تاريخيا ظل هناك توافق داخل الولايات المتحدة، وداخل المدارس الأمريكية المختلفة في السياسة الخارجية، حول أهمية نشر الديمقراطية في الخارج، سواء انطلاقا من مسئولية سياسية وأخلاقية عالمية للولايات المتحدة تجاه العالم الخارجي، أو انطلاقا من وجود علاقة مباشرة بين انتشار الديمقراطيات في العالم، وتعزيز الأمن القومي الأمريكي.
تطور في هذا السياق مدرستان أساسيتان. المدرسة الأولى، تقول بأن نشر الديمقراطية في الخارج يجب أن يكون من خلال قوة النموذج الذي تقدمه الولايات المتحدة للعالم الخارجي، وتُعرَفْ بمدرسة المثالية الليبرالية Liberal Exemplarism. ويدعو هؤلاء إلى التركيز على تقليل الفجوة بين الفكر السياسي الديمقراطي والليبرالي الأمريكي من ناحية، والممارسات الفعلية للمؤسسات السياسية الأمريكية من ناحية أخرى، بهدف تقديم نموذج لنظام سياسي- ليبرالي حقيقي مُلْهِمْ للعالم. ويعارض أنصار هذه المدرسة استخدام القوة العسكرية لنشر الديمقراطية، بل يرون أن استخدام هذه القوة قد يُضْعِفْ من جاذبية هذا النموذج، كما قد يؤدي إلى إفساد قيم وممارسات الليبرالية داخل الولايات المتحدة نفسها. بمعنى آخر، يرى هؤلاء أن نشر الديمقراطية في الخارج هي عملية طوعية تتحقق تلقائيا نتيجة القوة السياسية والأخلاقية للنموذج الديمقراطي الذي تقدمه الولايات المتحدة للعالم الخارجي، وليس من خلال استخدام القوة أو الأدوات الإكراهية لفرض هذا النموذج على الآخرين. وتستند هذه المدرسة إلى افتراض رشادة المجتمعات الخارجية، واتجاهها طوعا إلى محاكاة النماذج الديمقراطية الناجحة. ويُرْجِعْ البعض جذور هذه المدرسة إلى كتابات جون كوينسي آدمس في بدايات القرن التاسع عشر، وجورج كينان خلال النصف الأول من القرن العشرين.
المدرسة الثانية، تقول إن الولايات المتحدة يجب أن تتخطى مسألة الاعتماد على قوة وجاذبية النموذج إلى القيام بإجراءات محددة خارج حدودها لنشر الديمقراطية داخل الدول والمجتمعات غير الليبرالية، بما في ذلك استخدام القوة العسكرية إذا اقتضت الضرورة ذلك، وتُعرف بمدرسة النشاط الليبرالي Liberal Activism. وترفض هذه المدرسة دقة الافتراض بميل الدول والمجتمعات غير الديمقراطية إلى محاكاة النماذج الديمقراطية الناجحة، إذ ترى في هذا الافتراض نوعا من المثالية غير الواقعية. ويُرْجِعْ البعض جذور هذه المدرسة إلى الرئيس ودرو ويلسون. وقد اكتسبت هذه المدرسة رواجا عقب أحداث سبتمبر 2001، حيث عاد الربط بقوة، خلال إدارة بوش الابن الجمهورية، بين نشر الديمقراطية في الخارج – بما في ذلك عبر التدخل العسكري- كأداة وشرط ضروري للقضاء على الإرهاب وحماية الأمن القومي الأمريكي. وامتد الأمر إلى إدارة أوباما الديمقراطية التي انطلقت من الافتراض نفسه، ثم جاء ما عُرِفَ بأحداث الربيع العربي لتمثل فرصة لتطويرها لهذا الافتراض من خلال سعيها لتمكين ما وُصِفَ آنذاك بالإسلام السياسي المعتدل، بدعوى أن هذا التمكين يمثل شرطا إضافيا وضروريا لإنهاء ظاهرة الإرهاب والإسلام الراديكالي القادم من الشرق الأوسط.
المدرستان باتتا تعانيان أزمة كبيرة. الأولى، لم تعد تجد ما يؤيدها في الداخل الأمريكي، على خلفية الأزمة الكبيرة التي بات يعانيها النموذج الديمقراطي الأمريكي، بدءا من تدهور لغة الخطاب السياسي المرتبط بالمنافسة السياسية، وانتهاء بوجود شكوك حول التداول السلمي للسلطة، باعتباره القيمة العليا في النظم والثقافة الديمقراطية، ومرورا بتصاعد عدد من الظواهر التي تمثل تهديدا خطيرا للنموذج، كالتمييز العنصري والتشكيك في جدارة النظام الفيدرالي.. إلخ. التطورات التي شهدها المجتمع الأمريكي خلال السنوات الأربع الأخيرة، والتي شهدتها الانتخابات الراهنة ستفتح المجال أمام تراجع الولايات المتحدة على مؤشرات قياس الديمقراطية.
الأمر ذاته فيما يتعلق بمدرسة النشاط الليبرالي التي وقعت في أخطاء كبيرة عندما افترضت قابلية الديمقراطية للنقل والتصدير إلى العالم الخارجي، وأنه يمكن فرضها حتى ولو بالقوة العسكرية. لقد غفل أنصار هذه المدرسة أن الديمقراطية ليست مجرد مجموعة من الأدوات التي يمكن نقلها من مجتمع إلى آخر بعيدا عن المكون أو المحتوى الثقافي والفلسفي. بل إنهم لم يقبلوا في بعض الحالات إمكانية وجود طَبْعَاتْ أو نُسَخْ مختلفة من الديمقراطية حسب البيئات الثقافية والاجتماعية المحلية (حالة أفغانستان مثال صارخ على كل ذلك). كما وقعوا في أخطاء أكثر خطورة خلال مرحلة أوباما عندما افترضوا وجود حدود فاصلة – فكريا أو تنظيميا- بين إسلام سياسي معتدل وآخر راديكالي، أو أنه يمكن تعزيز هذه الحدود من الناحية العملية. ولم يقتصر هذا الخطأ على إدارة أوباما لكنه امتد إلى إدارة ترامب أيضا عندما افترضت أن هناك طبعة أخرى من طالبان أفغانستان تختلف عن طبعتها الأولى (مرحلة ما قبل سبتمبر 2001)، يمكن الدخول معها في سلام مستدام ودمجها في الحياة السياسية لبناء نظام سياسي مستقر.
سيقع الديمقراطيون – إذا وصلوا إلى البيت الأبيض- في خطأ كبير إذا حولوا قضية نشر الديمقراطية إلى قضية مركزية في علاقاتهم مع العالم الخارجي. لا حالة النموذج الديمقراطي الأمريكي تسمح بذلك، ولا الخبرة العملية الأمريكية لنشر الديمقراطية في الخارج تدعم ذلك، ولا طبيعة التحديات التي تواجه النظام العالمي والأمن القومي الأمريكي تبرر ذلك.