في السادس من ديسمبر 2019، قام المتدرب الملازم بسلاح الجو السعودي “محمد الشمري” (21 عامًا) بإطلاق النيران على عسكريين أمريكيين داخل قاعدةٍ جويةٍ في ولاية فلوريدا الأمريكية، نتج عنه مقتل ثلاثة عسكريين أمريكيين، قبل أن يتم قتله.
وطبقًا لصحيفة “وول ستريت جورنال”، استعان مطلق النيران بجهازين من طراز آيفون 5 وآيفون 7. وفي إطار التحقيقات التي يُجريها مكتب التحقيقات الفيدرالي، طلب المدعي العام “ويليام بار” من شركة آبل فتح الهاتفين المغلقين اللذين استخدمهما منفذ العملية، بغرض الكشف عن ملابسات الحادث؛ لكن الشركة رفضت ذلك، ما دفع “بار” إلى اتهامها بعدم التعاون أو تقديم أي مساعداتٍ جوهريةٍ في التحقيق. وفي خطوة أكثر تقدمًا، طالب الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” شركة آبل بتمكين السلطات من الوصول لبيانات الهاتفين. وقال “ترامب” في تغريدةٍ له في منتصف يناير 2020: “إننا نساعد آبل طوال الوقت فيما يتعلق بالتجارة وعددٍ من المشكلات الأخرى، ومع ذلك ترفض فتح الهواتف التي يستخدمها القتلة، وتجار المخدرات، ومرتكبو الجرائم العنيفة الأخرى”. وأضاف: “يتعين عليها بشكلٍ فوريٍ الوقوف معنا ومساعدة بلدنا العظيم”.
المساعدة التي يقصدها “ترامب” هي مفاوضات الشركة مع البيت الأبيض بشأن الإعفاءات من الرسوم الجمركية المقررة على البضائع المستوردة من الصين التي تضر بالشركة، والتي تصنع منتجاتها بشكل رئيسي في الصين. تبع ذلك قيام “ترامب” بشن هجوم جديد على شركة “آبل”، في ظل استفادتها من المساعدات الحكومية الأمريكية في خضم الحرب التجارية من ناحية، ورفضها التعاون مع المحققين من ناحيةٍ أخرى.
وفي كلمته في منتدى دافوس، صرح “ترامب” بأنه يجب على شركة “آبل” أن تساعد الشرطة في الوصول للبيانات المشفرة لهواتفها عند الحاجة، مشيرًا الى أن “الشركة تملك مفاتيح الوصول لعددٍ من المجرمين”. وتزامنت تصريحات ترامب مع إحياء مشروع قانونٍ أمريكي يسمح للسلطات بالوصول إلى المعلومات الخاصة في إطار التحقيقات.
موقف آبل
في المقابل، تتمسك “آبل” بسياستها لحماية خصوصية العملاء من خلال تشفير بيانات هواتفهم. وفي بيانٍ لها، دافعت الشركة عن نفسها ضد ادعاءات عدم تعاونها مع السلطات الأمريكية، لتؤكد استجابتها لطلباتها، وتقديمها كافة المعلومات المتاحة لديها، وإن أكدت أن منح الحكومات حق الوصول إلى أجهزتها هو أمر لا يمكن قبوله. وأفادت الشركة بعجزها عن الوصول للبيانات المشفرة برمز مرور والمخزنة على أجهزة الآيفون، لتؤكد عدم وجود أبواب خلفية أو نقاط وصول إضافية؛ فما يمكن تخصيصه لأغراضٍ صالحة، قد يستغل من جانب من يهددون الأمن القومي وبيانات العملاء أيضًا.
وبحسب الشركة، يسمح القانون الأمريكي الحالي للسلطات بالوصول إلى قدرٍ غير مسبوقٍ من البيانات. ولذا، يجب على الأمريكيين الاختيار بين إضعاف قدرة الشركة على التشفير من جانب، وإرضاء المحققين من جانبٍ آخر. ومن ثمّ، رفضت الشركة ادعاء المدعي العام بامتناعها عن تقديم أي مساعدةٍ جوهرية، وأكدت استجابتها لسبعة طلباتٍ قانونيةٍ منفصلةٍ من محققين فيدراليين ابتداءً من يوم إطلاق النار في شهر ديسمبر الماضي. كما رفضت التعليق على تغريدة الرئيس.
ويعكس موقف آبل مدى التزامها بمعايير صارمة للخصوصية، وهي السياسة المعلنة لجميع المستخدمين، والتي اعتمدت عليها بشكلٍ رئيسٍي في الترويج لمنتجاتها خلال السنوات الماضية. وفي هذا الإطار، وصف الرئيس التنفيذي للشركة “تيم كوك” الخصوصية بأنها حق إنساني أساسي، وأكد على ضرورة تقييد فرص الحكومات في الوصول للبيانات التي تجمعها الشركات من عملائها.
البدائل المتاحة
استطاع مكتب التحقيقات الفيدرالي في العام الماضي استخلاص البيانات من هاتفين من أحدث هواتف آبل دون مساعدتها؛ أولهما iPhone 11، وهو هاتف “ليف بارناس” المرتبط بـ”رودي جولياني” المتورط بقضية “أوكرانيا”. وثانيهما iPhone11 Pro Max، وهو هاتف “باريز كوش” الذي اتُّهم بمساعدة شقيقه المدان على الفرار من الولايات المتحدة وتضليل الشرطة. وعلى الرغم من نجاح أطرافٍ ثالثةٍ في فك تشفير هذين الجهازين، لا تزال هناك مطالبات أمنية لآبل للمساعدة في فتح هاتفين آخرين.
ووفقًا لخبراء أمن المعلومات، يمكن كسر تشفير هاتفي آيفون 7 وآيفون 5 من خلال شركتي Grayshift وCellebrite بكل سهولة؛ حيث تطور الأولى أداةً تصل قيمتها إلى 15 ألف دولار للاتصال بالهواتف وفتحها. أما الثانية فهي شركة إسرائيلية، سبق لها أن ساعدت المكتب الفيدرالي ووكالة ICE في الوصول لبيانات هواتف آيفون على مدار السنوات الماضية، وهو ما يطرح تساؤلات حول دوافع مكتب التحقيقات الفيدرالي من وراء مطالبة شركة آبل بمساعدتها في إنشاء أبوابٍ خلفية، وهو ما يمكن إرجاعه إلى رغبة الحكومة الأمريكية في توفير الوقت والمال. ففي عام 2016، أكد مدير مكتب التحقيقات الفيدرالي آنذاك “جيمس كومي”، أن الوكالة أنفقت مليون دولار لفتح جهاز المتهم في حادث سان بيرناردينو.
وفي عام 2019؛ استغرق مكتب التحقيقات الفيدرالي شهرين للوصول إلى محتويات هاتف iPhone 11 الخاص بـ”ليف بارناس”. وفي الوقت نفسه، قد تحتوي أجهزة المشتبه بهم على أدلةٍ مفيدة، وقد تخلو تمامًا منها. غير أن تلك الأسباب طبقًا للبعض لا تكفي لتقويض سياسة الخصوصية التي تُعد الميزة الأبرز والأهم التي تعتمد عليها شركة آبل للترويج لمنتجاتها، أو تقويض مصداقية الشركة أمام شركات التكنولوجيا الأخرى حال خضوعها لإرادة الحكومة الأمريكية.
أبرز الدلالات
يمثل الصراع بين آبل و”ترامب” الحلقة الأحدث في الصراع بين شركات التكنولوجيا العملاقة (مثل: آبل، وفيسبوك) من جهة، والسلطات الأمريكية والبيت الأبيض من جهةٍ ثانية. وهو الصراع الذي يعكس في جوهره الثنائية التي طالما ترددت في أدب الأمن السيبراني؛ بين خصوصية المستخدمين التي تدافع عنها شركات التكنولوجيا لحماية وضمان أمن المستخدمين من ناحية، والدواعي والمتطلبات الأمنية التي تدفع الأجهزة الأمنية على اختلافها لتجاوز تلك الخصوصية للكشف عن المعلومات والبيانات الضرورية واللازمة لسير التحقيقات من ناحيةٍ أخرى.
وتنشأ تلك الإشكالية جرّاء امتداد التمتع بالخصوصية إلى جميع المستخدمين، بما في ذلك الإرهابيون والمجرمون على حدّ سواء. ما يثير تساؤلات عن حدود الخصوصية وأين تبدأ؟ وأين تنتهي؟ وما هي ضوابطها؟ وما حدود تغول الحكومات عليها؟ ففي الوقت الذي تجادل فيه الشركات التكنولوجية بأهمية التشفير لحماية الخصوصية وأمن المستخدمين، يؤكد مسئولو إنفاذ القانون تداعيات ذلك على تهرب المجرمين من العدالة.
في هذا السياق، دعت وكالات إنفاذ القانون الشركات التقنية لتوفير وسيلة لكسر التشفير، وذلك على خلفية عددٍ من القضايا البارزة، مثل حادث إطلاق النار في عام 2015 في سان برناردينو بولاية كاليفورنيا وغيرها. فعلى خلفيته، لقي 14 شخصًا مصرعهم، وتعرض 22 آخرون لإصاباتٍ خطيرة. ومن ثم دخلت الشركة في صراعٍ مع الرئيس “ترامب”، بعد أن رفضت الأولى الكشف عن بيانات هاتف مُطلق الرصاص “الإرهابي”. وعلى إثر ذلك، لجأت الحكومة الأمريكية إلى شركةٍ أخرى بخلاف آبل، ودفعت لها مليون دولار لتطوير برمجيةٍ للوصول للبيانات التي تريدها لفتح الهاتف المقفل. وهو ما يسلط الضوء على الخلاف القائم بين الصناعات التكنولوجية ووكالات إنفاذ القانون حول العالم.
أهم التداعيات
وصف اتحاد الحريات المدنية الأمريكي مطلب “ترامب” بأنه “غير دستوري وخطير” في الوقت ذاته، لأنه سيُضعف من أمن ملايين الأجهزة من جهة، ويسمح للحكومات الأجنبية الاستبدادية بالوصول للاتصالات المشفرة من جهةٍ ثانية. وفي بيانٍ له، أكد اتحاد الحريات المدنية على دور التشفير المحكم في تمكين الأقليات الدينية التي تتعرض لخطر الإبادة الجماعية، وكذا الصحفيين الذين يحققون في عصابات المخدرات في المكسيك، من التواصل بأمان مع بعضهم بعضًا، ومصادرهم المطلعة، والعالم الخارجي.
وتستعد آبل لمعركةٍ قانونيةٍ محتملةٍ على خلفية موقفها الحالي، بعد أن توترت العلاقة بين الاستخبارات الأمريكية وشركة آبل. وحصل مكتب التحقيقات الفيدرالي على تفويض من المحكمة لتفتيش الهاتفين، وأرسل الجهازين إلى مختبره في كوانتيكو بولاية فرجينيا. كما طالب بمساعدة أجهزةٍ اتحاديةٍ أخرى وخبراء آخرين لفك الرقم السري للجهازين. وحاول المحققون تخمينه، إلا أن تلك الجهود لم تنجح بعد.
ولذا، من المحتمل أن نشهد مواجهة بين آبل والحكومة الأمريكية قريبًا؛ حيث تستعد آبل لخلافٍ قانوني مع وزارة العدل للدفاع عن التشفير، في حين تعمل الإدارة الأمريكية الحالية مع الكونجرس للتوصل إلى قانونٍ يضع الحدود بين السلامة العامة والأمن السيبراني.
تقارير الشفافية
في اتجاهٍ مضاد لما سبق، أصدرت شركة آبل تقريرها نصف السنوي الجديد للشفافية في 18 يناير 2020، ليتضمن تفاصيل تتعلق بعدد ونوعية طلبات الحكومة الأمريكية (وبعض الجهات الخاصة) للحصول على معلومات العملاء. ويأتي تقرير “آبل” السنوي، بعد انتقادات “ترامب” لرفضها السماح لحكومة الولايات المتحدة بالوصول إلى المعلومات المخزنة على أجهزة “آيفون”، التي يستخدمها القتلة، وتجار المخدرات، والعناصر الشديدة الإجرام.
وقد ورد في التقرير أن شركة آبل تلقت 3619 طلبًا من الحكومة الأمريكية منذ بداية عام 2019 للكشف عن حسابات عملائها، ما يعني زيادة النسبة إلى 36% مقارنة بالأشهر الستة الأخيرة من عام 2018. وطبقًا لآبل، تتلقى الشركة طلباتٍ للكشف عن حسابات العملاء عند الاشتباه في القيام بأنشطةٍ غير قانونية.
وعلى إثرها، تطلب الجهات الأمنية تفاصيل عن حسابات العملاء على “آي كلاود” icloud وأي تيونز iTunes، كالاسم، والعنوان، ومحتوى الآي كلاود، مثل: التقويمات، وجهات الاتصال، والصور المخزنة، والبريد الإلكتروني، وغير ذلك. وقد استجابت آبل لما يزيد عن 90% من تلك الطلبات ليشمل ذلك الكشف أكثر من 15301 حساب للعملاء. إذ يشير تقرير الشفافية إلى استجابة شركة آبل بشكلٍ عامٍ وإلى حدّ كبير لطلبات الحكومة الأمريكية للحصول على المعلومات، دون أن يعني ذلك بالضرورة الاستجابة لها جميعًا.ختامًا، يتأجج الصدام بين الشركات التكنولوجية الأمريكية والأجهزة الأمنية الأمريكية، في صدامٍ بين التكنولوجي والسياسي من جانب، والخصوصية والأمن القومي من جانبٍ آخر، والضوابط اللازمة لحماية البيانات وتغول الحكومات عليها من جانبٍ ثالث. وجدير بالذكر أن الضغوط التي تواجهها شركات التكنولوجيا في سبيلها للتصاعد بآلياتٍ وسبلٍ قانونية يصعب التنصل منها؛ فدون تقديم المعلومات اللازمة للتحقيقات الجنائية، يمكن ببساطة سن تشريعاتٍ قانونية تُلزم الشركات التكنولوجية بخرق التشفير في حالاتٍ بعينها، وهو ما سبق لمجلس الشيوخ الأمريكي أن لوح به، وما تمضي الحكومة الأمريكية قدمًا في سبيل تحقيقه.