بعد أيام من إعلان الحوثيين عن استئناف هجماتهم ضد السفن الإسرائيلية في البحر الأحمر، ردًا على استمرار الانتهاكات الإسرائيلية على غزة، شنت الولايات المتحدة الأمريكية غارات عنيفة على الحركة بداية من 15 مارس الجاري بأمر من الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب”، في هجمات هي الأولى من نوعها منذ تولي الرئيس “ترامب” منصبه، وهو ما يطرح تساؤلات حول دلالات التصعيد العسكري الأمريكي ضد الحوثيين.
هجمات متبادلة
لا تزال الضربات الأمريكية والحوثية مستمرة حتى كتابة هذه السطور، فعلى مدار الأيام الماضية، استهدفت الولايات المتحدة بواسطة طائرات مقاتلة من حاملة الطائرات “هاري إس ترومان”، الموجودة في البحر الأحمر، بالإضافة إلى طائرات هجومية ومسيرات انطلقت من قواعد إقليمية، مواقع متفرقة للحوثيين شمال غربي صنعاء ومناطق مدنية شرق العاصمة؛ حيث ضربت الهجمات الجوية والبحرية رادارات ودفاعات جوية وأنظمة صواريخ وطائرات بدون طيار ومراكز تدريب ومخازن أسلحة.
علاوة على ذلك، في هجمات هي الأولى من نوعها، استهدفت الغارات الأمريكية منازل قياديين في جماعة الحوثي، من بينهم “حسن عبد القادر شرف الدين”، المسئول عن المخلصات المالية لتجارة النفط والغاز لدى الحوثيين، و”علي فاضل”، وهو أحد قيادات الملاحة البحرية في غرف العمليات الحوثية، إلى جانب “عبد الملك الشرفي”، وهو من القيادات الأمنية التابعة لجهاز الاستخبارات العسكرية للحوثيين.
وفي السياق ذاته، أعلنت جماعة الحوثي استهداف حاملة الطائرات الأميركية “هاري ترومان” بعدد من الصواريخ والمسيرات ثلاث مرات ابتداءً من 17 حتى 19 مارس الجاري. بالإضافة إلى ذلك، أعلنت الحركة أنها استهدفت قاعدة “نيفاتيم” الإسرائيلية الجوية بصاروخ باليستي فرط صوتي نوع “فلسطين 2”.
دلالات عِدّة
تصعيد ملحوظ: إن الضربات الأمريكية تعد تطور مهم، لا سيما أن العمليات العسكرية التي اشتركت فيها البحرية الأميركية والطيران الأمريكي جاءت مكثفة بالمقارنة بالضربات الأمريكية في عهد الرئيس السابق “جو بايدن”، فضلًا عن العدد الكبير من الأهداف التي لم تستهدف سابقًا، بما في ذلك استهداف قادة الحوثي، وهو ما يمكن اعتباره أنه اعتراف أمريكي بفشل سياسات الاحتواء السابقة.
خطاب تصعيدي: من الواضح أن الحوثيين والولايات المتحدة يتبنان خطابًا تصعيديًا، فمن ناحية، أكد الرئيس الأمريكي “ترامب” في منشور له على منصته “تروث Truth” أنه لن يتسامح مع هجوم الحوثيين على السفن الأمريكية، وسيستخدم القوة الساحقة حتى يحقق أهدافه، بالإضافة إلى ذلك، أرسل الرئيس “ترامب” رسالة لإيران مفادها ضرورة التوقف عن دعم الحوثيين؛ حيث قال “إن إيران ستتحمل المسئولية عن أي هجمات أخرى من جانب الحوثيين في اليمن”. وفي السياق ذاته، أوضح مسئول أمريكي أن الضربات الجوية الأمريكية على اليمن لن تكون لمرة واحدة، حيث قد تستمر الهجمات ضد الحوثيين لأيام أو أسابيع.
إلى جانب ذلك، أكد وزير الدفاع الأمريكي “بيت هيغسيث” “أن بلاده لن تتسامح مع هجمات الحوثيين”، كما صرح مستشار الأمن القومي الأمريكي “مايك والتز” بأن الولايات المتحدة قد تضرب أهدافًا إيرانية في اليمن كجزء من حملتها العسكرية ضد الحوثيين، وقال: إن الأهداف “التي ستكون مطروحة على الطاولة تشمل السفن الإيرانية القريبة من الساحل اليمني التي تساعد الحوثيين في جمع المعلومات الاستخباراتية، والمدربين العسكريين الإيرانيين”.
ومن ناحية أخرى، أكد المجلس السياسي الأعلى التابع للحوثيين أن “الهجمات الأمريكية لن تثنيهم عن دعم غزة، بل ستؤدي إلى تصعيد أكبر، وأضاف البيان أن العمليات البحرية اليمنية ستستمر حتى يتم رفع الحصار عن غزة وإدخال المساعدات الإنسانية، معتبرًا أن الغارات الأمريكية تمثل عودة لعسكرة البحر الأحمر وتهديدًا فعليًا للملاحة الدولية”. علاوة على ذلك، قال عضو المجلس السياسي للحركة “محمد البخيتي”: إن “تورط أمريكا في العدوان على اليمن غير مبرر، وسنقابل التصعيد بالتصعيد”.
تحجيم إيران: إن التصعيد الأمريكي تجاه الحوثيين يأتي في سياق السياسة الخارجية المتشددة لإدارة “ترامب” تجاه إيران ورغبة واشنطن في إعادة سياسة “الضغط القصوى” على طهران، في محاولة لإجبارها للجلوس على طاولة المفاوضات بشأن البرنامج النووي الإيراني؛ حيث إن العمليات العسكرية الأمريكية جاءت بعدما أرسل “ترامب” رسالة للمرشد الأعلى الإيراني “علي خامنئي” يدعو فيها إلى مفاوضات ويحذر من تحرك عسكري محتمل إذا ما رفضت طهران هذا العرض، وفي هذا الصدد، رد “خامنئي” على دعوة “ترامب” بالتأكيد على أن ما عرضه الرئيس الأمريكي ليس سوى خداع للرأي العام، متمسكًا بموقف إيران الرافض لأي محادثات تحت الضغط.
تطويق النفوذ: إن الحوثيين كانوا يستهدفون عمدًا السفن الغربية مع ضمان المرور الآمن للسفن الروسية والصينية، وهو ما يوضح أن إيران وروسيا والصين يريدون إعادة تشكيل النظام الإقليمي على حساب المصالح الغربية، وبالتالي قد يكون “ترامب” أراد أن يقضي على تلك المحاولات وإرسال رسالة تحذيرية لهم، لا سيما مع سعي كل من روسيا والصين إلى تعزيز نفوذهم في المنطقة، وهو ما يهدد المصالح الاستراتيجية الأمريكية بشكل مباشر، وعليه، قد يكون ذلك ما دفع واشطن نحو مزيد من العسكرة للمنطقة.
حرب أوكرانيا: كشفت تقارير استخباراتية أن الحوثيين يستخدمون تجارة البشر مقابل صفقات الأسلحة؛ حيث تقوم الحركة بتجنيد اليمنيين تحت وعود كاذبة بالعمل في روسيا، ثم يجدون أنفسهم في الحرب الأوكرانية، وبالتالي، قد تكون هذه محاولة من “ترامب” لتشتيت الحوثيين ومنعهم من إرسال اليمنيين للقتال في حرب أوكرانيا؛ نظرًا لرغبته في توقف الحرب، من ناحية، ولتطويق أي محاولة للتقارب بين روسيا والحوثيين لضمان عدم تسليحهم، من ناحية أخرى.
التعنت الإسرائيلي: يتزامن التصعيد الأمريكي-الحوثي مع استئناف إسرائيل للحرب على قطاع غزة، ويأتي قرار “نتنياهو” باستكمال الحرب في وقت لا يبدو فيه أنه سيتراجع عنه، لا سيما في ظل الضغوطات الداخلية المتزايدة، إذ ارتبط قرار “نتنياهو” بعودة الحرب بالسياسة الداخلية ورغبته في إنقاذ حكومته من السقوط، حيث يتزامن مع محاكمته بتهم فساد ومع اقتراب التصويت على قانون الميزانية.
وفي هذا الإطار، أتاحت العودة للقتال في غزة لـ “نتنياهو” تجنب المثول أمام المحكمة، علاوة على تقوية ائتلافه؛ حيث أعلن “بن غفير”، وزير الأمن القومي الذي استقال بسبب اتفاق وقف إطلاق النار والذي يقود حزب “القوة اليهودية”، انضمامه مجددًا إلى ائتلاف “نتنياهو”، ويمثل هذا الحزب أهمية لرئيس الوزراء في الوقت الحالي؛ لأنه يحتاج لأصوات الحزب لتمرير قانون الميزانية، إذ تملك حكومة “نتنياهو” مهلة حتى نهاية الشهر الجاري لإقرار الميزانية بتصويت نهائي، وإلا فإنها ستسقط ويتم الدعوة إلى انتخابات مبكرة.
الموقف الإيراني: بالرغم من تمتع الحوثيين باستقلالية عن إيران مقارنة بباقي وكلائها في المنطقة، فإنهم لا يزالون إحدى أهم الأدوات التي استخدمتها طهران في صراعها الإقليمي، وفي الوقت الحالي، تحتاج إيران لهم أكثر من أي وقت مضى، لا سيما بعد سقوط “بشار الأسد” والضربات الموجعة التي تعرض لها حزب الله، وعليه، فإن الحوثيين يعتبرون آخر ذراع إقليمي لها تراهن عليها لخوض معارك بالوكالة. ولكن وفي الوقت نفسه، هذا التحول في الموقف الأمريكي يضع إيران أمام موقف صعب؛ حيث إذا قررت طهران دعم الحوثيين، قد تدخل في مواجهة مباشرة مع الولايات المتحدة، وهو ما قد يكون مكلفًا في ظل الاضطرابات الاقتصادية الداخلية، أما إذا رضخت للتهديدات الأمريكية فذلك يعني قبولها بتراجع نفوذها الإقليمي. وفي هذا الإطار، قد يكون من غير المرجح أن تتوقف جماعة الحوثي عن هجماتهم إذا ما قررت إيران التراجع خطوة للوراء؛ حيث في الوقت الذي حذرت فيه طهران وكلاءها في العراق من المضي قدمًا في الهجمات ضد القواعد الأمريكية سابقًا، كان الحوثيون يواصلون تهديدهم للملاحة البحرية واستهدافهم للمصالح الأمريكية والإسرائيلية.
القدرات الحوثية: قد يكون الحوثيون اتخذوا من وقف إطلاق النار في غزة وتوقف هجماتهم على إسرائيل وعلى البحر الأحمر، قبل استئناف الحرب، ذريعة لإعادة ترتيب صفوفهم؛ إذ إن الحركة عملت في الفترة الأخيرة على تعزيز قدراتها العسكرية من خلال الدعم الإيراني والروسي والتنسيق مع حركة الشباب، فضلًا عن حملات التجنيد الواسعة، علاوة على ذلك، منذ تدخلهم في الصراع الدائر في المنطقة، ازدادت القوة السياسية للحوثيين، عبر اكتساب مزيد من الشعبية من منطلق دعم الحركة للقضية الفلسطينية، بما في ذلك القوة العسكرية، فعلى سبيل المثال، ارتفع عدد مقاتلي الحوثيين من 220,000 في عام 2022 إلى حوالي 350,000 بحلول أواخر عام 2024، وأصبح لديهم القدرة على ضرب أهداف بعيدة المدى باستخدام الطائرات المسيرة والصواريخ الموجهة بدقة.
ختامًا، يبقى من غير الواضح إذا كانت الضربات الأمريكية ستنجح في ردع الحوثيين، أم أنها ستؤدي إلى مزيد من التصعيد في المنطقة، بالإضافة إلى ذلك، فإن التحركات الإيرانية تجاه التصعيد الأخير لا يزال يكتنفها الغموض، لا سيما مع صعوبة تقبل إيران لتراجع نفوذها الإقليمي. كما يبدو أن الحرب في غزة لا ترتبط، في الوقت الحالي كما كانت في عهد “بايدن”، بالتصعيد الأمريكي-الحوثي؛ حيث يبدو أن “ترامب” عازم على التخلص من تهديد الحوثيين، حتى إذا كفت الحركة عن هجماتها إذا توصلت حماس وإسرائيل لوقف إطلاق النار، وهو ما يبدو مستبعدًا في الفترة القادمة؛ نظرًا لحسابات “نتنياهو” الداخلية.
باحثة بوحدة الدراسات العربية والإقليمية