فى الساعات الأخيرة من يوم 23 أكتوبر، ومع كلمات خطّها مستشار الرئيس المصري للأمن القومي، السيد حافظ إسماعيل، قدّر فيها أن معركة السويس، التي كانت على وشك البدء حينئذ، هي معركة «شعب مصر» يقرر فيها مصير الحرب ومصيره معها. كان على الجانب الآخر القوات العسكرية الإسرائيلية المتقدمة تجاه مدينة السويس، التي حرصت على أن تصطحب معها عدداً كبيراً من المراسلين الحربيين الإسرائيليين، فضلاً عن مراسلي الوكالات الدولية للأنباء، لضمان بث واسع لأخبار الاستيلاء على المدينة، في ساعات الحرب الأخيرة، مما سيضفي حتماً بظلال كثيفة على نتائج الحرب النهائية.
بدأت أحداث يوم المعركة العظيم، 24 أكتوبر، بقصف جوى مكثف على المدينة قبيل السادسة صباحاً بدقائق، تركز معظمه على منطقة «الزيتية» وعلى الحزام المحيط بالمناطق الزراعية المتاخمة للمدينة، ومن ثم بدأت المدفعية الإسرائيلية تشارك سلاح الجو في استهداف مناطق وسط السويس، في الموجة الثانية للهجوم التي لم تتأخر طويلاً عن الأولى، حيث جاءت بغرض إحداث أكبر قدر من الخسائر المادية المباشرة، للوصول إلى ضرب الروح المعنوية على نطاق واسع للموجودين بالمدينة. في حين رصدت القوات المصرية وعناصر المقاومة أمراً مهماً؛ أن مداخل السويس الثلاثة من الشمال والجنوب والغرب لم تستهدف من قبَل هذا القصف المزدوج، وكما هو معلوم تمثل هذه المداخل المحاور الثلاثة الرئيسية للمدينة. فالمحور الشمالي هو محور الجناين عبر الطريق القادم من الإسماعيلية، ومنه إلى ميدان الأربعين. أما المحور الجنوبي فهو محور الزيتية عبر طريق الأدبية وعتاقة بمحاذاة الشاطئ، وصولاً إلى بورتوفيق، ويبقى المحور الغربي الأخير وهو محور المثلث الذي يستقبل القادم من طريق القاهرة السويس، ليصب هو الآخر في ميدان الأربعين.
توزعت الكمائن سريعاً على هذه المحاور الثلاثة، بعد أن تأكد الموجودون بالمدينة أن عدم قصف هذه المحاور يعنى أن القوات الإسرائيلية ستستخدم منها محوراً أو أكثر بحسب مجريات الأمور. ضمت هذه الكمائن خليطاً من جنود القوات المسلحة وأفراد منظمة سيناء ورجال الشرطة وموظفي الحكومة، وعدداً غير قليل ومتنوعاً من الأهالي والفلاحين وعمال البترول الذين لجأوا للاحتماء بالمدينة من بداية حرب أكتوبر. واختير للكمائن أماكن حاكمة وفق القراءة الميدانية للهجوم المتوقع، فكان هناك كمين رئيسي عند «كوبرى الهويس» وفى محيطه مجموعة من الكمائن الفرعية، وآخر رئيسي وجد في «مزلقان البراجيلى»، وبالقرب منه كمين في ميدان «الأربعين»، ثم تقرر وضع كمين بالقرب من مزلقان السكة الحديد بجوار مقابر الشهداء، خشية أن تقوم الآليات الإسرائيلية بعملية تطويق لميدان الأربعين. بعد أقل من ساعة، وبعد توزيع الأفراد على الكمائن التي أعدت على عجل، وتسلحت بالأسلحة الخفيفة التي لم تتجاوز الرشاشات الآلية والـ«آر بى جى» توزع المئات من الباقين والقادرين على القتال وخدمة من يحمل السلاح، في المنازل الممتدة بطول محاور المدينة الثلاثة، وبالأخص المحور الغربي (المثلث الأربعين) الذى قدّر الموجودون بأنه سيكون طريق الهجوم الرئيسي.
جاءت الخطة الإسرائيلية كما توقعوا، فقبل العاشرة من صباح هذا اليوم تقدمت القوات الإسرائيلية من المحاور الثلاثة فى توقيت واحد، من أجل إرباك الموجودين داخل المدينة وتشتيت انتباههم واستعداداتهم. وبدأ التقدم الذى نفذته الكتيبة الإسرائيلية التابعة للواء المدرع الذى يقوده العقيد «آرييه»، من محور «الجناين» الشمالى متوجهة إلى «كوبرى الهويس» لعبوره فى الطريق لميدان الأربعين، لتتصدى له القوة الموجودة بالكمين وتصيب الدبابات الإسرائيلية الأولى قبل أن تدور معركة شرسة، حاولت فيها الكتيبة الإسرائيلية الاختراق بإجراء أكثر من مناورة، أفشلتها القوة العسكرية المصرية، صحبة الأهالى المشاركين، بصمود بطولى دفع الكتيبة للتراجع، وحرم اللواء المدرع من تنفيذ أى محاولات أخرى للدخول عبر هذا المحور. بعد وقت قليل من هذه المعركة تكشّف أن المجهود الرئيسى للهجوم تنفذه القوات الإسرائيلية عبر المحورين الجنوبى والغربى فى آن واحد، فالقوة المدرعة الموجودة عند «الزيتية» بدأت فى التقدم مدعومة بكتيبة مظليين، وتقسّم التقدم على ثلاث موجات متتابعة مكونة من (8 دبابات) تتبع كل دبابة عربتان مصفحتان، وتركت هذه الموجات لتتقدم كى تصل إلى العرين فى قلب المدينة. حيث بدت المدينة أثناء هذا التقدم وكأنها فارغة تماماً من السكان والأصوات، حتى إن الاتصالات التى جرت بين القوة ومركز العمليات الإسرائيلى وصفت المدينة، على طول المحور الذى يخترق المدينة بالكامل من المثلث وحتى بورتوفيق، بكونها «مدينة أشباح»، فى وقت كانت الآذان المصرية تتسمع هذه الإشارات المتبادلة، وتراقب الكمين الكبير الذى نصبته المدينة بكاملها لقوة الهجوم الإسرائيلية، فالاستدراج هو المرحلة الأولى من الخطة، ويبقى الرهان على المرحلة الثانية التى ستمثل كلمة النهاية إما النصر أو احتلال المدينة.
عندما بدأت الدبابات والآليات الإسرائيلية وحاملات المظليين من قوات النخبة الوصول إلى ميدان الأربعين والبقية تتقدم لتلحق بهم، من الطريق الذى يمر أمام قسم شرطة الأربعين، انقلبت المدينة فى لحظات إلى موجات من الأشباح البشرية تخرج من كل مكان، لتمطر القوة الإسرائيلية بالرصاص وبقذائف الـ«آر بى جى» من كل اتجاه. لتتعطل الدبابات فى أقوال السير التى ظلت تتقدم إلى أن سقطت فى هذا الشرك المحكم، وتحاول الأخرى الالتفاف للعودة من حيث أتت فلا تستطيع، وعندما وصلت للقوة الإسرائيلية المهاجمة التعليمات بترك الآليات والاحتماء بأحد المبانى، كان هذا إيذاناً ببدء معركة قسم شرطة الأربعين، التى أبلى فيها أبطال قوات الدفاع الشعبى أداءً بطولياً كبّد الإسرائيليين فيها خسائر فادحة، وتبعثرت قوات النخبة وقائدو الدبابات هرباً من شراسة القتال المصرى، الذى لم يقف عند حد صد الهجوم بل انقلب لقتال ضارٍ، سقط فيه من الشهداء الأبطال من دافع عن مدينته بل وعن الشرف الوطنى لمصر بأكملها، ما جعل أسماءهم تُكتب بحروف من نور فى ذاكرة تاريخ الوطن، الذى سيظل مرفوع الراية بهؤلاء الجنود وبأبطال المقاومة والدفاع الشعبى الخالدين.