وقّع مجلس سوريا الديمقراطية “مسد” وحزب الإرادة الشعبية مذكرة تفاهم يوم الحادي والثلاثين من أغسطس 2020 في العاصمة الروسية “موسكو”. أعقب ذلك تسليم وزير الخارجية الروسي “سيرجي لافروف” نسخة من المذكرة إلى “جير بيدرسون” المبعوث الأممي إلى سوريا. وتؤكد الوثيقة على الوحدة السورية أرضًا وشعبًا، وما يتسم به المجتمع السوري من تنوع، وأن الحل السياسي هو المخرج الوحيد من الأزمة السورية.
كما أكدت الوثيقة أيضًا أهميةَ الاستفادة من تجربة الإدارة الذاتية إيجابًا وسلبًا، كشكل من أشكال سلطة الشعب في المناطق. وأخيرًا، كان التأكيد على محورية دور الجيش السوري، وضرورة إشراك مجلس سوريا الديمقراطية في العملية السياسية السورية بكافة تفاصيلها.
تشابكات قائمة
استنادًا إلى ما تقدم، يمكن الوقوف عند عدد من النقاط المتشابكة، والتي تُلقي بظلالها على تعقيدات المشهد السوري.
1- أطراف الوثيقة
ينصرف الحديث هنا بشكل أساسي إلى الطرفين الموقِّعين على المذكرة. فعلى الرغم مما يبدو عليه الأمر من رعاية روسية، ولكن بشكل رسمي، فقد أُبرم الاتفاق بين مجلس سوريا الديمقراطية وحزب الإرادة الشعبية. ولاحقًا، أبدت موسكو دعمها للاتفاق بين الطرفين.
يُعتبر مجلس سوريا الديمقراطية الممثل السياسي لقوات سوريا الديمقراطية، وينضوي تحته مجموعة من الأحزاب السياسية الكردية، أبرزهم حزب الاتحاد الديمقراطي، وتشكل الوثيقة الجديدة اختراقًا لما هو قائم من حالة مقاطعة سياسية يعانيها الحزب والمنظمات التابعة له، لا سيما منذ الإعلان عن الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا عام 2014.
من ناحية أخرى، يأتي توقيع مذكرة التفاهم في سياق ما هو قائم من مفاوضات كردية-كردية، برعاية أمريكية-فرنسية، ما بين حزب الاتحاد الديمقراطي والمجلس الوطني الكردي، وتأسيس الأخير بمشاركة كتل سياسية كردية وعربية وأشورية “جبهة السلام والحرية” شرق الفرات. وعليه، قد تبدو تلك المذكرة كمحاولة من جانب الاتحاد الديمقراطي لتدعيم موقفه التفاوضي مع المجلس الوطني الكردي خلال المراحل المقبلة، حيث توسيع دائرة داعميه، سواءً محليًّا سوريًّا أو دوليًّا، ومن ثمّ الدفع في اتجاه إشراكه بشكل فعّال داخل الحوار السياسي والدستوري السوري.
أما فيما يتعلق بحزب الإرادة الشعبية، فيندرج الحزب ضمن ما يُعرف بـ”منصة موسكو” للمعارضة السورية، بل وأن من قام بالتوقيع على الوثيقة من هذا الجانب هو “قدري جميل” رئيس منصة موسكو وعضو هيئة رئاسة حزب “الإرادة الشعبية”، ويُنظر إلى الحزب والمنصة باعتبارهما مقربين من روسيا. وفي هذا الإطار، يتم اتهام المنصة بين حين وآخر بعرقلة جهود “هيئة التفاوض”، إذ ترفض المنصة الحديث عن مصير “الأسد”، الأمر الذي تعتبره “الهيئة” أساسًا في أي مرحلة انتقالية. وتطور الأمر لاحقًا إلى إسقاط عضوية ممثل منصة موسكو “مهند دليقان” من لجنتي الدستورية وهيئة التفاوض، على خلفية طلبه نقل اجتماعات الدستورية من جنيف إلى دمشق.
2- مضمون الوثيقة
لم تتطرق المذكرة إلى موقف الطرفين من “النظام السوري” بشكل واضح، ولكن آثر الطرفان توضيح رؤاهما بشأن كيفية إدارة الدولة السورية. يرى الطرفان أنه من الأفضل للدولة السورية خلال الفترة المقبلة تطبيق النظام اللا مركزي الذي يضمن ممارسة الشعب لسلطته المباشرة في المناطق، ويحقق الاكتفاء الذاتي والتوزيع العادل للثروات والتنمية في عموم البلاد، في حين تطبق الدولة النظام المركزي فيما يخص الشئون الأساسية (الخارجية، الدفاع، الاقتصاد).
كما أثنت المذكرة على تجربة الإدارة الذاتية في شمال وشرقي سوريا، وأن تطبيق هذا النموذج قد نتج عن “ضرورة موضوعية وحاجة مجتمعية”. بل ويصبح من المهم النظر إلى تلك التجربة بغرض الاستفادة أولًا، ثم تطويرها على المستوى الوطني العام ثانيًا، وذلك فقط في حال تحقق توافق بين السوريين بشأن تطبيقه.
كما أكد الطرفان أن الجيش السوري هو المؤسسة الوطنية العامة التي ينحصر بها حمل السلاح ولا يتدخل بالسياسة. وينبغي أن تكون قوات سوريا الديمقراطية منخرطة ضمن هذه المؤسسة على أساس صيغ وآليات يتم التوافق عليها.
يُمثّل الحديث عن تطبيق النظام اللا مركزي بالشكل الوارد بالوثيقة تحولًا نسبيًّا في موقف قوات سوريا الديمقراطية. فحتى وقت قريب، تحدث “مظلوم عبدي” عن شرطين للتوصل مع النظام إلى اتفاق: “الأول، أن تكون الإدارة القائمة حاليًّا (الإدارة الذاتية للأكراد) جزءًا من إدارة سورية عامة، ضمن الدستور. والثاني، أن تكون لقوات سوريا الديمقراطية -كمؤسسة- استقلالية، أو أن تكون لها خصوصيتها ضمن منظومة الحماية العامة لسوريا، وأن يتمّ الاندماج هذا دون فقدان “قسد” لشكلها التنظيمي العسكري، وانتشارها الميداني”.
يبدو أن “عبدي” قد خفّض من سقف شروطه السياسية للحوار. فكما هو موضح، ربطت الوثيقة إعلان قيام الإدارة الذاتية بـ”الحاجة الموضوعية”، وأن مسألة الاستفادة أو الإبقاء على الإدارة الذاتية مرهون بما يتفق عليه السوريون. تبع ذلك تأكيد الوثيقة حصر حمل السلاح في الجيش السوري، الذي من الضروري أن يندمج تحت لوائه قوات سوريا الديمقراطية دون فرض لصيغة معينة، وإنما من المفترض أن يتم أمر الاندماج أيضًا وفقًا لما يتم التوافق عليه.
من ناحية أخرى، أقرّ الطرفان بضرورة العمل على إنهاء كافة العقوبات، وإنهاء أشكال التدخل الخارجي، وخروج كافة القوات الأجنبية من الأراضي السورية. وتتبنّى كافة القوى السياسية السورية -سواءً من ناحية النظام أو المعارضة- هذا المبدأ في خطابها. ولكن بالنظر إلى الواقع، يستمد كل طرف من هؤلاء الأطراف قوته من أحد الأطراف الخارجية الفاعلة، بما فيهم النظام نفسه.
وبالعودة إلى المذكرة، من المحتمل أن يكون إدراج هذا البند بمثابة محاولة من الجانب الكردي للتقارب مع السوريين أنفسهم بشكل عام، ومع النظام السوري الرافض للوجود الأمريكي بالشمال السوري، والمتضرر بالطبع مما هو مفروض عليه من عقوبات أمريكية أو أوروبية. من ناحية أخرى، يبدو هذا البند وكأنه موضع للتوافق بين قوات سوريا الديمقراطية والنظام السوري في عدائهم ورفضهم للوجود التركي العسكري بمدن شمال غرب سوريا.
3- تفاعلات دولية مصاحبة
جاء توقيع مذكرة التفاهم في سياق يتسم بتداخل تفاعلات القوى الدولية داخل الأراضي السورية. قبل أيام من التوقيع، وقع صدام بين دورية أمريكية وأخرى روسية، في منطقة المالكية، وأسفر عن إصابة عدد من الجنود الأمريكيين. هذا الصدام ليس الأول من نوعه بين القوتين في مناطق شمال شرق سوريا، ولكن ما ينذر بالخطر هو مسألة إصابة الجنود، وما قد يحمله من تبعات ثأرية بغرض إثبات القوة.
واتصالًا بمسألة استمرار الوجود الأمريكي في سوريا، كشفت صحيفة أمريكية في أوائل شهر أغسطس عن اتفاق بين الإدارة الذاتية لمناطق شمال شرقي سوريا وشركة “دلتا كريسنت إل إل سي” الأمريكية لتطوير حقول رميلان النفطية الواقعة في أقصى شمال شرقي سوريا لمدة 25 سنة قابلة للتجديد. وقد أدانت الخارجية الروسية هذا الاتفاق باعتباره مخالفًت لسيادة سوريا واستقلالها.
وبالانتقال إلى العلاقات الروسية التركية، يبدو من التطورات في منطقة إدلب استعادة الطرفين لتوافقهما السابق. يستدل على ذلك بالتزام الطرفين حاليًّا بالحفاظ على الهدوء في إدلب، وذلك عبر إجراء عدد من التدريبات العسكرية المشتركة، وهو ما يعد تطورًا ملحوظًا في هذا الشق التعاوني. فقد كان من الملاحظ خلال الفترة اللاحقة للاتفاق الروسي التركي الخاص بوقف إطلاق النار في إدلب (مارس 2020) عدم وجود أي تنسيق بين الجانبين في شأن تسيير الدوريات المشتركة، بل وحتى وقت قريب في منتصف أغسطس الماضي، أعلنت روسيا -بشكل مفاجئ- تعليق مشاركة قواتها في الدوريات التي تسيّرها مع الجيش التركي على طريق حلب-اللاذقية الدولي (إم-4)، وذلك بعد يومين فقط من استئناف هذه الدوريات لمهامها، بدعوى تزايد هجمات المسلحين ضد مواقع قوات النظام، ومواصلة استفزازاتهم قرب الطريق المذكور.
ملاحظات على هامش التوقيع
على الرغم مما يبدو من انخفاض الأهمية النسبية لمذكرة التفاهم في مسار الحل السياسي السوري، أو في شأن انخراط مجلس سوريا الديمقراطية ضمن اللجنة الدستورية؛ ولكن -في الوقت ذاته- تحمل المذكرة شكلًا من الأهمية بالنسبة للأطراف الفاعلة، وعلى الأخص بالنسبة لروسيا، وقوات سوريا الديمقراطية.
فمن ناحية، تسعى روسيا إلى تأكيد وضعها باعتبارها الفاعل المهيمن والأقوى في ملف الأزمة السورية، سواءً بالنسبة للأطراف السورية الوطنية، أو في مواجهة الأطراف الدولية المشاركة.
كما تُبدي روسيا انفتاحها على الحوار مع كافة الأطراف الأخرى، سواءً المعارضة من خلال استقبالها لمنصة موسكو، أو الأكراد عبر إعلانها مسبقًا عن استعدادها للتوسط نحو إجراء حوار كردي كردي، هذا إلى جانب إجرائها لقاءات تشاورية معهم بين حين وآخر. كان آخر تلك اللقاءات قبل أسبوعين من توقيع المذكرة. فبحسب موقع “باسنيوز الكردي”، شارك باللقاء الأخير شخصيات كردية، بهدف منح الأكراد السوريين الحقوق الثقافية والاجتماعية والسياسية، ومشاركتهم في الحكومة السورية بدمشق، مقابل دعمهم للمشروع الروسي والتحالف معه.
وعلى الرغم مما رُوِّج مؤخرًا عن وجود خلاف بين روسيا والنظام السوري، ولكن تعبر الزيارة الأخيرة لوزير الخارجية الروسي “سيرجي لافروف” إلى دمشق عن تأكيد الجانب الروسي على استمراره في تدعيم علاقاته مع النظام السوري، خاصة فيما يتعلق بالشق الاقتصادي الذي كان له حيز كبير من النقاش خلال الزيارة، حيث الاتفاق على مشاريع إعادة الإعمار، إلى جانب العمل على استعادة حوالي 40 منشأة من منشآت الطاقة في سوريا. وأخيرًا، مساعدة سوريا في كسر الحصار الاقتصادي الناتج عن العقوبات الأمريكية الجديدة المفروضة في إطار “قانون قيصر”.
وعلى خلاف ما هو قائم من زخم في مجال التعاون الاقتصادي، ولكن لم يبدُ وجود مثل هذا الزخم عند الانتقال لمناقشة الجانب السياسي. فقبيل الزيارة، سادت تكهنات حول وجود رؤية روسية كاملة ستتم مناقشتها خلال الزيارة لدفع العملية السياسية في البلاد، وإطلاق آليات تنفيذ القرار رقم 2254 بكل تفاصيله المتعلقة بالتعديل الدستوري وعملية الانتقال السياسي والتحضير للانتخابات. ومع ذلك، لم تتضح تلك الرؤية خلال المؤتمر الصحفي المنعقد على هامش الزيارة.
فمن ناحية، عمل النظام السوري عبر متحدثه بالمؤتمر (وزير الخارجية وليد المعلم) على إبداء انفتاح حكومته على كافة الآراء الهادفة إلى حلحلة الأزمة، بل والموافقة على ما سيتم التوافق عليه بين القوى السياسية المشاركة باللجنة الدستورية، حتى وإن تم الاتفاق على تغيير الدستور. ومع ذلك، أبدى النظام تحفظه على الاتفاق ما بين “مسد” وحزب الإرداة الشعبية، وذلك حين صرح المعلم بأن “أي اتفاق يتعارض مع الدستور السوري لا ندعمه”، وذلك على خلاف ما أبداه وزير الخارجية الروسي من إشادة بالاتفاق.
وبالعودة إلى ما تحمله مذكرة التفاهم من أهمية بالنسبة لقوات سوريا الديمقراطية، يمكن الإشارة إلى وجود العديد من الدلالات التي قد يكون لها تأثير جدي على مستقبلهم السياسي داخل الأراضي السورية:
1- تتباين التحليلات بشأن دافع “قسد” إزاء توقيع مذكرة التفاهم، ينصرف التحليل الأول إلى وجود رغبة لدى قيادات “قسد” نحو توطيد علاقتهم مع الجانب الروسي تجنبًا لأي تغير في الموقف الأمريكي، خاصة في ظل اقتراب انتخابات الرئاسة الأمريكية ورغبة الرئيس الأمريكي في تعزيز موقفه الانتخابي. بينما يستند التحليل الثاني إلى وجود اتفاق روسي أمريكي وراء توقيع تلك المذكرة، حيث لن تستطيع “قسد” إبرام هذا الاتفاق بمعزل عن التشاور مع الحليف الأمريكي. ولكن ما يضعف من حجة هذا الرأي هو ما تضمنه الاتفاق من بند رافض لكافة أشكال العقوبات والتدخلات الخارجية، وهو ما كان تفسيره المباشر منصبًّا بالأساس على تطبيق الولايات المتحدة لعقوبات “قانون قيصر”.
2- تأمل قوات سوريا الديقراطية من توقيع المذكرة إشراكها كعضو داخل اللجنة الدستورية، والمشاركة في النقاشات السياسية الجارية، فبحسب الرئيس المشارك لمجلس “سوريا الديمقراطية” “رياض درار”، قدم وزير الخارجية الروسي وعودًا حول مشاركة المجلس بشكل جدي في العملية السياسية التي تجري في جنيف السويسرية لإيجاد حلٍ نهائي للأزمة السورية.
ومع ذلك، شدّد “درار” على أن “التغييرات الطارئة التي تحصل على الأرض والتنافس القائم بين موسكو وواشنطن، إلى جانب التدخل الإقليمي من قبل أنقرة وطهران في الأزمة السورية، قد يقف عائقًا أمام أي تطوّر فعلي باتجاه مشاركتهم في عملية جنيف”.
وأخيرًا، لم يصدر عن تركيا أي موقفٍ مندِّدٍ أو رافض لما جاء بالمذكرة، إنما كان اعتراضها الوحيد منصبًّا فقط على استضافة موسكو لأعضاء من مجلس سوريا الديمقرطية، وهو ما يفتح الباب للتفكير حول وجود تفاهم روسي تركي سابق لتوقيع المذكرة، أو أن تركيا في انتظار رد أمريكي أكثر وضوحًا.
وفي النهاية، تظل كل الاحتمالات قائمة، سواء دخول قوات سوريا الديمقراطية إلى مسار المفاوضات الدستورية من عدمه، أو وجود توافق أمريكي روسي وراء هذا الاتفاق قد يأخذ شكلًا أكثر وضوحًا خلال الفترة المقبلة. لكن لا يمكن الجزم بأي احتمال منهما، ويمكن التفكير في حدوثه هو احتمال اتجاه النظام السوري خلال الفترة المقبلة إلى مزيدٍ من التجاوب بشكل أكثر انفتاحًا فيما يتعلق بالمسار السياسي للأزمة.