لا تسعى إثيوبيا من وراء استراتيجية بناء السدود إلى تحقيق أهدافها التنموية فحسب، وإنما إلى بناء قاعدة جديدة للهيمنة المائية في نطاقها الإقليمي من خلال مبادلة المياه بالنفط. ليس ذلك سرًّا وإنما هو أمر دائم الحضور في عقل وفكر النخبة الحاكمة في أديس أبابا ومن يقف وراءها من القوى الدولية. عبّر عن ذلك صراحة أحد كبار المستشارين لرئيس الوزراء الراحل “ميليس زيناوي” بقوله: “إثيوبيا توفر الطاقة الكهربائية، والسودان توفر الغذاء، ومصر توفر المال”. ويمكن للمرء أن يُضيف إلى هذه العبارة حسب مقتضيات السياق الحالي، “وجنوب السودان توفر النفط”. وعليه، فإن محور التفكير الأيديولوجي لدى من يحكم في أديس أبابا هو اعتبار إثيوبيا “نافورة” مياه إفريقيا، وأن هذه المنحة الإلهية تجعلهم قادرين على مبادلتها بالنفط (الذهب الأسود). ومن الجدير بالذكر أن مسألة تسييس مياه النيل، وتوظيف المشروعات التنموية لتحقيق أغراض سياسية؛ ليست مسألة حديثة العهد، حيث ترجع إلى عصر الأباطرة الإثيوبيين الذين هددوا مصر بتحويل مجرى النهر، ووقف فيضانه. وفي العصر الحديث، حاولت الولايات المتحدة استخدام سلاح المياه للتأثير على الإرادة المصرية، ففي عام 1964، أجرى مكتب الاستصلاح الأمريكي دراسة نيابة عن حكومة إثيوبيا حددت 33 مشروعًا في حوض النيل الأزرق، كان أربعة منها مواقع محتملة على الحوض الرئيسي بما في ذلك سد المنطقة الحدودية الذي تغير اسمه ليصبح بعد ذلك سد النهضة الكبير.
“ميليس زيناوي” واستراتيجية السدود الكبرى
بدأت إثيوبيا منذ فترة حكم “ميليس زيناوي” حركة دءوبة في عملية بناء السدود الضخمة. وقد تمثلت الرواية الرسمية التي تبنتها النخبة الحكومية تحت تأثير رؤية رئيس الوزراء الراحل التنموية في أنه يمكن اجتثاث جذور الفقر والتخلص من عوامل “التخلف” الاجتماعي والاقتصادي بشكل حاسم من خلال استراتيجية بناء السدود الكبرى وتطوير البنية التحتية للطاقة. إذ يرى الإثيوبيون أن النيل الأزرق أو “أباي” باللغة الأمهرية -أبو الأنهار جميعًا- هو نهر إثيوبي خالص. وقد ادعى البعض أن نهر جيحون الوارد ذكره في الكتاب المقدس إنما هو ذلك النهر المحيط بأرض كوش في كل من النوبة وإثيوبيا. يعني ذلك أن ثمة توظيفًا للمسيحية للادعاء بالحقوق الإثيوبية التاريخية في نهر النيل. كما واكب تلك الحركة زيادة الاستثمار في القطاع الزراعي عن طريق التوسع في منح عقود إيجار الأراضي الزراعية للمستثمرين الأجانب (والتي ترتبط أحيانًا بمشروعات الري التي يتم تخطيطها في مرحلة بناء السدود).
ومن المعلوم أنه منذ انهيار نظام “منغستو هيلا مريام” في عام 1991 تم بناء أو توسيع السدود ومحطات الطاقة الكهرومائية بطريقة تلفت الانتباه، ومن ذلك: تنداهو، وتيكيزي، وتانا بليز، ومجموعة سدود جيبي على نهر جيبي أومو في جنوب غرب إثيوبيا. وقد تم الإعلان عن مجموعة السدود الإثيوبية الإضافية في خطة التنمية الرئيسية لعام 2003. كما قامت الحكومة الإثيوبية بحملة دعائية ممنهجة لدفع مجتمع المانحين والمؤسسات المالية العالمية لدعم هذه المشروعات ماليًّا وأيديولوجيًّا باعتبارها بمثابة الطريق السريع لنمو ونهضة إثيوبيا. ولعل من أبرز السدود التي أقرتها خطة 2003 سدود شيموجا ييدا (وهي تتألف من خمسة سدود صغيرة على روافد النيل الأزرق) وسدين على نهر جينالي، بين أوروميا والإقليم الصومالي، مع وجود خطة مستقبلية لبناء سدود أخرى. بيد أن أكبر هذه السدود على الإطلاق هو سد النهضة الكبير على النيل الأزرق الذي أعلن عنه في عام 2010، وبدأ العمل به في عام 2011 من خلال حملة حكومية لجمع “التبرعات” وشراء السندات الحكومية من قبل الجمهور (لا سيما موظفي الدولة، الذين اضطر العديد منهم إلى التبرع براتب شهر واحد).
وتؤكد مشاريع السدود الضخمة أهداف وسياسات النخبة الإثيوبية التي تحاول بسط هيمنتها بلا منازع على الصعيد الوطني والدولي. إذ قد يعني الاستثمار الضخم في مشروعات الطاقة والري للمثقفين الأفارقة في العقد المنصرم تجسيدًا لشعار الصعود الإفريقي، باعتبار أن إثيوبيا أضحت واحدة من أسرع الاقتصادات نموًّا في المنطقة. ومع ذلك، ينبغي للمرء أن يراقب التكاليف البشرية والمشكلات الاجتماعية والبيئية طويلة المدى التي قد ترتبط بهذه الاستراتيجية، والتي تم انتقادها وتوجيه العديد من تحذيرات الخبراء لها. إن أصحاب النظرة التفاؤلية بين تيار الأفارقة الجدد يركزون بشكل رئيسي على أرقام النمو الاقتصادي، وليس على العناصر البشرية أو الشفافية والمساءلة السياسية، أو مدى استدامة هذا النمو. ومع ذلك، تطرح السدود الضخمة في الخبرة الإثيوبية العديد من المشاكل التي يجب النظر فيها من خلال المنظور الكلي الشامل وليس من خلال الزاوية الاقتصادية الضيقة.
أبعاد سياسة السدود الإثيوبية
تتمثل رؤية “ميليس زيناوي” المتعلقة بشعار “إثيوبيا القوية”، في قيامها بتصدير الطاقة الكهرومائية إلى جيرانها في الشرق (جيبوتي، والصومال)، وفي الجنوب (كينيا، وأوغندا)، وفي الغرب (السودان). وتتوقع أديس أبابا أن تبيع ما لا يقل عن أربعة آلاف ميجاوات من الكهرباء للشركاء الإقليميين في العقد المقبل. ولا شك أن هذا الدور في الرؤية الإثيوبية يمثل مهمة هيدروليكية حقيقية يمكن من خلالها تغيير نظرة العالم لإثيوبيا، وتحويلها من دولة فقيرة تعتمد على المساعدات الخارجية، إلى دولة إقليمية رائدة ذات موارد حيوية بالنسبة للمنطقة بأسرها. وعلى أي حال ترتكز فلسفة التنمية الإثيوبية على بعدين أساسيين هما: إقامة السدود الكبرى، والاستثمار الضخم في القطاع الزراعي، وهو ما يعكس حقيقة أن الغرض الأساسي لهذه الفلسفة يتجاوز احتياجات المجتمعات المحلية من إنتاج الكهرباء وتنظيم حركة الفيضان أو توفير مياه الشرب لتحقيق مآرب أخرى تتعلق بإعادة الصياغة الجيوستراتيجية لمنطقة القرن الإفريقي.
ومن الملاحظ أن عملية بناء السدود تلك -كما ذكرنا- ترتبط بقضية الأراضي والاستثمار الأجنبي على نطاق واسع في القطاع الزراعي، لأن المياه التي يتم تجميعها في خزانات سدود جيبي -على سبيل المثال- سوف يتم استخدامها للري على نطاق واسع في الأراضي القريبة من السدود وفي بعض مناطق المصب، وهو ما قد يؤدي إلى استقدام عمال أجانب للزراعة. النقطة الأساسية هنا هي أن الحكومة الإثيوبية تمتلك دائمًا القدرة على تحريك السكان المحليين، وإبعادهم عن الأرض لجعلها “موردًا عامًّا على سبيل المشاع”. وينعكس هذا أيضًا في الترتيب القانوني في إثيوبيا: كل الأراضي لا تزال ملكًا للدولة، وليست ملكية خاصة؛ وهو الأمر الذي يجعل الحكومة الإثيوبية تسيطر بشكل كبير على تخصيص واستخدام الأراضي. أما المحرك التنموي الرئيسي الآخر الذي بدأ في عهد رئيس الوزراء “ميليس زيناوي” فهو بناء السدود. وقد انطوى على مضامين سياسية وأيديولوجية غير خافية. لقد تم إنشاء سدين من أكبر السدود في إفريقيا أثناء وجود “زيناوي” في منصبه (سد جيبي الثالث على نهر أومو الأدنى، وسد النهضة الإثيوبي الكبير على النيل الأزرق، المتاخم للسودان). وقد تم تمويل جيبي الثالث في البداية من قبل البنك الدولي وبنك الاستثمار الأوروبي، لكنهما انسحبا لاعتبارات سياسية وحقوقية ليحل الصينيون محلهما. ولعل ذلك يعكس المخاوف الدولية من عدم استكمال الدراسات الخاصة بالآثار الاجتماعية والفنية والبيئية لهذه السدود.
مخاطر وآثار السدود الإثيوبية
لقد كانت تكلفة بناء السدود وإعادة توزيع الأراضي في المجتمعات المحلية باهظة. طبقًا لبعض التقديرات قامت الحكومة بالتخطيط لإعادة توطين 1.5 مليون شخص في أربع مناطق هي: غامبيلا، وعفر، وصوماليا، وبني شنغول جوموز. وتقول المنظمات الحقوقية إن الكثير من حالات النزوح هذه لم تكن طوعية، حيث نُقلت بعض المجتمعات قسرًا من قراهم. ونظرًا لأن الاستراتيجية الحكومية في بناء السدود وتوزيع الأراضي تعتمد على القرارات الفوقية والتمويل الأجنبي، ولا سيما من الصين، فإنها تحررت من ضغوط المساءلة المحلية، ويمكنها التصرف بشكل مستقل سياسيًّا. ومع ذلك، هناك احتمال لحدوث توترات ليس فقط بين المجتمعات المحلية والدولة ولكن أيضًا على المستوى السياسي مع دول الجوار. ينقسم الرأي المحلي في إثيوبيا حول الحاجة إلى مثل هذا الاستثمار الضخم المولِّد للديون في هياكل الطاقة، حيث لا توجد حتى الآن شبكة وطنية كافية. بالإضافة إلى ذلك، في ضوء ما هو معروف عن آثار السدود الضخمة في جميع أنحاء العالم، فإن التكاليف الاجتماعية، بالإضافة إلى التوترات الجماعية، تترتب دومًا على عملية بناء السدود: إعادة التوطين القسري، وانخفاض جودة ورفاهية الحياة، وتفشي الأمراض المنقولة بالمياه، وفقدان الأراضي المنتجة والمدرة للدخل، وزيادة حدة التنافس الجماعي على الأراضي، ناهيك عن الخسائر الثقافية والتراثية. وعلى الرغم من وجود آثار مفيدة للسدود بالنسبة للسكان المحليين على المدى الطويل بالطبع، فإن المزايا الرئيسية ستكون أولًا وقبل كل شيء لصالح خزينة الدولة، حيث يتم بيع فائض الكهرباء المخطط لها من قبل الحكومة. بيد أنه لتحقيق استدامة هذا العائد ينبغي ضمان استمرار الدول المجاورة في شراء الطاقة الكهربائية خلال العقود القادمة، وكذلك استمرار هطول الأمطار على المرتفعات الإثيوبية بنفس المعدل، وأنه لن يتناقص مع مرور الوقت. وكلا الافتراضين يعبران عن إشكالية كبرى.
ولعل الأكثر بروزًا في النقاش العالمي هو أضرار سد جيبي الثالث الذي صُنف بأنه السد الأكثر إثارة للجدل في العالم. في البداية، رفض البنك الدولي والمانحون الدوليون تمويل السد بسبب غياب الشفافية، حتى إن عملية البناء بدأت أيضًا بدون ترخيص من وكالة حماية البيئة في إثيوبيا. ومنذ ذلك الحين كانت هناك شكاوى مستمرة حول الآثار البيئية والاجتماعية في مناطق المصب، بما في ذلك تهجير السكان الأصليين وتشريدهم. هناك أيضًا جدل حول بحيرة توركانا في كينيا. وذلك لأن نهر أومو، الذي بني عليه سد جيبي الثالث، يمثل حبل البحيرة السري. إذ يعتمد 90٪ من تدفق المياه إلى بحيرة توركانا على النهر، الذي ينقل المياه العذبة والمغذيات الحيوية (مثل النيتروجين) التي تدعم البحيرة، والتي توفر الفيضانات تحفيزًا لتكاثر مصائد الأسماك. وتعد بحيرة توركانا أيضًا أكبر بحيرة صحراوية في العالم، ولديها ثلاث حدائق وطنية تشكل معًا موقعًا للتراث العالمي. بسبب هذه المخاوف، طعن صندوق أصدقاء بحيرة توركانا في المشروع أمام المحاكم الكينية، لكن القضية توقفت. كما افتقر المشروع إلى التقييمات الاجتماعية والبيئية الكافية. والعجيب أنه تم إجراء تقييم الأثر البيئي والاجتماعي للسد بعد ثلاث سنوات من بدء البناء، لكنه لم يدرس تأثيره على الحدود في كينيا. كانت هناك جهود مستقلة من قبل الجهات المانحة الدولية، وهي بنك الاستثمار الأوروبي ومصرف التنمية الإفريقي، لتقييم آثار المشروع، بيد أن المانحين الصينيين الذين وافقوا على تمويل السد لم يقوموا بأي مراجعات بيئية أو اجتماعية مستقلة. وطبقًا لتقرير منظمة الأنهار الدولية الصادر عام 2013 والذي يستند إلى الأدلة التقنية والعلمية المستمدة من عقود من البحث عالي الجودة في وحول البحيرة من قبل المتخصصين المحليين والدوليين، فإن أضرار سد جيبي الثالث بعيدة المدى على بحيرة توركانا سوف تكون مشابهة لما حدث لبحر آرال في آسيا الوسطى، والذي يجسد واحدة من أسوأ الكوارث البيئية على مستوى العالم. كما حذرت لجنة التراث العالمي في عام 2019 من أن سد جيبي الثالث قد عطل بالفعل الأنماط الموسمية لبحيرة توركانا، وأن ذلك سيؤثر سلبًا على أعداد الأسماك وسبل العيش لمجتمعات الصيد المحلية. ونتيجة لذلك تقرر إدراج الموقع في قائمة التراث العالمي المعرض للخطر.
ومن جهة أخرى، فقد بدأت إثيوبيا بالتخطيط لتنمية مواردها المائية الخاصة في حوض جوبا–شابيلي المشترك مع كل من كينيا والصومال في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. ولا شك أن استراتيجية إثيوبيا الخاصة ببناء السدود وقدرتها على تطوير الحوض لإنتاج الطاقة الكهربائية ولأغراض الري سوف تؤثر سلبًا على جهود كينيا في تنمية مواردها المائية، بالإضافة إلى الإضرار بالأمن المائي الصومالي. إثيوبيا لديها خطتان رئيسيتان مختلفتان في إطار الحوض الأكبر لنهري جوبا-شابيلي، الأولى هي وابي شابيلي، والثانية جينال دوا، حيث تم وضع اللمسات الأخيرة عليهما في عامي 2005 و2007. وقد تم التخطيط لبناء تسعة سدود على طول جينالي داوا بسعة 1300 ميجاوات من الطاقة الكهرومائية بهدف تصديرها لدول الجوار. لقد كانت إثيوبيا على وعي بحقيقة اعتماد الصومال الاقتصادي على النهر القادم من أراضيها، وهو الأمر الذي دفعها إلى القول في عام 1957 بأن الاقتصاد الصومالي لن يكون قابلًا للحياة بمفرده لأنه مرتبط بقوة بإثيوبيا.
خاتمة
لقد ضربت إثيوبيا بالجوانب الفنية والعلمية المرتبطة بتبعات بناء السدود عرض الحائط، وهو ما أدى إلى انهيار بعض هذه السدود بعد افتتاحها. ويقدم سد النهضة الكبير نموذجًا على ذلك، حيث لم يتم الأخذ بدراسة الجدوى الاجتماعية والاقتصادية والبيئية، ودراسة سلامة السد، وهو الأمر الذي يمثل تهديدًا للمجتمعات المحلية داخل إثيوبيا ولدولتي المصب. ويبدو أن ثمة محاولة من النخبة الحاكمة لاستخدام استراتيجية بناء السدود الكبرى لتحقيق الهيمنة في الداخل وعلى صعيد الإقليم. وقد استطاعت الحكومة الإثيوبية بالفعل توظيف بعض الأساطير التأسيسية للأمة والقومية الإثيوبية لدعم تلك الأيديولوجيا. على سبيل المثال، يتم الترويج لمفاهيم “الاستثنائية الإثيوبية” ومعركة عدوة التاريخية التي تمجد الانتصار على الإيطاليين عام 1896. واستنادًا إلى تلك الرؤية وتحولات توازن القوى على الصعيدين الإقليمي والدولي ذهبت إثيوبيا بعيدًا في بناء السدود الكبرى التي تتجاوز احتياجاتها التنموية دون اعتبار لآثارها الضارة على المجتمعات المحلية ودول الجوار.