من المعروف أن جماعات الضغط التي تمثل المصالح الأجنبية تتمتع بتأثير متزايد -وغالبًا ما يكون ضارًّا أو غير أخلاقي- على كيفية صياغة الولايات المتحدة لسياستها الخارجية. في الكابيتول هيل، يمكن للمال والنفوذ أن يتفوقا على حسابات السياسة النزيهة، مما قد يضر بمصداقية الولايات المتحدة حول العالم. وعلى الرغم من أن بعض الحكومات الأجنبية الكبرى تواصل العمل بشكل أساسي من خلال سفاراتها في واشنطن، إلا أن ما يقرب من مائة دولة حول العالم تعتمد على جماعات الضغط لحماية وتعزيز مصالحها. ولا شك أن الثقافة الفرعية للعلاقات العامة وشركات المحاماة التي تقوم بهذا النوع من العمل تعني في حقيقتها خصخصة للدبلوماسية، مع تأثير متزايد على كيفية إدارة الولايات المتحدة لسياستها الخارجية الخاصة. إن أقوى جماعات الضغط التي تروج للمصالح الأجنبية تكون -تاريخيًّا- مدفوعة بمجموعات سكانية عرقية متماسكة في الولايات المتحدة، مثل: أرمينيا، والصين، واليونان، والهند، وإسرائيل، وتايوان، وأوكرانيا، وأيرلندا. حتى الدول التي لديها علاقات ثنائية قوية مع الولايات المتحدة، مثل أستراليا واليابان والنرويج، تحتاج إلى جماعات ضغط بالإضافة إلى سفاراتها، إذ يمكن لجماعات الضغط العمل داخل النظام بطرق لا يستطيع الدبلوماسيون ذوو الخبرة القيام بها.
إثيوبيا وعالم جماعات الضغط السياسي في واشنطن
ومع دخول مفاوضات سد النهضة إلى طريق مسدود، اتجهت حكومة رئيس الوزراء الإثيوبي “آبي أحمد” نحو تبني خيار ممارسة الضغط من أجل مناصرة الموقف الإثيوبي. وفي هذا السياق، تم توقيع اتفاق مع شركة المحاماة “بارنيز وثورنبيرج” Barnes & Thornburg في 30 يونيو 2020، وفقًا لسجلات وزارة العدل الأمريكية. وتبلغ قيمة العقد 130 ألف دولار أمريكي، ويستمر ثلاثة أشهر. هذه الشركة التي تم التعاقد معها من جانب 62 عميلًا في عام 2020 حتى الآن، بمبلغ إجمالي قدره 2.9 مليون دولار، هي حاليًّا ثاني أكبر شركة محاماة في ولاية إنديانا، كما تحتل المرتبة 90 على مستوى الولايات المتحدة. وتكمن مهمة الشركة في مساعدة السفارة الإثيوبية في ترتيب الاجتماعات مع المسئولين الحكوميين حول المسائل التي تهم السفارة، والمساعدة في التخطيط الاستراتيجي والدعوة لتلك المصالح. وتساعد الشركة العملاء المتعاقدين معها في بناء العلاقات مع الحكومة الفيدرالية، بما في ذلك الدفاع عن مصالح العملاء مع أعضاء وموظفي مجلس النواب ومجلس الشيوخ والمكتب التنفيذي للرئيس ومكتب نائب الرئيس، وكذلك العديد من الوكالات الفيدرالية. ومن الملاحظ أن العقد الجديد بين الشركة وحكومة إثيوبيا يمثل المرة الأولى التي يكون فيها لحكومة رئيس الوزراء “آبي أحمد” جماعة ضغط في واشنطن. فقد تم إنهاء عمل جماعة الضغط السابقة “إس جي آر للعلاقات الحكومية وكسب التأييد”، في 18 أبريل 2018، أي بعد أسبوعين من تولي “آبي أحمد” منصبه.
وفي خطوة لاحقة اختارت السفارة الإثيوبية في واشنطن عضوًا جمهوريًّا قويًا لتعزيز موقف إثيوبيا بشأن سد النهضة الإثيوبي، وهو المحامي “كريج بوركهارت”، وهو مؤيد مخلص للرئيس الأمريكي “دونالد ترامب”. وقد ترأس “بوركهارت” سابقًا جمعية المحامين الوطنية الجمهورية، كما قدم المشورة لفريق حملة ترامب قبل انتخابات عام 2016. لقد أقام عضو اللوبي الإثيوبي، الذي يعمل حاليًّا لصالح شركة “بارنز وثورنبرج”، علاقات قوية مع الإدارة الجمهورية الأمريكية السابقة أيضًا. ففي عام 2003، عين جورج دبليو بوش “بوركهارت” مستشارًا قانونيًّا لوزارة التجارة الأمريكية، قبل أن يتولى دورًا مماثلًا في مكتب الصناعة والأمن.
ويعتمد السفير الإثيوبي لدى الولايات المتحدة “فيتسوم أريجا” على شبكات “بوركهارت” في البيت الأبيض للحصول على أكبر تأييد ممكن للموقف الإثيوبي من سد النهضة. ومن المعروف أنه بعد فشل الوساطة الأمريكية، اكتفت الولايات المتحدة بمجرد مراقبة المفاوضات التي يشرف عليها الآن الاتحاد الإفريقي. ووصل الأمر إلى حد اتهام إثيوبيا لإدارة “ترامب” بدعم الرئيس “عبدالفتاح السيسي”. الآن، وبعد سنوات من المحادثات، يحرص رئيس الوزراء الإثيوبي على إنهاء هذه المسألة المصيرية لصالحه في أقرب وقت ممكن، وقد مُنح “بوركهارت” ثلاثة أشهر فقط للفوز بتأييد “ترامب” للموقف الإثيوبي.
تنظيمات الأمريكيين من أصل إثيوبي
لم تقتصر جهود رئيس الوزراء الإثيوبي في استمالة الموقف الأمريكي لصالحه على شركات العلاقات العامة والمحاماة مدفوعة الأجر، لكنها امتدت إلى استمالة جهود الأمريكيين من أصل إثيوبي. ففي 23 يونيو 2020، أصدرت الكتلة السوداء (من أصل إفريقي) أو “البلاك كوكس” في الكونجرس بيانًا أشادت فيه بالسد الإثيوبي باعتبار أن “له تأثيرًا إيجابيًّا في المنطقة”. وقد جاء البيان الذي طالب بدور استشاري للاتحاد الإفريقي بعد انهيار المحادثات التي رعتها الولايات المتحدة في فبراير الماضي. وجاء في البيان: “تحث الكتلة السوداء في الكونجرس الولايات المتحدة وجميع الجهات الدولية الفاعلة الأخرى على احترام اتفاقية إعلان المبادئ الثلاثية لعام 2015 الموقّعة بين مصر والسودان وإثيوبيا، والاستمرار في القيام بدور محايد، والسعي فقط للحصول على مشورة الاتحاد الإفريقي ودبلوماسيين على الأرض في المنطقة. على وجه الخصوص، يلعب الاتحاد الإفريقي دورًا محوريًا من خلال التأكيد لجميع الأطراف عن أن الاتفاق السلمي المتفاوض عليه يفيد الجميع وليس البعض فقط في القارة”.
كما هو الحال -عادةً- مع جهود الكونجرس في مثل هذه الأمور، لم تظهر رسالة البلاك كوكس من فراغ؛ إذ على مدى أشهر كانت منظمتان تعملان لصالح إثيوبيا في واشنطن هما “المجلس المدني الإثيوبي الأمريكي” و”شبكة المناصرة الإثيوبية”، تحاولان تصوير المطالب المصرية بشأن سد النهضة على أنها من ميراث الحقبة الاستعمارية، وهو الأمر الذي ترفضه إثيوبيا.
وقد لفتت جهود هذا اللوبي الإثيوبي انتباه القس “جيسي جاكسون”، الذي كتب خطابًا إلى رئيسة الكتلة السوداء في الكونجرس “كارين باس” (ديمقراطية من كاليفورنيا) لحثها على توجيه اللوم لمصر. يقول “جاكسون” في رسالته: “بصفتنا أمريكيين من أصل إفريقي، لدينا مسئولية أخلاقية لضمان أن حكومتنا.. تقف إلى جانب العدالة”. وأضاف أن “المواقف الحزبية لإدارة ترامب.. تجعل دفة الميزان تميل بشكل غير عادل لصالح مصر متجاهلة حقوق 110 ملايين إثيوبي في استخدام مياه النيل، التي تنبع في أراضيهم، للخروج من الفقر المدقع”. وفي 17 يونيو 2020، أرسلت المجموعتان الداعمتان لإثيوبيا خطابهما الخاص إلى “كارين باس”، حيث تم اتهام الرئيس “دونالد ترامب” بالانحياز لمصر. وجاء في الرسالة أنه “نظرًا لإلحاح مسألة الوقت، فإننا نسعى للحصول على دعمكم الذي لا يقدر بثمن في معالجة هذه المخاوف للتخفيف من حدة الصراع المحتمل الذي قد يزعزع استقرار المنطقة التي يسكنها 300 مليون شخص”.
بعد ثلاثة أيام فقط من هذه الرسالة، أي في 20 يونيو 2020، أعقبت المجموعتان الإثيوبيتان ذلك برسالة أخرى إلى مستشار الأمن القومي “روبرت أوبراين” نددتا فيها بتغريدة لمجلس الأمن القومي الأمريكي دعا فيها إثيوبيا إلى “إظهار قيادة قوية” و”إبرام صفقة عادلة” بشأن سد النهضة. وقد وصف اللوبي التغريدة بأنها “تقوض الدور المحايد الذي يجب أن تلعبه الولايات المتحدة كمراقب للمفاوضات الحالية”. وبعد أن أصدرت الكتلة السوداء بيانها، أشاد بها المجلس المدني الإثيوبي الأمريكي وشبكة المناصرة الإثيوبية على تويتر وفيسبوك. ولا شك أن هذه الحملة تمثل خطوة غير عادية بالنسبة للمجلس المدني الإثيوبي الأمريكي، وهي مجموعة غير ربحية مقرها كولورادو عملت لأول مرة مع “كارين باس” على تمرير قرار يدين انتهاكات حقوق الإنسان الإثيوبية في عام 2018. على أن المجموعة تجد نفسها الآن متحالفة مع حكومة رئيس الوزراء “آبي أحمد” فيما يتعلق بقضية سد النهضة.
إثيوبيا ليست جديدة على ممارسة الضغط على الحكومة الأمريكية. فقد كتبت مجلة “نيوزويك” -على سبيل المثال- في عام 2010، أن ضغط إثيوبيا ساعد في نزع فتيل الاتهامات الأمريكية بأن الحكومة الإثيوبية أصبحت سلطوية بشكل متزايد. وفي مذكرة أُرسلت إلى مكاتب الكونجرس، قالت شركة دي آل أي بايبر، التي مثلت إثيوبيا آنذاك، إن “مصطلحات السجناء السياسيين وسجناء الرأي غير محددة، وتسيء لعملية توصيف الوضع في إثيوبيا”، ويجب إزالتها من مشروع قانون يدين النظام الإثيوبي بسبب اعتقال نشطاء المعارضة. وها هي إدارة “آبي أحمد” تتبنى النهج نفسه للخروج من أزمتها الداخلية المتفاقمة، والقفز للأمام من خلال تحقيق انتصار في أزمة سد النهضة التي تعد مصيرية لكل من مصر والسودان. هذا هو منطق السياسة الكوربوراتية التي يحكمها منطق المال والمصالح وإن تعارضت مع قيم النزاهة والمسئولية.