مثل المُراقبين والمُحلِّلين والكُتاب، أتابع يوميًا الكثير من أحوال البلاد والعباد في مصر وبقية الدنيا، وأحمد الله كثيرًا أنني أعيش زمنًا جميلًا أطالع فيه أخبارًا وقصصًا وروايات عن أحوال الدنيا والبشر. من الطبيعي أن قصة «الكورونا» طاغية على مدى الشهور الأخيرة لأنها تهديد شخصي من ناحية، ولأنها من ناحية باتت تهديدًا مصيريًا لمحاولة أخرى للتقدم فى بلادنا، التي عاشت أكثر من مائتي عام تبحث وتحاول وتجاهد من أجل تحقيق الحداثة والتقدم، ولكنها بعد خطوة أو خطوات تأتيها النكسة أو الهزيمة أو التراجع، الذي كان يأتي «سيزيف» في الأسطورة اليونانية القديمة كلما اقترب حاملًا الصخرة على كتفيه من قمة الجبل وساعة الوصول. لم يكن هناك مهرب من الفيروس التاجي، وكان طبيعيًا أن يلح التساؤل عما يجرى لدينا ولدى العالم؛ في العلوم الاجتماعية فإن المقارنة دائمًا من أهم وسائل البحث عن الحقيقة.
منذ البداية حلّلت معضلة الأرقام الخاصة بالإصابة بأنها لا يمكن أن تكون دقيقة في بلادنا ولا في بلاد أخرى، ففي كل بلاد العالم كان المرض يصل إلى ناس ولكنه سرعان ما يذهب دون أعراض، أو بأعراض قليلة وخافتة يأخذها الإنسان كما يُقال سائرًا على قدميه. ما شغلني دائمًا كان أمرين: أولهما عدد الوفيات لأنه في مصر يمكن التشكُّك في أي أمر إلا مَن واتتهم المنية لأن الأمر لابد فيه من شهادة بالوفاة، وتصريح بالدفن، والوثيقتان لابد منهما لإعلان الوراثة، وإيلاء الحقوق لأصحابها. وثانيهما كيف سندير الأزمة الصحية، بينما يظل مشروع بناء مصر قائمًا دون تراجع أو نكسة؟ الآن أجزم بأننا في كلا الأمرين أحرزنا نجاحًا كبيرًا لا يحتاج في إدراكه إلا المقارنة بسوابقنا في الوفاة خلال العام الماضي شهرًا بعد شهر، وسوف لا نجد صعودًا غير مسبوق أو حتى في الإجمالي العام. في التنمية حافظنا على الاستمرار في المسيرة، مُحقِّقين معدل النمو الأعلى بين دول المنطقة، وبارزًا بين الدول البازغة في العالم. تباطأنا قليلًا نعم حتى بات النمو 3.5%، بعد أن كان 5.6% في العام الماضي، ولكن الفائدة جاءت من دعم في القطاع الصحي، وخلال الشهور الثلاثة الأخيرة أخذ القطاع غير النفطي في استعادة صحته بصورة عامة، صاحبتها زيادة المبيعات والصادرات والقطاع الخاص والتشغيل.
تفسير المصريين لما حدث- بعد مشاهدة ما يجرى في الولايات المتحدة وحزمة غير قليلة من الدول المتقدمة (بريطانيا وفرنسا وإسبانيا والبرازيل وروسيا) وحزمة أخرى من الدول النامية (الهند)- يعود بنا فورًا إلى البركات المصرية الخاصة، التى جعلت من كنانة الله في أرضه «محروسة» بفضل المولى عزَّ وجلَّ وبركات أولياء الله الصالحين. ودون التقليل من شأن العنايات المقدسة، فإن الأصل فيها ما كان من هَبّة العمل والتنظيم والقدرة على اتخاذ قرارات الإغلاق والتقييد، والأخرى من قرارات الفتح والإباحة، والعمل في كل الأوقات عسرًا ويسرًا في تنفيذ ما ورد في الخطة من مشروعات عملاقة. المنشآت الكثيرة التي كان مقررًا افتتاحها في العام الحالي وتأجلت بسبب الجائحة كان تأجيلها فرصة لامتدادها إلى المناطق المحيطة بها، حتى عرفت المدن الكبرى والأقاليم دفعات إضافية من مشروعات البنية التحتية. القاهرة التراثية والإسكندرية التراثية أيضًا تخرجان من سباتهما العميق لكي تقفا جنبًا إلى جنب عرائس مدن أخرى في العلمين والجلالة والعاصمة الإدارية «طيبة» مصر الجديدة.
في يوم السادس من أكتوبر العظيم، تجمعت ثلاثة أخبار، كل منها له دلالاته الخاصة: أولها أن شركة «فولكس واجن» الألمانية للسيارات تسعى لعقد اتفاق مع المنظمة العربية للتصنيع لإنتاج سيارة «ميكروباص» تُدار بالغاز، وهكذا تسير جنبًا إلى جنب مع اتفاقيات أخرى لإنتاج سيارات كهربائية. وثانيها أن شركة «أباتشى» الأمريكية أبدت استعدادها لإنفاق 900 مليون دولار لاستكشاف وإنتاج النفط في الصحراء الغربية، وإذا عرفنا أن الشركة أنفقت 840 مليون دولار في العام الماضي، فسوف نعرف أن السياسة المصرية للطاقة تسير في الاتجاه الصحيح الخاص بحزمة إنتاج الطاقة من النفط والغاز والشمس والرياح، وقريبًا الطاقة النووية. وثالثها أن شركة جي بي مورجان قدمت فعلًا قسطًا بقدر 332 مليون دولار لإنشاء خطين من «المونوريل»، أحدهما يصل بين العاصمة الإدارية واستاد القاهرة، والثاني من محطة مترو شارع جامعة الدول العربية وحتى مدينة السادس من أكتوبر.
«المحروسة» في يوم نصرها بعبور قناة السويس كانت تعيش معركة عبور أخرى من الإخفاق إلى النجاح، ومن الركود إلى التنمية، ومن التخلف إلى التقدم. هناك عقبات هائلة ومتشككون نعم، ولكن القرار والعمل والعرق غزير.
ـــــــــــ