بما يسهم في تحول العراق تدريجيًّا نحو الاقتصاد الرقمي، ومحاولة توفير البِنَى التحتية الرقمية عبر إدخال التكنولوجيا المتطورة للجيل الرابع والخامس، وكذلك تطوير قطاع النقل نظرًا لأهميته بالنسبة لحركة الأفراد والبضائع، والاهتمام بالمناطق الحرة والمدن الصناعية لتكون قادرة على جذب الاستثمارات وتوفير فرص العمل.
رابعًا- تحسين الخدمات العامة:
يهدف هذا المحور إلى توفير الخدمات الأساسية التي تشمل توفير المياه الصالحة للشرب والزراعة، واستكمال شبكات الصرف، وتوجيه الرعاية الاجتماعية، مع إعطاء الأولوية للشرائح الفقيرة، وحمايتها أثناء عملية الإصلاح وبعدها عن طريق إعادة رسم نظام الحماية الاجتماعية بشكل كامل، وتوحيد أنواع الدعم المختلفة بهدف ترشيدها وإيصالها لمستحقيها، وإصلاح نظام التقاعد من خلال بناء نظام تقاعدي موحد ومستدام ماليًّا يشمل كافة أبناء الشعب العراقي من العاملين في القطاع العام والخاص والتعاوني، وتشريع قانون جديد للتقاعد والضمان الاجتماعي، وتنفيذ خطة بناء المدارس لمواجهة النقص في أعداد الأبنية المدرسية.
خامسًا- التطوير الإداري:
تطوير الحوكمة والبيئة القانونية والإدارية لتمكين المؤسسات والأفراد من تطبيق الإصلاح عن طريق مراجعة وتعديل تنفيذ العقود الحكومية، بهدف تعزيز الكفاءة والشفافية، وإصلاح الإدارة العامة، وتطبيق قانون التوقيع الإلكتروني والمعاملات الإلكترونية.
الجدوى وردود الأفعال
أثيرت بعض ردود الأفعال في الداخل العراقي حول ملف الإصلاح، تمثلت في اتجاهين رئيسيين، هما:
اتجاه معارض يرى أن الإصلاحات المقدمة في الورقة البيضاء يتطلب إنجازها مدة من 3-5 سنوات وهي مدة لا تمتلكها حكومة رئيس الوزراء العراقي الحالي “مصطفى الكاظمي” وإنما هي حكومة مؤقتة، وأن هذا الملف يطيل عمر هذه الحكومة، ومن ثم بقاءها لتنفيذ تلك الإصلاحات، أو أن الأمر يتطلب أن تستكمل الحكومة القادمة ما قدمه الكاظمي من إصلاحات. أيضًا هناك انتقادات وُجّهت إلى الورقة لوجود العديد من الطبقات، منهم العاملون في القطاعات الخدمية والمشمولون بالرعاية الاجتماعية ممن سيقع عليهم ضرر جراء رفع الدعم الحكومي عن الكهرباء والمياه والمحروقات.
اتجاه مؤيد يرى أن الورقة تتضمن عددًا من المميزات من حيث تقليل الاعتماد على النفط، والاتجاه إلى قطاعات أخرى كالزراعة والصناعة والسياحة والجمارك والمنافذ الحدودية، والاهتمام بدور القطاع الخاص وتقديم الدعم له.
ختامًا؛ يمكن القول إن ملف الإصلاح أو ما سُمي بالورقة البيضاء مرهون بالإرادة السياسية وقدرتها على تنفيذها في ظل اختلاف الآراء حول هذه الورقة، واستفادة بعض القوى السياسية من استمرار الفساد في العراق، كما أن هناك دورًا خارجيًّا لا يمكن إغفاله، فربما تدعم الولايات المتحدة هذه الإصلاحات حفاظًا على مصالحها في العراق، بينما قد لا تلقى هذه الإصلاحات قبولًا من قبل إيران.
المصادر
[1] Iraq 2020: Country at the Crossroads,14 May 2020, available at: accessed on 18 October 2020.
[1] Louisa Loveluck and Mustafa Salim, Iraq’s economy is collapsing under the double blow of sinking oil prices and coronavirus lockdown, the washingtonpost,4 May 2020 available at: https://wapo.st/359Rje2 accessed on 17 October 2020.
[1] الورقة البيضاء “التقرير النهائي لخلية الطوارئ للإصلاح المالي”،10 أكتوبر 2020، متاح على الرابط : تاريخ الدخول 15 أكتوبر 2020.
[1] المرجع السابق.
[1] المرجع السابق.